بعد هدنة مؤقتة تواصلت علي مدي ثلاثة أشهر، اشتعلت الحرب التجارية مرة أخري بين الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، خاصة ما يطلق عليه بحروب الطيران. وكانت الولاياتالمتحدة قد قدمت شكوي إلي منظمة التجارة العالمية تتهم فيها الاتحاد الأوروبي بتقديم دعم كبير لشركة إيرباص Airbuse مما يتناقض مع قوانين التجارة الدولية، بينما تقدم الاتحاد الأوروبي من خلال المفوضية التجارية في بروكسل إلي المنظمة الدولية بشكوي مماثلة يتهم فيها الولاياتالمتحدة بخرق القواعد المنظمة للتجارة الدولية وتقديم دعم مباشر وغير مباشر لشركة بوينج Boeing. وكانت الحروب التجارية خاصة حرب الطيران قد اشتدت في العامين الأخيرين بين الشركتين الأساسيتين اللتين تقومان بإنتاج أكثر من نصف الطائرات المدنية لنقل الركاب والبضائع في العالم وهما الإيرباص الأوروبية والبوينج الأمريكية. وكان هذا الصراع موجوداً حتي قبل إنشاء منظمة التجارة العالمية في أواسط التسعينيات، صراع علي الأسواق، وصراع علي الركاب وصراع علي المبيعات وكانت شركة بوينج الأمريكية متفوقة نسبياً طوال حقبة التسعينيات من القرن الماضي خاصة بعد أن أوقفت أوروبا إنتاج طائرة الكونكورد العملاقة لأسباب اقتصادية، ولكن المؤشرات مع نهاية التسعينيات والسنوات الأولي من القرن الواحد والعشرين حتي سنة 2004 بدأت تميل لصالح الشركة الأوروبية. وبالرغم من النكسة المؤقتة التي أجرتها أحداث سبتمبر 2001 علي سوق الطيران العالمي سواء بالنسبة لعدد الركاب المسافرين أم عدد الرحلات أم مبيعات الطائرات، إلا أن بداية 2004 شهدت ازدهاراً في الحالات الثلاث. ولأول مرة منذ ضرب مركز التجارة العالمي في نيويورك تعود نسبة ركاب الطائرات إلي ما كانت عليه قبل ذلك التاريخ بل وتزيد بشكل واضح. ولأول مرة أيضاً يجري سباق عالمي حول شراء طائرات مدنية للنقل بهذه الصورة الكبيرة، فقد أعلنت شركة الإيرباص الأوروبية أنها تلقت طلبات تقدر ب 200 طلب لشراء طائراتها A350 ويقدر ثمنها بحوالي 19 مليار دولار، كما أنها تلقت عروضاً لحجز 130 طائرة من طائراتها العملاقة A380 تلك الطائرة التي تكلفت ما بين 250 و280 مليون دولار وتحمل 550 راكباً لمسافات طويلة. بينما أعلنت بوينج الأمريكية أنها تلقت 170 طلباً لحجز طائراتها الجديدة 787 والتي تحمل ما بين 200 و250 راكباً وقد استعرضت الشركة هذه الطائرة مؤخراً في رحلة بلا توقف بين هونج كونج إلي لندن، وتقدر الأوساط المهتمة بمبيعات الطائرات المدنية أن شركة بوينج وقعت هذا العام عقود بيع لحوالي 700 طائرة تسلم في السنوات القادمة، أما الإيرباص فقد حصلت علي 500 عقد خلال نفس الفترة. ولعل المثير أن الزبون الرئيسي الذي أثار حمية معارك الطيران الأخيرة بين الإيرباص والبوينج هي دول الخليج خاصة دولة الإمارات العربية التي تقدمت بعروض مشجعة لشراء 23 طائرة بوينج من الطراز الجديد، بينما وقعت عقد الشراء 45 طائرة إيرباص أيضاً من الطراز الجديد وبتكلفة إجمالية قدرها 20 مليار دولار، وكان معرض دبي للطائرات الذي عقد في الأسبوع الماضي قد تحول إلي ساحة لمعارك شرائية وعروض حقيقية فاقت ما جري في معرض باريس في يونيو من هذا العام. وبينما تشترك طائرات حلف الأطلنطي القائم علي ضفتي المحيط في القيام بمهام مشتركة تجمع بين الطائرات الحربية الفرنسية والألمانية والأمريكية إلا أن الطائرات المدنية وطائرات الركاب والنقل والبضائع تدخل صراعاً بل وحروباً لكسب الأسواق والمسافرين. كذلك بينما تتوحد العقيدة العسكرية لحلف الأطلنطي بأطرافه الأوروبية والأمريكية وهي عقيدة الذراع الطويلة والضربات الجوية المكثفة مثلما فعلت في يوغوسلافيا وأفغانستان إلا أن العقيدة بالنسبة للطيران المدني تختلف بل وتتصارع. وتقوم عقيدة شركة بوينج الأمريكية في إنتاجها المدني علي تكثيف خطوط ورحلات الطيران بين المدن والعواصم القارية الأساسية وذلك من خلال طائرات متوسطة الحجم، أما فلسفة وعقيدة الإيرباص الأوروبية فتقوم علي الربط بين القارات الأمر الذي يحتاج إلي طائرات كبيرة عملاقة ومسافات واسعة، وتعتبر الطائرة A380 وهي حفيدة الكونكورد وهي أحدث صيحة أوروبية في هذا المجال وستطير لأول مرة سنة 2006 لتربط بين عواصم القارات طوكيو سيدني بكين باريس نيويورك ريودي جانيرو. والواقع أن المناوشات بل الحروب التجارية لم تتوقف يوماً بين العملاقين الاقتصاديين، حتي بعد إنشاء منظمة التجارة الدولية سنة ،1994 تلك المنظمة التي ساهم في إنشائها وبشكل رئيسي أمريكا والاتحاد الأوروبي واليابان، وبعد جولات طويلة امتدت لسنوات لمؤتمرات الجات. فهناك حرب المحاصيل الزراعية والتنافس الشديد علي كسب الأسواق خاصة بعد أن قررت المفوضية الأوروبية التجارية حظر استيراد الأغذية المعالجة بيولوجياً أو ما يسمي بغذاء فرانكشين وهو الأسلوب السائد في صناعة الأغذية الأمريكية. وهناك أيضاً معارك ومناوشات الصلب، وحرب الموز التي نشبت بين دول الاتحاد الأوروبي ودول النافتا الأمريكية، وتقول سجلات منظمة التجارة الدولية التي أصبحت تسيطر علي سوق التجارة العالمية منذ سنة 1995 أن هناك أكثر من 170 صراعاً تجارياً منذ ذلك التاريخ تحول بعضها إلي حروب تجارية طاحنة ومعظمها من الدول الغنية والكبيرة التي صاغت ووضعت الأسس التي تقوم عليها منظمة التجارة العالمية. ومعني ذلك أن منظمة التجارة العالمية WTO التي اعتبرت تجسيداً وانتصاراً لمبادئ الليبرالية التجارية، وبالرغم من التحفظات القوية والعادلة لكثير من دول الجنوب التي امتدت مصالحها بشكل واضح، فان الذي ينهك قوانين التجارة العالمية وتخرج علي قواعدها هم أنفسهم اللاعبون الكبار الذين وضعوا قوانينها. ولا أحد يستطيع أن يخمن مع استمرار الحروب التجارية الطاحنة بين الدول الكبري المسيطرة علي التجارة العالمية وتهميش دول الجنوب ماذا يمكن أن تسفر عنه تلك الحروب التجارية خاصة حروب الطيران. وهل سيؤدي ذلك إلي استقرار اقتصادي وسياسي عالمي أم أنه سيؤدي إلي كوارث حقيقية. ولا يجب أن ننسي أن الحروب التجارية كانت دائماً مقدمة للحروب الساخنة والمدمرة.