عندما عُينت في ديسمبر 1966 مديرا لقصر الثقافة بكفر الشيخ قبل أن تكون لدي أي خلفية عن واقعها السياسي أو الطبقي، سمعت اسمه يتردد همسا وفي غموض بين شباب المثقفين الذين اجتذبهم القصر كالفراشات، وارتبطوا برسالة الثقافة والتنوير، وعلمت أنه كان مستهدفا من صقور «الاتحاد الاشتراكي» المتحصنين بمناصبهم والمتكسبين بشعارات الثورة والمتربصين بكل ما يبدو من وعي اشتراكي حقيقي، ولهذا فهو الآن في المعتقل منذ شهور مع عدد من المثقفين اليساريين من دسوق والقاهرة، من بينهم الشاعران عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب والروائي جمال الغيطاني، ودهشت كيف جمعت أجهزة أمن النظام بين ناشطي البلدين.. ومع ذلك كان له حضور طاغ وهالة روحية تخيم علي الشباب المتحمسين للعمل الثقافي بمنظور تقدمي ينحاز إلي الكادحين، ويقف في مواجهة الانتهازيين من المنتفعين «بالتنظيم الأوحد» المسيطر علي كل شيء.. كانوا يطلقون عليه «الحكيم» كطبيب نابه يعالج الفقراء بما يقرب من المجان، ويدافع عن حقوق الفلاحين ويجعل من بيته في دسوق دوارا ثقافيا يؤمه الشباب الطموح للمشاركة في التغيير، بالرغم من انطلاقه من خلفية ناصرية ممزوجة بالماركسية. الإقطاعيون المعتدلون وازدادت معرفتي به قبل أن أراه من صديقي ورفيق كفاحه د. جلال رجب المحامي ذائع الصيت في كفر الشيخ، الذي سرعان ما انعقدت أواصر الصداقة بيننا وأصبح وجها بارزا في ندوات قصر الثقافة، ومن خلفه تهرول – بالطبع – أشباح «البصاصين» الذين كان من السهل التعرف عليهم من النظرة الأولي، لكن الأنشطة الثقافية التي انغمسنا فيها، من مسرحية وسينمائية وشعرية وموسيقية وغنائية وغيرها، لم تكن تسمح لهم بتوجيه اتهامات سياسية مباشرة إلينا في تقاريرهم الأمنية مما يجعلهم في موقف صعب أمام رؤسائهم! وفي شهر مايو 67 – علي ما أذكر – رأيت د. علي النويجي لأول مرة.. جاء إلي القصر لحضور إحدي الندوات بعد أن تم الإفراج عنه وعن رفاقه عندما لاحت في الأفق أجواء المعركة مع إسرائيل.. كنت قد اكتسبت معرفة عميقة بواقع كفر الشيخ خاصة في قراها المسربلة بالبؤس والتخلف والحرمان من أبسط حقوق المواطنة، وبالفلاحين الفقراء ممن أسعدهم الزمان بالحصول علي بعض الأفدنة إثر تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي، ورأيت الأجراء المعدمين يتقاضون أقداحا من الأرز أو القمح مقابل عملهم وشقائهم في أراضي كبار الملاك، أو «الإقطاعيين المعتدلين» بعد ثورة يوليو حتي وهم يرددون شعاراتها الاشتراكية، وسرعان ما توطدت الصداقة بيني وبين الرجل الذي كان أصغر من أبي وأكبر من أخي.. ولم يكن جوهر العلاقة فكريا ونضاليا فحسب، بل كان إنسانيا قبل كل شيء مثل شأنه مع الجميع.. فمنذ اللحظة الأولي تشعر بأنه أخوك الأكبر، وأنه الراعي المسئول عنك في غربتك فيحيطك بكل الحنان، وأنه قادر علي اختراق أي حاجز إنساني مع من حوله، كالمغناطيس الجاذب لقلوبهم، بضحكته المدوية الصافية وروحه المرحة وظُرفه غير العادي ونكتته الحاضرة دائما، ثم بقوة منطقه عند المناقشة وقدرته علي الإمساك بخيوط أعقد الموضوعات، وكنت أعجب كيف يجد الوقت ليقرأ في كل فروع المعرفة والأدب «وكان حافظا جيدا للشعر»، ومتي يكتب دراساته وأبحاثه الميدانية عن واقع الريف المصري، ليس في كفر الشيخ فحسب بل في مصر عامة، وكيف يوازن بين عمله في عيادته كطبيب لامع وبين لقاءاته وندواته ومنتدياته وعلاقاته السياسية بالقاهرة، بل كثيرا ما كانت سيارته الصغيرة «الفيات» تتكدس بشباب الناشطين السياسيين من أبناء دسوق يحملهم معه إلي قصر الثقافة لحضور ندوة أو فيلم أو عرض مسرحي، ونظل جميعا في نقاش مثمر قد يستمر إلي ساعة متأخرة من الليل، ليعود بكتيبته من الشباب إلي دسوق، وهو يعرف أن عليه الاستيقاظ مبكرا في الصباح لإجراء عملية! ديناميكية هائلة وفهمت لماذا ربطت أواصر الصداقة بينه وبين كثير من المبدعين في الشعر والأدب والفن، لمست ذلك بشدة في علاقته بأعضاء الفرقة المسرحية بكفر الشيخ وبالشاعر محمد عفيفي مطر خلال فترة عمله مدرسا بقري المحافظة، وأظن أن الأبنودي وحجاب والغيطاني كانوا محظوظين حين قضوا معه في السجن قرابة تسعة أشهر، ولهذا لم يكن صديقاي الشاعران ينقطعان عن زيارته في دسوق وقضاء أيام معه بين الحين والآخر.. كان قلبه شديد الاتساع مليئا «بأنزيمات الحب»، لهذا كان قادرا علي احتضان كل الناس، وكان هذا هو معني الوطن عنده.. وبينما كانت هزيمة 67 تنهش صدورنا وتحبط أحلامنا وتشل إرادتنا – نحن الشباب في العشرينيات من أعمارنا – كان النويجي لا يكف عن العمل وعن الدعم المعنوي لنا، كان طاقة ديناميكية هائلة ومُعدية لمن حوله، حتي لمن دفعته الظروف المظلمة إلي الاكتئاب، فتتفتح مسام روحه وتزهر بالأمل والحيوية. كنت شابا في السابعة والعشرين، وضعتني الظروف في الصف الأمامي لمعركة طاحنة مع نظام سياسي فاسد ومتجبر في كفر الشيخ: رجال الاتحاد الاشتراكي المعادون للاشتراكية وخلفهم بقايا النظام القديم.. جهاز أمني متربص يري في تنوير الشعب انقلابا علي الحكم.. محافظ ذو تاريخ استخباراتي رهيب لم تزل يده ملطخة بدم شهيد كمشيش صلاح حسين بالمنوفية وقت أن كان محافظا بها، يريد أن يهيمن علي القصر، فلما عجز قرر أن يطيح به وبمن فيه، لولا مساندة ثروت عكاشة وزير الثقافة لي وإصراره علي بقائي ودفاعه عن القصر وعني أمام عبدالناصر عندما تم تصعيد الأمر إليه.. وسط كل هذه التحديات ومخاوف العودة إلي المعتقل – التي كان من الطبيعي أن يشعر بها النويجي – لم يتخل عني يوما واحدا.. كان يصاحبني – مع الشباب – في الليالي قارسة البرد بقافلة الثقافة متنقلين من قرية إلي أخري، يضيء أمامي مساحات الظلمة ويفك شفرات الشخصية المصرية في مواجهة طبقات القهر المتراكمة علي نفوس أهل القري، يحذرني من الظن بأنهم جهلاء سلبيون مستسلمون للقهر، موضحا أنه يخفون بداخلهم قوة تنتظر الفرصة المواتية، ويلفت نظري لملاحظة وجوه الفلاحين المتجمعين بالآلاف حول القافلة وهم يحولون الحفل الثقافي إلي مؤتمر سياسي يناقش أوضاعهم المؤلمة.. لا أنسي كيف نبهني إلي وجه فلاح عجوز يتشبث بميكروفون القافلة بقبضتيه الاثنتين في استماتة وكأن فيه خلاصه، وقد نفرت عروق وجهه وهو يشكو حاله موجها حديثه مباشرة إلي الريس عبدالناصر، وكيف بدا متوحدا تماما مع الميكروفون ومع الرئيس لا يري أمامه غيرهما وهو في حالة أقرب إلي الاستشهاد مغمضا عينيه عن كل ما حوله وهو يقول إنه قد يقتل الليلة بعد هذا الحديث بأيدي كبار الملاك وحماتهم الفاسدين، لكن ذلك لم يعد يهمه طالما وصلت صرخته إلي الرئيس، كما كان د. علي ينبهني إلي زهور تتفتح بالوعي من شباب كان يختلط بهم في ساحات تلك القري أثناء انشغالي ببرنامج القافلة هنا أو هناك، ويدير الحوارات معهم بعيدا عني، كان كالجواهرجي الذي يكتشف المواهب النفيسة وهو يقدم أحدهم إلي قائلا: خللي بالك!.. الولد ده يطلع منه حاجة!.. فيصبح هذا «الولد» بعد ذلك مراسل قصر الثقافة في قريته ونواة الوعي بها. وعندما اشتطت «الأجهزة» – وعلي رأسها إبراهيم بغدادي محافظ كفر الشيخ – في حربها ضد القصر، إلي حد إلغاء انتداب كل العاملين به وكل أعضاء الفرقة المسرحية، وتركي وحيدا داخل المبني بدون موظفين أو أي إمكانيات للعمل، ثم تمادي فأرسل الأوناش لهدم سور المبني وبعض جدرانه لإرغامي علي مغادرته والفرار إلي القاهرة، كان علي النويجي يأتي إلي ومعه د. جلال رجب وفريق دسوق ليشد أزري وُيسري عني مشبها إياي – وهو يضحك ضحكته المدوية – بزوربا اليوناني وفطرته المحطمة!.. وعندما استدعاه شعراوي جمعة وزير الداخلية وأمين تنظيم الاتحاد الاشتراكي إلي مكتبه ومعه جلال رجب وأحمد حمروش «رحمهم الله جميعا» ليشهدوا ما سيفعله بي أمامهم من تأنيب وتهديد بالاعتقال، باعتبارهم أولياء أمري السياسيين القادرين علي إثنائي عن عنادي في مواجهة المحافظ «رئيس جمهورية الإقليم» علي حد قوله، كان علي النويجي يتملص وهو يضحك طول الوقت متقمصا دور طبيب أرياف «علي قد حاله» ولا شأن له بالسلطة وأكابر القوم مثلنا «أبناء مصر»، فيستشيط الوزير غضبا وهو يشعر بأن الرجل يسخر منه، لكن ماذا كان بوسعه أن يفعل له وهو يتقمص شخصية فلاح ماكر في مواجهة السلطة؟! مثله يظل حيا لكن هذا الريفي البسيط كان قادرا – حقيقة – علي قيادة حركة هائلة من النضال من أجل حقوق الطبقة الأكثر تعرضا للاستغلال والقهر علي مر العصور في مصر.. أعني الفلاحين، وعلي الإسهام في وضع نظرية مصرية للمسألة الفلاحية، وعلي النفاذ إلي عمق الآبار الجوفية لثقافة الفلاحين ووعيهم المشوه في ظل عصور القهر، ثم علي الأخذ بأيديهم نحو أمل جديد في عالم يخلو من الظلم.. لقد رأيت بنفسي كيف يتحدث مع الفلاحين بلغتهم وثقافتهم، وكيف يتحولون معه بعد قليل إلي «عاشق ومعشوق» بحس إنساني يتجاوز مستوي السياسي والمثقف النخبوي، وهو يفعل ذلك – بنفس القدر من الإنسانية – مع أهل النخبة، مخاطبا كل بلغته الخاصة. أليس ذلك هو «المثقف العضوي» كما تحدث عنه جرامشي؟.. ربما لم أتمكن من متابعة حركة النويجي بفرسانها الذين تتلمذوا علي يديه: السيد أبواليزيد، زغلول عبدالله، طلعت الخليفة، عبدالهادي بشت، محمد بشت، حمدي أبوكيلة، عبدالصبور منير، شتا محمد شتا، محمد أبوراس وغيرهم.. لكن الموت كان أسبق إلي بعضهم، وتكفلت متاهة الحياة بابتلاع الباقين، بما فيهم أنا شخصيا، وكم أشعر بالحزن والأسف لانقطاعي عنه في تلك المتاهة طوال أربعة وأربعين عاما بعد تركي لكفر الشيخ عام 1968، فكأن تلك العلاقة قد سُرقت من كلينا.. لكن ما تاهت عن خاطري يوما ملامحه وذكراه، حتي فوجئت بنبأ رحيله في الأسبوع الماضي. لكن.. هل مات حقا علي النويجي؟.. لا!.. إن مثله يظل حيا في نفوس الناس، خاصة نفوس تلاميذه ومحبيه، الذين أظن أنهم ينتشرون اليوم في شتي أرجاء مصر، ويظل يحيا في صفحات أبحاثه وذكريات نضاله، وشمعة في ضمير المثقفين وحركة الفلاحين علي السواء.