ضد التيار وصفة للتحرر من الألم أمينة النقاش ولدت " نوارة نجم "عام 1973 فى أعقاب حرب أكتوبر، لأبوين هما "أحمد فؤاد نجم " وصافى ناز كاظم "و كلاهما كان علما من أعلام مجتمع المثقفين المصريين الصاخب فى الستينيات والسبعينيات. ومن أبويها اكتسبت شخصيتها المميزة كثيرا من الصفات : موهبة الحكى المتدفق وخفة الظل والصوت الرائق الجميل والكتابة النثرية التى تتسلل برشاقة إلى الروح وتشق طريقها إلى قلب القارئ دون أدنى مقاومة، من فرط عذوبتها وبلاغتها وصدقها .وقبل هذا وبعده النفور من الظلم وبغض الظالمين . " نوارة الانتصار" هكذا كان "نجم" يتباهى باسم الابنة التى ولدت بعد يومين من نصر أكتوبر العظيم، وسميت كذلك تيمنا به . ووسط العواصف السياسية فى مجتمع ينقلب من حال إلى نقيضه، عاشت طفولتها وصباها. فالوطن يقتلع من ثقافة العمل والبناء، ليجر قسرا إلى ثقافة الهدم و الاستهلاك، ومن تعظيم الانجاز الجمعى، إلى تقديس النجاح الفردى المكلل بحيازة الثروة بشتى الطرق والوسائل، وفى وسط تلك التقلبات العاصفة ، بجانب "الفوضى المنظمة "كما وصفها صلاح عيسى للحياة التى اختار"أحمد فؤاد نجم" أن يعيشها، تجرعت نوارة نجم آلاما كثيرة، فى طفولتها وصباها . ألم انفصال والديها، ألم الهجرة سنتين إلى العراق التى فرضت على الأم، لأسباب سياسية وضغوط مهنية، سعيا للبحث عن العمل ولقمة العيش وربما طلبا لمناخ أكثر هدوءا لتربية الابنة ، بعيدا عن أجواء القاهرة الطاردة ، التى تلاحق الأبوين من سجن إلى اخر .آلام التنقل للعيش المؤقت فى بيوت الأقارب لحين الإفراج عن أبويها .ألم الاختيارات الحياتية التى فرضتها عليها عادات وتقاليد بالية، ولم تكن راغبة فيها . سبيكة من الألم يتصدر عنوانها البحث عن الأب الغائب لرؤيته فى السجون وفى خارجها .وتروى نوارة نجم تفاصيل هذه الرحلة الشاقة النبيلة فى كتابها الصادر قبل أيام عن دار الكرمة بعنوان "وانت السبب يابا ,,الفاجومى وأنا ". وفى كتابها تروى نوارة سيرتها الذاتية وهى تسرد وقائع مع عاشته وشهدته بنفسها فى العلاقة مع أبيها أحمد فؤاد نجم، وتنسب غير ذلك من وقائع لأصحابها . وببراعة فى السرد ورشاقة فى اللغة والجمع بين الفصحى والعامية، تكشف نوارة عن جوانب ربما تكون غير متداولة عن حياة نجم ، وعن الدور الذى لعبه كل منهما فى حياة الآخر، والذى كان يتجاوز من جانبها دور الابنة ، إلى دور الأم، وعن دور مهم لعبته صافى ناز كاظم فى حياة نجم رغم انفصالهما، وبإصرارها الحكيم أن تظل العلاقة ين نوارة وأبيها موصولة أيا كانت الأحوال والعوائق. وتحكى عن المرارات التى تكبدتها فى طفولتها ونتجت من اختيارات ليست، قادتها لكى تفطم قسرا، وتهتز ثقتها فى نفسها لشكها فى محبة أبيها لها، وأن يفرض عليها ألا تغنى رغم حلاوة صوتها، وأن تهجر الموسيقى التى أحبتها، وأن تضع غطاء الرأس ، وأن تلقن ما يفرق بينها وبين أصدقاء الطفولة من غير دينها وغير ذلك مما أربك حياتها . .عاش نجم حياته كما أراد بالطول والعرض ، ولم يستطع أحد أن يفرض عليه غير ذلك ., فهو شيوعى على طريقته، ومؤمن وصوفى من مريدى سيدنا الحسين وأهله على طريقته، وهو محب لكل الفقراء، فقد فرضت عليه صدف الحياة الغادرة ، أن ينتقل ظلما من أصوله الأسرية الثرية إلى فرعها الفقير، ويقضى فى ملجأ تسع سنوات من عمره، ويخرج منه شابا فقيرا يتيما عاطلا ، ليسجن، ويخرج من السجن ليصدر ديوانه الأول عام 1963بعنوان "من الحياة والسجن . . وهو معلق رياضى على طريقته الساخرة، و أهلاوى متعصب يجادل نوارة الزمالكوية بطرافة، دون أن يعلم أنها باتت محبة للفريق المنافس ، لظنها أن حسن شحاته يشبهه، وكان ديوانه الثانى بعنوان بين الأهلى والزمالك، معبرا عن عشقه لكرة القدم فضلا عن أنه محبة عامرة لعشق المصريين لها. لم يكن نجم أبا لبناته عفاف ونوارة وزينب فقط ، بل صار أبا مشاعا للجميع وحين تعددت زيجاته، لم يكن استثناء فى مجتمع تتعدد فيه الزوجات ، تزوج ست مرات ، غير ما ملكت أيمانه، ربما لأن حياته لم تشهد فترات ممتدة من الاستقرار سوى فى العقود الأخيرة أثناء زواجه الأخير من أم زينب . فى كتابها، تفتح نوارة مع القارئ جراحها لتساءلها وتفسرها وتضمدها، سعيا للتصالح معها والتسامح مع ماضيها، بعد أن نضجت وصارت أما وزوجة .وهى تردم الفجوة بين الظاهر والخفى من شخصية نجم، وهى تسرد طقوسه فى الحياة والحب والزواج والطلاق أو هى طقوس تؤكد صورته الأسطورية كمناضل سياسى وشاعر فذ، وانسان يعمل وينجح ويفشل ويحب ويخطئ ، وتنطوى شخصيته على فطرة إنسانية سليمة شكلت عالم "الفوضى المنظمة "الذى أقامه طوال حياته ، وكان عالما مثقلا بالأحلام وبشوق لا حدود له لعدل السماء . ولأنه كذلك فقد كان رغم تناقضاته، عالما قوى البناء عصى على الكسر . وصفة البوح والمكاشفة والصدق، لمواجهة ألم النفوس المجروحة قدمها كتاب نوارة نجم ، ببراعة ومتعة فائقة ، فيالها من وصفة سحرية بحق .