«فى الغرفة رقم 20 بالمستشفى فى انتظار دورة الحُقن الصباحية، كنت أرتدى جلبابا أبيض وعباية سوداء صوف، على الجانب الأخر من النهر مجموعة من السيدات بالملس الأسود ينظرون إلى فى ابتسامات عريضة جاءوا من أرض الأجداد يمنحونى قرص الشمس وكفوف من تحية الأجداد» كانت تلك إحدى تدوينات الرجل المبهج الذى اعتاد أن يدافع عن الحق وحقوق « الغلابة» فهو لا يعبأ بما يوجعه فى جسده قدر مايبحث عن تلك التفاصيل التى يتحد معها لتمنحه مقاومة من نوع خاص حاملا نصيبا من اسمه « حمدى « . حين طُلب منى أن يكتب عن الراحل الحقوقى حمدى الأسيوطى، ظللت أفكر، ماذا أكتب؟ تعاملاتى مع الرجل كانت لا تتعدى بعض الاستشارات القانونية فى تحقيقات صحفية بعينها، وتنتهى المكالمة أو المقابلة بابتسامته المعهودة للجميع، بحثت عمن نعاه فوجدت فاجعة فقدانه يتوقف أمامها حكى تلاميذه ممن تواجدوا بحماس أمام مسجد السيدة نفيسة ليودعوه الوداع الأخير، فلم يكن من اللائق أن أسألهم عنه قدر مايجب أن أعزيهم فى الرجل الذى لم يكن مروره فى حيواتهم مرورا عابرا، وجدت الكثير من اصدقائه ينعونه « بمحامى الغلابة، محامى الفقراء، ووجدت نقيب المحامين ينعى أهم ركن فى لجنة الحريات بالنقابة. فطنت الى البحث عما فعله علنى أجد ما يروق السطور وتجعلنا نراه جيدا، وجدت الكثير من الدفاعات التى كانت درسا للكثيرين فى قضايا حقوقية مختلفة دوّنها تلاميذه على مدونات قانونية خاصة، كما وجدت كلاما من نوع خاص له عبر الكثير من المحاضرات التى جاءت عناوينها» كيف تكون محاميا ناجحا» و « الفرق بين القذف والسب»» من فنون المرافعة الشفوية» . كان رجلا وفقا لحكى صديقه الصحفى اليسارى سليمان شفيق إيمانه فوق القلق، إنسانا يحمل نبوءة الحياة، ابتسامته تمنحك أمانا خاصا بأن كل ماهو قادم جيد لا محالة، عاش معارك الوطن ومجد أيام شهدت أحلام كبرى وإن لم تتحقق جميعها، ثوبه الأسود يشهد على كل ما دخله من معارك نبيلة مزج خلالها البهجة بالمنطق فى سطور القانون ومرافعاته أمام القضاء، أتذكر فى إحدى المرات أحد زملائنا كان يحاكم فى قضية نشر فكان « الأسيوطى» يداعبه نازعا من ملامحه القلق قائلا: « كل حاجة سهلة مادام معانا ربنا وقانون ومنطق « « كل منا جميل بطريقته» كانت تلك إحدى كلماته، القريبة من لسانه بشكل شبه دائم، فهو يمسك بروب المحاماة الأسود ويحكى الكثير عن زمن مضى، يجرى وراءه فى صور يشاركها مع أصدقائه يعلوها تعبير» كلمنى عن بيتنا الطيب واللقمة الحلال» ليظل فى ذهنه بشكل دائم والده الراحل، يضع وردة أعلى صورته ويروى كيف كان سببا فى حبه للقراءة، وكيف يمتن له فى كل مرة يمسك بكتاب، عله قابله الآن واطمئن لقربه، هو رجل يصبح على حب الوطن يوميا وإن تواجد داخل « الغرفة 20» التى شهدت آلامه الأخيرة فاعتاد « أن يصبح على حب الوطن قولا وفعلا». حين كان يسأل بعض الأصدقاء والتلاميذ عنه تكن الإجابة بهجة مضافة الى بهجة حكيه فكان يقول» لا تحدثونى عن المرض حدثونى عن الأمل»، يروى لنا فى إحدى تدويناته من غرفته الصديقه رقم 20،» كنت أخرج من غرفتى وأمشى فى ممر طويل على يميني غرف المرضى كنت أهرب من برودة الغرفة فرغم وجود تكييف على الحائط إلا أنه لا يعمل وهناك بطانية واحدة صغيرة،لا استطيع النوم الا بعد شروق الشمس وسرعان ما استيقظ على صوت الممرضة عصمت بصوتها المرتفع وكانها تعاقبنى على غفوة اختطفها سريعا تسحب من جسدى الواهن جرعة جديدة من الدم وتعلق المحاليل وتنهى دورها معى بسؤالها عن قلم جاف زيادة وعملا لابنتها فى مجال المهنة لكن ابتسامتها لا تفارقها وهى تحكى عن استعداد زوجها لعملية «قلب مفتوح» وكتب أيضا :» بذلت جهدا كبير حتى أتغلب على إحساسى بغربة المكان ووحشته، صوت الريح، لون جدران الحوائط، أفكار كثيرة تراودنى، ذكريات قديمة وكأنها مشاهد فيلم قديم، كل ليلة يخاصمنى النوم، ويأتينى متقطعا،مجرد غفوة، أخرج خارج غرفتى، لأسير فى طرقة طويلة تنتهى بلافتة عريضة عن علاج الكلى، ترعبنى فأعود إلى غرفتى، أسمع أصوات زوار مريض أخر، ما إن يشاهدونى حتى يدعون لى بالشفاء، ثم يستكملون حديثهم بلهجة أهل الريف عن وجبتهم فى العشاء الليلة فكل منهم يقترح وجبة مختلفة، لكن تعجبت عندما ذكروا البيتزا والشاورمة، والكشرى، وأنا اشتاق الى رغيف بتاو وقطعة من الجبنة القريش». الرجل الذى ملأ جدران المحاكم المصرية بالابتسامات والحكى والدفاعات النبيلة، لم يبخل بالحكى عن المشفى أيضا، فهو قادر على محبة كل الجدارات مهما كانت باردة، يتناول أحيانا إحدى أبيات صلاح جاهين الداعية الى الأمل فى عز وجعه فيكتب» يخرب شيطانك ياجدع. ازاى بتضحك على الوجع وتقول مفيش..الدنيا كيف مابتكسركش والبعد كيف مابيوجعكش وإزاى رغم الخوف وكلاكيع البشر قادر تعيش.. يمنحنا مفاتيح حياة بكلماته حين يقول « إذا ابتسمت وأنت وحيدا فقد ابتسمت حقا» قبل رحيله بساعات لتظل ابتسامة حمدى الأسيوطى المحامى الحقوقى الحقيقى داعية الى الحياة وإن صعد الى السماء، وتظل جدران المحاكم يتردد بها صدى صوته، وإن انتبهت الى غيابه بعد فترة، مؤكدا أنه رحل صادقا مع نفسه وراضيا مرضيا.