كان يرانى ولا أراه، كنت اشعر بعيونه تطل فى أمعائى، نبهنى إلى ذلك أحد تلاميذى فى ورشة السيناريو فى اليوم الأخير للورشة التى امتدت ما يقرب من الشهرين. على مدار 50 ساعة، استمتعت معهم ب(الفرجة) على الأفلام، حصلوا هم على عصارة خبرتى، وحصدت أنا رصيد من ذكريات قد تنفعنى يوماً ما عند التقاعد الذى أظنه قريب، وورق ملون يتيح لى شراء الكتب، و(دوانلود) للمادة العلمية للورشة، ونظرات شقية حالمة متمنية ومتمنعة من فتيات لم أصادق من هن فى سنهن فى حياتى، ولمسة من أحداهن أشعلتنى ثم خبت جذوتى فجأة حتى ظنت بى (البنوتة) الظنون، فواحدة مثلها يتمنى الناسك نظرة من عيونها حتى وإن كانت من وراء جدار الخيال. رصيد ذكرياتي يصنع ثلاثية أكثر ملحمية من (آل بودنبروك)، وأشد أثارة من فيلم Fast & Furious, وأكثر قدرية من final destination، وتقززاً من saw، ومع ذلك لا أسطر حرفا. اعتبره مشروعي الأخير بالمعنى الحرفى للكلمة، كما لو كان لى القدرة على التنبؤ بميعاد رحيلى، فأؤخره حتى يكون الحكى من البداية حتى النهاية، حتى تمنيت أن تمتد حياتى حتى اختراع جهاز يسجل تفاصيل سكرات الموت يضاف كملحق للرواية، أما عن الميلاد فاعتقد أن روحى سوف تكتبه حينما تسكن جسد أخر. يرانى ولا أراه، حتى أن تلميذى داعبنى قائلا:"نظراته لك ليس نظرة بائع لزبون محتمل، إنها نظرة صياد لفريسته" أضحك: "فعلت كل ما تتخيله فى حياتى، ولكنى لم أكن قواداً أو شاذاً!!" يقهقه: "ربما عرفك ويريد أن يكون بطلاً من أبطالك". أنظر له فى ابتسامة ساخرة:"كلهم ماتوا" أعود لصومعتى، التى استأجرتها مؤخرا لأكون قريباً من صخب وسط المدينة، أقضى النهار أجهز لورشتى، وعصراً يكون التطبيق العملى لسهر النهار، والمساء لأفلامى وأحلامى وكتبى وقليل من العبث مع بنات الغرام، فى محاولة لكتابة مختلفة عن حياتهن بعيدا عن الأخوات الجائعات، والأب المريض بداء عضال، والأم التى تبكى طول الليل على جسد ابنتها المنتهك، وتحسب طول النهار نصيبها من عرق من كانت عذراء. عدت منهك جسدياً، وعقلى نشيط، بعد وجبة دسمة مع متدربين من أصحاب الأفكار المجنونة التى اعشقها، ورغبة فى إنتاج فيلم يخسر ماديا ولكنه يكسب فنيا بعد موتى، ولما لا.. هل أنا اقل من العظماء الذين اشتهروا بعد وفاتهم؟! أحيانا اعتقد أنى مجنون، وتلبسنى أرواح أبطال افلامى حتى بعد وفاتهم، وأشك أحيانا فى إصابتى بنوبات صرعية، لكنى سليما تماماً جسدياً، ووظائفى الحيوية تضاهى شاب فى العشرينات. اليوم كان النهائى للورشة، تنتابنى تلك الحالة التى اشعر فيها بالانتشاء لزيادة عدد تلاميذى ومريدينى، وأشرع فيها أيضا فى التفكير لورشة جديدة. أكافئ نفسى يومها بفيلم وكيلو كباب ومشروب خليط من عصير الفواكه من اختراعاتى، فأنا لا أعاقر الخمر ولا تعاقرنى، إلا ذا جاءت صدفة من يد حسناء مائعة فى ليلة قمرية أتحول فيها لذئب بلا أنياب. اليوم سأختار فيلماً بطريقة عشوائية من مكتبتى الضخمة -على اللاب توب- والتى تحوى أفلاماً وكتباً فقط. أحيانا أحمّلها من على شبكة الانترنت بطريقة عشوائية دون معرفة مضمونها ولأبطال مغمورين، ومرة أخرى عن علم، وكثيراً ما يكون الغلاف أو الأفيش، وبعض الاختيارات هدية من أصدقائى. بدأت الاختيار العشوائى، اخترت مجلد الأفلام الغربية، وقبلها كنت قد أغلقت كل النوافذ، وأشعلت شمعة برائحة الخوخ، وأغلقت عينى بايشارب أحمر حريرى، ثم تركت سبابتى حرة الاختيار، تزلجت السبابة على (الفأر) الأملس، ثم نقرت نقرتين، وبدأت الموسيقى التصويرية، ثم بدأت صوته يتسرب، استغربت من كونه بالعربية. حللت وثاق عينى، لأجده مطلاً من الركن الأيمن للشاشة. فركت عينى، إنه هو، ذلك الذى يرانى ولا أراه. ابتسم ابتسامته الغامضة، و نادانى باسمى، وقبل أن افتح فمى، سخر منى قائلا:" نعم أعرفك، و تتجاهلنى، وتتجاهل بضاعتى، ترفضنى بطلاً وأنا أكثر بطولة ممن تكتب عنهم"، أجيبه بصدق:"ولكنى أشعر بك، وأحاول أن أراك" يرد فى عدم تصديق:" وبضاعتى؟!" انظر فى عينه:"أرني إياها"، يشير إلى أن أتقدم، فاخترق الشاشة الضخمة، لأجدنى فى كهف مظلم أتحرك فيه بسهولة قط وخفاش. أجده مرتديا حلة "سموكنج" و"بابيون" نبيتى اللون تتوسطه ماسة وردية، أمامه طاولة من "الاستانلس" تشبه (تروللى) العلميات وفوقها العديد من القطع الغريبة، تمتد يدى كى (أقلب فى البضاعة)، ولكنه يمنعنى بإشارة من يده، ويقدم لى عصا طويلة بنية اللون، مقبضها قرن جاموس وحشى، منحوتة على شكل رأس فيل، ونابه عاج حقيقى، ما أن لمستها حتى شعرت بأني أطير، وأشم روائح توابل حريفة، لأجدنى أمام دكان كبير للعطارة، يتصدره مكتب أرابيسك ضخم، يجلس عليه رجل يقارب الخمسين، قمحى اللون، يرتدى "كاكولا" رمادية وعمامة، وفى يده سبحة كهرمان، وعلى مكتبه منشة، شاربه رفيع مبروم، يداعبه بهدوء، وهو يتحدث مع رجل يقاربه فى العمر، يشبهه تماما ولكن الفرق الوحيد أنه أبيض البشرة يميل للاحمرار. يتحدث القمحى بصوت عصبى: "هل تريد أن تترك تجارة أبيك وأجدادك لتعمّر بلاد أخرى؟"، يرد الأبيض:"أكره العمل مع المصريين" يهاجمه القمحى:"والأجانب؟!!"، يبتسم الأبيض:"كلامهم واحد" يكمل القمحى بنفاد صبر:" لك حقك، ولكن كن فى عزائى على الأقل"، يربت الأبيض على يد القمحى:"قد تكون من يشرب قهوتى" يتحرك القمحى من خلف المكتب ليقفان وجها لوجه كمرآة بشرية، ويحتضنه، ومع حضنه اختفيت، كنت أنا الأبيض، و كان القمحى جدى!! أعود للكهف المظلم، لأجده مازال يبتسم، ولكنه هذه المرة في زي الرهبان الأسود، عرفت القواعد، فلزمت الصمت، امتدت يده للطاولة التي تحولت إلى طاولة خشبية قصيرة من خشب معطر يعبق المكان كله بروائح الصندل والعود والمسك. تمتد يده راشما الصليب من اليمين ثم اليسار ثم لأسفل، ومع الرابعة فى الأعلى، يلقى بالصليب الكريستالى السماوى اللون، ليظل يعلو ويرتفع، فاحلق معه، وأحاول التقاطه، فيرواغنى، وحين ألمسه، ترتطم يدى بيدها الناعمة الدافئة، ترتعش، وارتجف. تنظر لى بعيونها التى تشبه نجمة سينمائية أعشقها، وكنت أحدثها دائما عن ذلك الشبه، فتبتسم، وهى تقول لى:" ولكنها فى كل أفلامها، تفارق حبيبها أو يغادرها"، فابتسم:"أنا بطلك الحقيقى"، تربت على يدى بعيون تتمنى قبلة: "حياتى 35 ملى"، ألثم إصبعها الصغير الذى ينيره خاتم صغير ذو صليب كريستالى سماوى اللون، فتمنحنى القبلة والخاتم، فيجذبنى كمغناطيس لسمائه هائما مع تراتيل على صوت ناى و صوت يردد: "اِمْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ مَنْ يَجِدُهَا؟ لأَنَّ ثَمَنَهَا يَفُوقُ اللآلِئَ" - سفر الأمثال 31: 10- "أعود أو لا أعود .. تلك هى المسألة"، تداهمنى تلك العبارة وأنا فوق سحابة دافئة، فأرى على البعد جبل الأولمب، و(سيزيف) جالساً ينتظر شروقه كوكباً، وهو يدحرج قطع السحاب فتستحيل ناراً تحرقه وتبدل جلده، ينادينى: " ثاناتوس .. أنا النهاية والبداية.. أنت الوهم ذاته"، يلقينى بكرة نار فالتهمها فى تلذذ، و تزداد حرارتى حتى الغليان. "أعود أو لا أعود.. تلك هى المعضلة"، يقولها الذى يرانى وأصبحت أراه، فى زى ساحر افريقى وسيم، عارى تماما بلا أى ساتر، واقفا هو فى ساحة غابة يحيطه طوطمات متنوعة برؤوس حية،وقدور تغلى بروائح اللحم البشرى، والأرض برك من الروث ودماء الحيض والماء العطن، ونساء بيض وسود وقمحاويات وصفروات بارعات الحسن بلا أثداء يرقصون على صرخات النشوة، ابحث عن نفسى فلا أراها، رغم أنى أحسها وأراه. يمد يده ليخرجنى من جذع شجر عملاقة منتفخة كبالون قارب على الانفجار، يتنزعنى، ويحل الحبل بسكين غير مشحوذ، يضعنى على الأرض، ثم يشير للجميع بالهدوء، ليبدأ هو بالطرق على جلد رأسى فى حركات إيقاعية: دوم دوم دوم ..اسمع صوت الطبيب وهو يقول لأمى:" ها هى ضربات قلبه.. وقد قارب على الوصول.. انتظريه".