رئيس جامعة جنوب الوادي يتفقد امتحانات الفصل الدراسي الثاني    اتصالات النواب توافق علي موازنة القومي لتنظيم الاتصالات للعام 2024/2025    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    الأنبا إرميا يتضامن مع أسامة الأزهري في بيانه بشأن مركز «تكوين».. ماذا قال؟    وزير الرى: مبادرة حوض النيل بشكلها الحالى تعتمد على مبادئ غير تعاونية    استقرار أسعار الذهب محليًا.. والأسواق العالمية تترقب الفيدرالي الأمريكي    محافظ دمياط تجري زيارة مفاجئة لوحدة رأس البر    الملحق التجاري السعودي: الصادرات المصرية تحتل المركز الأول بالمملكة    هيئة البث الإسرائيلي: سوليفان يشعر بخيبة أمل بعد لقائه نتنياهو    ريال مدريد في رسالة خاصة ل كروس: جزء من تاريخ النادي وستبقى في القلوب    هل يعاني لاعبو الأهلي والزمالك أمام الضغط الجماهيري؟ إخصائية نفسية تجيب    الزمالك يصرف مكافآت الفوز بالكونفيدرالية قبل لقاء مودرن فيوتشر    كلوب يتفوق على مانشستر سيتي في ظهوره الأخير بالدوري الإنجليزي    إصابة شاب إثر سقوطه من قطار الإسماعيلية    ضبط 4 أطنان جبنة مجهولة المصدر ومواد غذائية منتهية الصلاحية بالبحيرة    المدير الإقليمي لشركة ASUS في الشرق الأوسط يشرح ثورة الذكاء الاصطناعي لأجهزة الكمبيوتر المحمول    جنايات المنصورة تقضى بالإعدام شنقاً للمتهمة بالتخلص من ابنة جارتها لسرقة قرطها الذهبي    الرئيس السيسي: الدولة تدعم ثقافة الإبداع والابتكار لترسيخ الهوية المصرية    قبل الفستان.. كيف دعمت كيت بلانشيت القضية الفلسطينية؟    رئيس جامعة بنها يتفقد فعاليات القوافل المتكاملة بقرية قلما بقليوب    رئيس الوزراء يتابع عددا من ملفات عمل الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي    القبض على المتهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بالإسكندرية    وزيرة التضامن تتابع حادث سقوط ميكروباص من أعلى معدية أبو غالب بالجيزة    بتهم القتل والبلطجة.. إحالة أوراق عاطل بالقليوبية لفضيلة المفتي (تفاصيل)    دفاع متهمة برشوة الرى يطالب بإخلاء سبيلها كونها السيدة الوحيدة بالقضية    «الإسكان»: اعتماد المخطط التفصيلي ل3 مناطق صناعية في بني سويف    تحقيق جديد في اتهام سائق بالتحرش.. وتوصيات برلمانية بمراقبة تطبيقات النقل الذكي    العرض على شاشات المتحدة.. صبا مبارك بطلة مسلسل وتر حساس من 45 حلقة    نقيب القراء: لجنة الإجازة بالإذاعة حريصة على اختيار من هم أهل للقرآن من الكفاءات    دعاء النبي في الحر الشديد: كيفية الدعاء أثناء موجة الطقس الحار    مراسل «القاهرة الإخبارية»: المجاعة تعصف بغزة بعد منع إسرائيل لدخول المساعدات    مكتب الإعلام الحكومي بغزة: الرصيف البحري لا يمكن أن يكون بديلا عن المنافذ البرية والمساعدات لم تصل حتى الآن إلى شمال القطاع والوضع كارثي    احذروا الشائعات.. مجلس الوزراء يكشف حقيقة بيع المستشفيات الحكومية ووقف الخدمات المقدمة للمواطنين    في اليوم العالمي للشاي.. أهم فوائد المشروب الأشهر    لمواليد برج السرطان.. توقعات الأسبوع الأخير من مايو 2024 (التفاصيل)    للتوعية بحقوقهن وواجباتهن.. «الهجرة» تناقش ضوابط سفر الفتيات المصريات بالدول العربية    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    هالاند.. رقم قياسي جديد مع السيتي    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    محافظ جنوب سيناء: نمتلك خبرات هائلة في مجال السياحة.. وشرم الشيخ لديها إمكانيات متفردة    أحمد الفيشاوي يحتفل بالعرض الأول لفيلمه «بنقدر ظروفك»    الموعد والقناة الناقلة لقمة اليد بين الأهلي والزمالك بدوري كرة اليد    رئيس جامعة بني سويف: مناقشة أول رسالة ماجستير بكلية علوم الأرض    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    صعود جماعي لمؤشرات البورصة في بداية تعاملات الثلاثاء    خبيرة تغذية توجه نصائح للتعامل مع الطقس الحار الذي تشهده البلاد (فيديو)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 21-5-2024    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    داعية إسلامي: الحقد والحسد أمراض حذرنا منها الإسلام    تعرف على سعر السكر والزيت والسلع الأساسية بالأسواق منتصف الأسبوع الثلاثاء 21 مايو 2024    حسام المندوه: الكونفدرالية جاءت للزمالك في وقت صعب.. وهذا ما سيحقق المزيد من الإنجازات    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    مدحت شلبي يكشف العقوبات المنتظرة ضد الزمالك بسبب سوء تنظيم نهائي الكونفدرالية    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    المقاومة الفلسطينية تستهدف قوات الاحتلال قرب مفترق بلدة طمون جنوب مدينة طوباس    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية إسكندرية فى غيمة_الحلقة الخامسة
نشر في الصباح يوم 06 - 10 - 2012


ملخص ما نشر
الإسكندرية تجتاحها عواصف السبعينات، تراجعت قصص الحب، حسن ذهب لمعسكر بالجامعة، حصل على عشرة جنيهات كاملة وتدرب على الكاراتيه، واستمع مذهولًا لمحاضرات ضد اليساريين، وحضر تدريبًا للطلاب على ضرب الشيوعيين، قرر أن يحتفظ بالجنيهات لينفقها على النساء فى البار الليلى مع الأصدقاء، كانت الإسكندرية تفقد معالم خصوصيتها القديمة، هاجر الأرمن واليهود والشوام واليونانين، لتدخل المدينة زمنًا جديدًا.

فى كافتيريا الكلية جلسوا. الكافتيريا كبيرة، واسعة وممتدة، ومزدحمة اليوم أكثرمن كل يوم بسبب المطر في الخارج . نادر وحسن وبشر وكاريمان ويارا، يتوسطهم عيسى سلماوي، الرجل الطويل النحيل الأنيق الذي يتجاوزعمره الأربعي. كان عيسى سلماوي منشغلًا عنهم قليلًا، بينما هم مشغولين بأحاديث جانبية. كان عيسى يفكر هل إذا انتهى هذا العام الدراسي سيعود ليدرس من جديد في كلية أخرى؟. لقد أنهى من قبل دراسته في كلية التجارة وكلية الحقوق، ولا يستطيع أن يبدأ الدراسة من جديد في كلية عملية، لأنه حصل من قبل على الثانوية العامة القسم الأدبي. كما أن الكلية النظرية الوحيدة الباقية في الإسكندرية هي كلية التربية، ولا تقبل المنتسبين لأن بها دروسًا عملية عن طرق التدريس. لم يبق أمامه بين الطلاب إلا هذا العام والعام القادم.

اندهش من نفسه كيف يفكر مبكرًا في هذا الأمر. ووجد نفسه أيضًا يفكر ما معنى أن يكون عمله الوحيد في الدنيا هو أن يجذب الطلاب إلى الفكر الماركسي، دون أن يكون منظمًا في أي حزب سري، يمارس فيه دروسه بشكل عملي!

هز رأسه كأنه ينفض عنها كل هذه الأفكار، خاصة أنه لم يعرف أبدًا مصير الطلاب الذين التفوا حوله في السنوات السابقة.
أحيانًا يقابل أحدهم في الطريق، فيجده دائمًا يسير مع فتاة جميلة تبدو خطيبته، أو امرأة تبدو زوجته، ولا يلتفت إليه، أو يهتم به. لايبدو أنه التقى به من قبل، أو جلس حوله يستمع إلى دروسه، كما يفعل هؤلاء الآن. أدهشه أنه لم يكن أبدًا بين مريديه طالبات. كاريمان التي تبدو دائمًا ماركسية الهوى، ربما لأنها فقط حبيبة حسن. ويارا التي تشع البراءة من عينيها، وتنسكب من شفتيها حين تتكلم، أيضًا حبيبة نادر. هو يعرف أن هناك أحزابا شيوعية سرية في مصر، ويعرف أسماءها، الحزب الشيوعي المصري، وحزب العمال الشيوعي، والتيار الثوري، و8 يناير، ولايحدثهم عنها. وإذا سأله أحدهم عنها يقول إن اكتشافها أمر مرهون بكل شخص منهم. هو لايحب أن يكون منتميًا لأي حزب حقًا. يقول لهم فقط، أنه أعيد بناء هذه الأحزاب بعد وصول السادات إلى الحكم . أقطابها من الشيوعيين اللذين اندمجوا في التجربة الناصرية من قبل، بعد أن خرجوا من المعتقلات عام 1964. هو أيضًا خرج معهم. هو قبض عليه في الليلة الأخيرة لعام 1958. ليلة عيد الميلاد. لم يكن منتميًا لأي حزب شيوعي . الصدفة جمعت بينه وبين شخص لايعرفه في مقهى الإسكندرية بميدان المنشية. كانت المقهى صاخبة ومزدحمة، وذلك الشخص المهيب الطلعة يجلس وحده يقرأ الصحف، ومقعد فارغ أمامه، فاستأذنه أن يشاركه المكان يشرب قهوته فسمح له الرجل. بعد ذلك لم يقابله أبدًا إلا في معتقل الواحات بالوادي الجديد. اتضح له أن اسمه "نادر نعيم" وهو مسؤول الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في الإسكندرية.

لم يكن عيسى في شبابه قد قرأ شيئًا عن الماركسية. كان قد توقف عن التعليم منذ حصل على الثانوية قبل الثورة، ويعمل في تجارة أبيه في الأخشاب، التي تم تأميمها وهو في المعتقل، ليخرج يجد أباه قد فارق الحياة كمدًا وأمه لم تنتظر كثيرًا بعده. لم يستوعب أحد من العائلة فكرة ضياع ممتلكات أسسوها بجهد وعرق السنين الطويلة. لقد تم التأميم من أجل إعادة الثروات إلي الشعب، ولم يكونوا من الأجانب ولم يكونوا لصوصًا . كثيرون من المصريين أضاع التأميم ثرواتهم، يذكر كثيرًا من بينهم عائلة الطويل صاحبة مصانع مدابغ الجلود القريبة، العائلة التي أسست هذه الصناعة منذ بداية القرن التاسع عشر في الأزاريطة، ثم انتقلت بها في أواخر القرن نفسه إلي طريق المكس بعد حي الورديان، جوار المدبح أو السلخانة كما يسمونه الناس، وكانت تصدر الجلود إلى دول كثيرة وتكفي السوق المصري. لقد كان بين أبيه وعميد هذه العائلة صداقة وطيدة لذلك لاينساها. لقد تم تأميم مصانعها، وكما حدث لأبيه حدث لصديقه عميد عائلة الطويل فارق الدنيا كمدًا. لكن رغم ذلك لم يكن يشعر بالسخط علي سياسة التأميم. لقد صار ماركسيًا.

لقد عرف الماركسية من حلقات النقاش في المعتقل التي كانت تقام بعد الضرب والتعذيب بالنهار. شيء يستحق كل هذا التعذيب، وكل هذا الصمود، جدير بأن يعرفه ويحترمه ويقتنع به فيما بعد! أخته الوحيده تزوجت وهاجرت مع زوجها إلى كندا بعد هزيمة1967. صار وحيدًا، وقرر الانتساب إلى كل الكليات الممكنة لينشر الفكر الماركسي بين الطلاب، بعد أن حصل على الثانوية العامة من جديد بنظام المنازل. لم يبق له من تجارة أبيه غير مخزن صغير في زقاق جانبي من شارع القفال بالورديان . لكنها تجارة صارت تكفيه. يمكن أن تتسع ، لكنه لا يريدها أن تتسع . يا مجنون . كثيرًا ما يقول لنفسه ذلك. كما يقوله لنفسه الآن . ترى لو قام شخص بتحليل شخصيتك ماذا سيقول غير ذلك. أو على أقل تقدير MisFit. غير متوافق مع المجتمع . هكذا يقولها بالإنجليزية لنفسه دائمًا . ومادمت تعرف فلماذا لاتعود إلى المجتمع؟ المجتمع ليس هؤلاء الطلاب. قال لنفسه ذلك كثيرًا من قبل، ولم يقلع عن اختياره! لكنه أيضًا يقول هناك دائما أمل. أجمل الأيام لم تأت بعد!! لابد من نشر الفكر الماركسي الذي دفع ثمنه كل من أحبهم أو رآهم في المعتقل من عظماء الوطن، حتى لو لم ينتم لحزب سري . أليست الماركسية تحقق العدل في العالم . لا يحتاج دليلًا من الاتحاد السوفيتي، أو الصين ، فالذين دفعوا الثمن ، ودفع معهم صدفه، لم يكونوا أغبياء، ولا من الجاهلين . اليوم سيحدّث مريديه عن كتاب "العائلة وأصل الملكية" لفردريك إنجلز.
كان صوت أحمد عدوية يملأ فضاء الكافتيريا من الكاسيت الخاص بها، والجرسونات يتحركون ببنطلوناتهم السوداء وجواكتهم البيضاء أكثر من كل يوم، بين الطلاب المتوزعين على المناضد الكثيرة سعداء . من خلف الزجاج الذي يمتد مع جدران الكافتيريا يظهر الطلاب ويتحركون في خفة، أو يقفون يتحدثون في مرح ، والفتيات تضيء النهار الغائم بابتساماتهن، وضحكهن، وملابسهن الأنيقة، الشانيل والجوب والميني جوب والبلاطي الصوف. شعرهن يطير في الهواء وهن دائما يحاولن إعادته بإيديهن إلى عرشه.
كان ما جرى مع نادر في أمن الدولة حديثهم , بعد أن إنتهى عيسى من الحديث عن كتاب فردريك إنجلز. هو يكتفي بالحديث القليل أملا أن يشتروا الكتاب المترجم إلى العربية ، والموجود في مكتبة الشرق بشارع صفية زغلول ، الأثر الباقي من العلاقات المصرية السوفيتية ولم يغلق بعد.
كان الحديث عما جري مع نادر في أمن الدولة زلة لسان لحسن , بعد أن حكى لعيسى سلماوي محاولة تجنيده ضد اليساريين.
لم يكن نادر يحب أن تعرف يارا ذلك. مضي إسبوعان حتى الآن وهي لا تعرف . وبدا على وجه يارا شيء من الخوف. رآها نادر وقد غام وجهها وراحت تبلع ريقها. يارا جامعة الفراشات كما يسميها لا يحب لها الخوف أو الحزن. لا تتحمل هذا الرعب. لكن لم يعد ممكنا التراجع . قررأن يضحكهم جميعا، قاصد أن يضحك يارا أكثر، وحكي لهم حديثه لرئيس أمن الدولة عن الوجودية, وكيف ظهر الإرتباك على وجه سيد بيه عبدالباري الذي يشبه مصطفى حلاق الحي . ضحكوا بالفعل . ضحكت يارا وكاريمان أكثر من حسن وبشر اللذين يعرفان القصة . وجدها عيسى فرصة ليحدثهم عن التقاء الوجودية مع الماركسية ، وكيف كان هذا التحول على يد جان بول سارتر بعد الحرب العالمية الثانية. لقد شارك في مقاومة الأحتلال الألماني لفرنسا كل الشعراء والأدباء والمفكرين من كل المذاهب. من الشيوعيين حتى السيريالين , وهنا ظهر اجتهاد سارتر عن الأدب الملتزم , وكيف وضع كتابا في ذلك . وقال حسن ضاحكا بصوت خفيض :
- خلينا مع فكرة نادر عن الوجودية أحسن الآن . أي حديث عن المثقف الملتزم سينتهي بنا إلى الاتهام بالشيوعية والسجن ، خصوصا أن مجلات الحائط التي علقناها منذ اسبوع كانت بأموال الدولة.
ضحكوا. يعرفون أن مكتب رعاية الطلاب كان قد استدعى بشر زهران أيضا، وحاول المدرس الشاب رئيس المكتب , جذب بشر بعيدا عما يتصور إنه اليسار. أو لأنه يعرف فقره، أعطاه خمسة جنيهات على سبيل الإعانة مشترطا عليه أن لا يقوم بتحرير أية مجلة. أشترى بشر من النقود أوراقا و أقلاما , وحرر معهم ثلاث مجلات علقوها منذ أيام دفعة واحدة , تحمل مقالات له ولحسن ونادر وكاريمان .
لقد جعلوا للمجلات ثلاثة عناوين كبيرة. "إلى أين يذهب السادات بالبلاد؟" "تشجيع التيارات الإسلامية على حساب الحرية" "بطل اكتوبر هو المقاتل وليس السياسي".
قال عيسى:
- إستدعاء بشر لمكتب رعاية الطلبة تم بعد استدعاء نادر إلى أمن الدولة. إذن كانت محاولة للتفريق بينكم .
قال بشر:
- طبعا يا أستاذ . لكن أعطنياهم مقلبا معتبرا . حسن وأنا. هو تدرب على الكاراتيه وأخذ عشرة جنيهات، أنا لم أتدرب على شيئ وأخذت خمسة!
ارتفعت ضحكات كاريمان و يارا . شملت الفرحة نادر الذي رأى يارا تضحك من قلبها , ثم قالت :
- هل رأيتم ما كتبه استاذ علم النفس الجديد على غلاف كتابه ؟ كتب جميع الشهادات التي حصل عليها في حياته حتى حصوله على الدكتوراه من جامعة أوكسفورد. لم يترك إلا شهادة الإعدادية.
شملهم جميعا الإبتهاج . بهجة نادر كانت أعظم لما يراه من إبتهاج يارا.
قالت كاريمان:
- لا ينقصه إلا أن يكتب إسم مامته.
هنا إلتفت كل من في الكافتيريا إليهم ، إذا ارتفعت ضحكاتهم وملأت كل الفضاء حولهم وفوقهم . لكنهم فوجئوا بعيسى سلماوي كظيم الوجه. قال بهدوء اليائس:
- لا تضحكوا على هذا النحو. الشيوعيون يعدون أنفسهم لنضال طويل. قلت لكم ذلك كثيرا من قبل.
تبادلوا النظر في خجل ، وكتموا ضحكاتهم . لكن يارا قالت بطفولية ، وبصوت خفيف:
- وأيضا الضحك من غير سبب قلة أدب.
إنفجروا يضحكون من جديد ، واحمر وجهها خجلا . ثم حط عليهم الصمت لحظات , حتي قال نادر فجأة:
- لماذ يا أستاذ عيسى لم يحدث استدعاؤك من قبل إلى أمن الدولة؟
إرتبك عيسى ، وتحركت عيناه كثيرا، ولم يرد. همست يارا لنادر:
- أحرجت الرجل.
عيسى سمعها . لكنه لن يتضايق من نادر. نادر شاعر من الصعب أن يستقر على شاطئ . وحسن كاتب القصة والمسرح أقرب إلى الاستقرار. لكن بشر هو الأقرب جدا. الأكثر استعدادا للنضال .
خيم الصمت من جديد . بدا أن الجلسة على وشك الإنفضاض . قال عيسى وهو ينظر إلى بعيد:
- يبدو أنهم اكتفوا بالسنوات التي قضيتها في المعتقل.
حط عليهم صمت عميق هذه المرة ، فوقفت يارا وقالت:
- لازم أروح المكتبة.
وأسرعت .
ما إن خرجت من باب الكافتيريا, حتى عادت بسرعة قائلة:
- الحقوا الحقوا. طلبة يمزقون مجلاتنا.
إندفع حسن وكاريمان ونادر وبشر بسرعة إلى الخارج . كانت المجلات الثلاث ممزقة وملقاة على الأرض ، ويقف فوق أجزائها ثلاثة من الطلبة الملتحين لحيات صغيرة , يمسك كل منهم سلسلة حديدية في يده ، وبينهم فتاة محجبة لا تزال تمزق ما بين يديها من بقايا المجلات . لا أحد يعرف ماذا حدث. في لحظة واحدة صارت كاريمان ممسوكة من ذراعيها بيد إثنين من الطلاب الآخرين ، وهتف نادر في يارا أن تبتعد ، وانفرد بأحد الطلاب يتبادلان اللكمات ، كذلك كان حسن وبشر. كان طلاب كثيرون يجرون إليهم يحاولون التفريق بينهم , ونجحوا في ذالك بسرعة . كان من بينهم محمد شكر، الطالب الوسيم الأشقر الذي دائما، صيفا وشتاء، يظهر مرتديا بدلة زرقاء ، والذي يحبه الطلاب جميعا لابتسامته الدائمة ، وكونه صاحب الاقتراح العجيب العام الماضي ، حين كان مدرس الفلسفة الإسلامية فظا في معاملتهم، فجمع محمد شكر ما تيسر من مال من كل طالب، ومع بداية المحاضرة تقدم من المدرس حاملا هديه كبيرة ، هي لوحه عليها أسماء الله الحسنى، وقدمها للمدرس تعبيرا من طلاب قسم الفلسفة عن حبهم له ، ثم هتف ببيت شعرأحمد شوقي:
قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
فوقف طلاب القسم كله وصفقوا. بعد المحاضرة ذهب مع المدرس إلى مكتبه، وعاد طائرا يحمل ورقه بها الدروس الأهم التي سيأتي فيها الإمتحان . لقد حذف المدرس نصف الكتاب تقريبا.
وقف محمد شكر بين المتشابكين يهتف أن هذا لا يليق بطلبة جامعيين ، وأننا جميعا سنتخرج لنبني الوطن لا لنهدمه ، ويجب أن تتسع صدورنا لحرية الرأي.
كان يتحدث بإخلاص كبير، لكن أيضا ظهر بعض الموظفين , و طلبوا من الجميع التوجه إلى غرفة العميد.
كان عيسى سلماوي الذي تسلل من المكان دون أن ينظرإلى ما حدث، قد خرج ومشي المسافة القليلة الباقية في شارع بورسعيد , ليدخل شارع قناة السويس متجها إلى طريق الكورنيش , يقابله الهواء البارد , ويرى الغيوم في السماء كثيفة فوق البحر. سيمشي مع صوت الريح والموج إلى أتينيوس. لقد أنتهت نوة قاسم وبواقيها. أيام قليلة اذن تفصلنا عن نهاية العام . لعل الدنيا تمطر عليه الآن . إذا أمطرت سيظل يمشي . سيترك نفسه للمطر..
...........
أخذ حسن كاريمان و مشيا وحدهما , بعد أن هدد عميد الكلية الجميع بتحويلهم إلى مجلس تأديب , إن لم يكفوا عن الفتنة بينهم . كان حسن وبشر ونادر أكثر من غيرهم يعرفون أن العميد لن يفعل ذلك ، في الوقت الذي لن ينصفهم.
- ما رأيك أن نجلس قليلا في أوسع كازينو على الشاطئ . كازينو الشاطبي ؟
لم ترد كاريمان. كانت في غيظ شديد من الطالبين اللذين أمسكا بذراعيها، رغم أنها حين تخلصت منهما صفعت أحدهما على وجهه.
قال حسن وهو يشير إلى البحر:
- كل هذا الهواء الجميل في الإسكندرية كيف لا يشعر بروعته أحد.
لكنها أيضا لم ترد. قال:
- إنسي ما حدث يا كاريمان .
قالت:
- أنت أخذت حقك.
- وأنت أيضا صفعتي الولد .
- ليس كافيا.
أمسك بيدها وقال:
- يكفي أنه لا آثار على وجهك. أنا..
إبتسمت ثم قالت:
- لكن أنت أيضا ضربتهم كثيرا.
- دعينا ننظر إلى البحر..
كانا قد اقتربا من الكازينو. الموج يضرب الأعمدة الخرسانية التي تحمله، والتي يظهر حولها فوق الماء العشب الأخضر والطحالب التي نمت فوقها مع الزمن .
قطعا الممر المؤدي إلى الكازينو الجميل القائم وسط الماء . إتساع فائق بالداخل , ومقاعد وثيرة ومناضد عريضة , وجوانب زجاجية تتيح الرؤية من كل إتجاه , ودفء وصمت..
ليس في كل هذا الفراغ غير ثلاثة شباب وثلاث فتيات، يجلس كل زوج منهم على منضدة بعيدة كثيرا عن الأخري ، وكلها جوار النوافذ ، حيث يمتد خلفها البحر الأزرق وأمواجه الهادرة والأفق البعيد. عاد الأسى إلى وجه كاريمان. أمسك حسن بيدها وقال:
- أرجوك إنس الأمرهنا يا كاريمان . لا تفسدي بهاء المنظر . الولد أيضا اعتذر لك.
قالت منفعلة:
- وهل كان له أن يمسك بذراعي هو وزميله المتخلف.
سكت قليلا وابتسم ابتسامته التي لا تكتمل وهز رأسه , ثم قال عاجزا أن يثنيها عن الحديث :
- حكاية غريبة . يبدو أن الحرب بدأت بالفعل.
قالت في غضب:
- ما يغيظني هو موقف العميد . ما معنى أن يعتذروا لنا . المفروض أن يحولوا إلى مجلس تأديب ويعاقبوا.
- مغلوب على أمره يا كاريمان . اجهزة أمنية كبيرة في البلد تفعل ذلك. ليست الجماعات الإسلامية ولا الإخوان المسلمين وحدهم .
قالت في حدة:
- كان ينظر إليهم كأنه يقول لهم لماذا لم تقضوا عليهم. لماذا أتيتم مهزومين.
ربت على يدها وقال محاولا أن يبعدها عن المسألة من جديد :
- كاريمان. إهدأي. أنت معي الآن. البحر أمامنا . مارأيك أن ندخل سينما ؟
مارأيك أن نرى"باري ليندونBarry Lindon" في سينما رويال ؟ فيلم رائع لرايان أونيل، ومخرجه ستانلي كوبريك. طبعا تعرفين رايان أونيل .
- لا.
- أه. كنت صغيرة. وأنا أيضا. لكن أنا رأيت فيلمه الشهير في سينما درجة ثانية في المنصورة. فيلم قديم لكن مشهور جدا. قصة حب"Love Story"..
- أعرف الموسيقى فقط. سمعتها آخر مرة عند يارا..
وسكتت لحظة ثم قالت باسمة :
- دعنا نجلس هنا أطول وقت. البحر جميل.معك حق . لا تلمني .
إبتسم سعيدا , ونظرت إليه نظرة عميقة. اتسعت عيناها الخضراوان، لكن رفت على شفتيها ابتسامة مكسورة، فأمسك بيديها من جديد خائفا أن تعود إلي نفس الحديث , لكنها قالت :
- نفسي أسافر. نفسي أعدي البحر.
- أنا أيضا. ما رأيك نجعله مشروعنا بعد التخرج.
- والكتابة. القصة والمسرح ؟
- سأكتب هناك وأراسل الصحف والمجلات العربية. هناك في أوربا أيضا صحف ومجلات عربية. ومن يدري ربما أتقن لغة البلد التي نسافر إليها وأكتب بها.
راحت تنظر إلى الفضاء البعيد وتحلم ، وأشار حسن إلى الجرسون الشاب الذي تقدم مسرعا . طلب حسن كابتشينو له ولكاريمان . بدا أن كاريمان ذاهلة عنه تماما. قال:
- وحشتيني.
ابتسمت وقالت:
- معك منذ الصباح ودخلنا معركة ووحشتك!؟
ضحك ضحكته التي لا تكتمل مثل ابتسامته ثم قال:
- ما رأيك تسهري معي الليلة في نوال بوط؟
- أسهر في ملهى ليلي ؟تريد أن يقتلني زوج أمي؟
- سوف تحبينها جدا.
- نوال أم البوط ؟
ضحك هذه المرة بصوت عال. قال:
- نوال طبعا.
قالت:
- أنتم الرجال آخذين حقكم في الدنيا.
ثم عادت تنظر إلى البحر. قال:
- طيب ما رأيك اعزمك على الغداء عند محمد أحمد .
ضحكت وبدت مندهشة جدا. قالت:
- معركة وفول في يوم واحد ! هذا ظلم.
ضحكا من جديد فقال:
- الساندويتش الآن صار بقرشين صاغ. تضاعف يعني.
لكنها عادت تنظر إلى البحر من جديد. قال:
- نفسي آخدك في حضني.
قالت ضاحكة:
- وماذا يمنعك؟
إرتبك لحظة ثم تلفت حوله ووقف قائلا:
- إذن سأفعلها هنا في الكازينو.
وأمسك بيديها يوقفها وهي تتملص منه في دهشة وتقول"يا مجنون" , لكنها
كانت قد وقفت , فأخذها إلى صدره وقبلها على خدها بسرعة لأنها انحرفت بفمها عن فمه، وتركها وعاد يجلس ويقول ضاحكا بلا صوت :
- يوم بدأ بمعركة يمكن أن ينتهي في قسم البوليس . لا مشكلة.
كانت هي قد أطرقت , ووضعت رأسها بين يديها كأنها تخفي نفسها عن انظار الجالسين , والجرسونات الثلاثة الواقفين بعيدا جدا. قالت هامسة:
- لازم نمشي فورا.
لكن الدفء الذي سرى من صدرها إلى صدره ، وطراوة صدرها , كانا لا يزالان يهدهدان روحه. كذلك كان طعم القبلة الناعم على شفتيه. قال:
- لا تخافي.
ونظر إلى الجرسونات الثلاثة بعيدا, فوجدهم ينظرون إليهما , لكن لا يتحدثون. قالت:
- أنا خائفة جدا.
- انتظري حتى نشرب الكابتشينو.
شملهما الصمت حتى وصل الجرسون حاملا الكابتشينو. وضع كل شيء أمامهما علي المنضدة صامتا وأنصرف.
قالت:
- إدفع الحساب ودعنا نمشي. ليس مهما أن نشرب الكابتشينو.
قال:
- أمام تصميمك وخوفك سأفعل ذالك رغم أن أحدا لم يعترض على ما فعلنا. لي شرط واحد . أن تأتي معي الآن إلى الشقة. لا تخذليني هذه المرة أيضا .لماذا حقا دائما ترفضين ؟
سكتت لحظات كتم هو فيها أنفاسه منتظرا ، ثم قالت في لا مبالاة:
- لا مانع. المهم أن لا نتأخر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.