تُثيرُ الأحداث الجارية في مِصرنا الغالية والوطن العربي الكثير من التساؤلات المهمة والملحة والمتعلقة بالعملية السياسية من وجهةِ النظر الإسلاميَّة. ويبرز التساؤُل المهمّ من عدةِ صيغي. منها: هل التشدّد والتطرُّف من الإسلام؟ وهل هذه التيارات هي التي ستسود مصطدمة بالآخرين. وهل ممكن يختلفون معها فكرياً وعقائدياً. مؤدّية إلي صراع ونزاعات أم أنَّ العكس سيسُود؟ هَذه التساؤلات المستجدة والمتفاقمة تشعل الأحقاد والنعرات المذهبية التي تُؤدي إلي الضَّرر المحدق بالجميع. لذَا فلا بُدَّ منَ البحثِ في الأصولِ الفكريةِ لهذه الظواهرِ السَّلبيَّةِ. وإيجَاد سُبل التَّعامل الصَّحيح مع هذهِ الأصولِ والجذورِ الخاطئة والسَّيئة.. لتحقيقِ الخيرِ للجميع. عبرَ تصحيح المعتقدات الخَاطئة والتَّوجهات الخاطئة. بما يحقُّ الحقَّ. ويزيحُ ما يلحق عقيدتنَا الصَّحيحة من شَوائب . وجميعنا يعرف الاعتدال وينشده وينبذ معكوسه ونقيضه. لأنَّ الاعتدال لم يدخل في شئي إلاّ زانَه. ولم يغب عن شئ إلا شَانه. بيدَ أنَّ مفهوم الاعتدال والتطرف في ¢ المجال السياسي ¢ يُفسَّر علي هَوي بعض الأشخاص. لذا كان لزاماً علينا وحتماً مقضيّاً أن نبين مفهوم الاعتدال الذي يعني ¢الوسطية¢. والاعتدال ليس فقط وضعاً وسطاً بينَ التشدد والتسيب وإِنمَا هُو أَي الاعتدال موقف مُتزِن ومُتوازِن ليس فيه تشدد وغلو وليس فيه تسيباً وانحلالاً إنّه الوسطية التي أَمر الله عباده باتباعهَا والتّمسك بها وعدم التفريط فيها. ومع الاعتدال السياسيّ يحصل الشعُور بالعدل والأمان. ومع الوسطيّة تتحقق الخيرية والأفضلية. ودون ذلك التخبط والتطرف أو الخمول والتفريط. قال أبوالعلاء المعريّ: إذا كنتتَ تبغي العيشَ فابغِ توسُّطاً.. . فعندَ التناهي يقصُرُ المُتَطاوِلُ والطَّرف المعتدل يتجنب بالضَّرورة عواقب التَّطرف والتشدد وتبعات التسيب. ويتمكن - ربما أَكثر من غيره - بالتالي بالحفاظ علي أَمنه وسَلامته وحماية عقيدته وصَون مبادئه وازدهار توجهَاته. بينمَا التشدد يؤدي في الغالب إِلي خَلق أَعداء ومناوئين يُحاربُون المتشدد بشتي الطرق والوسائل. وَيقفُون في وجه تَطرفه مُحاولين كَسر ذلك التطرف وإِنزال الهزيمة به والعمل علَي تواريه واختفائه. وكذلك التسيب يثيرُ الاستياء من صَاحبه وربما يتسبب في اهانته وتراجعه والنفور من توجهاته. لذلك كان الاعتدال وما زال وسيظل هو خيار العقلاء الساعيين للحفاظ علي أَمنهم وسَلامتهم والعاملين بفاعلية علي حماية عقيدتهم وصيانة مبادئهم ونشر توجهاتهم. أَما التشدد والتسيّب فمصير من يتبناهما الهزيمة والخسران. ونجد أن الاعتدال السياسي في عالم اليوم بعد الثورة الفرنسية يتركز علي ما يُسمي بالوسط. فقد أطلق علي الأيدلوجيات السياسية ربما من القرن الثامن عشر صفات اليمين. واليسار. والوسط. ونجد فعلاً أنَّ الاعتدال السياسيّ الحديث يكمن في نقطةِ الوسط. ولذا عرف السَّاسة الاعتدال السياسي بأنّه التوجه السياسي الساعي للمواءمة بين التمسك بأهم القيم النبيلة السائدة في مجتمعه. والاستفادة من معطيات حركة التحديث العالمية المتواصلة. في شتي المجالات. وهو سلوك يعترف بالآخر وبخياراته. في ذات الوقت الذي يتمسك فيه بهويته وقيمه المقبولة. ونجد أن الإسلام يعترف بالتعايش مع الآخر. ووثيقة المدينة مع اليهود خير دليل علي دستور المواطنة في المجتمع المدنيّ. ولا يعني الاعتدال الإسلامي رفض عمليات التحديث العالمية في شتي المجالات. ما لم تمس الثوابت العقدية للمجتمع المسلم. ولا تتعارض مع القيم النبيلة التي تسود مجتمعاتنا. وبالطبع تعترف بالآخر ¢المختلف¢ وتحترم اختياراته ما لم تحرم حلالاً أو تحلّ حراماً. إن الاعتدال السياسي في ميزان الشريعة الإسلامية يعني الموقف الوسط العقلاني الذي يعمل علي ما فيه خير وصلاح الأمّة. بشرط ألا يتعارض - كما قلتُ - مع عقيدتها وقيمها ومصالحها. والأخذ بوسائل التقدم الحديثة ¢ من وسائل مسموعة ومرئية متعددة ¢. والتعايش مع الآخر ¢ المُختلِف ¢ واحترام خياراته. وعدم الاقتصار علي منفعة أصحاب الرأي المناصر وإقصاء الآخر. بل والتعاون معه عند الاقتضاء بما يخدم الأمة والإنسانيّة جمعاء. لأننا نركب باخرة واحدة فإذا خرقت غرقت وإذا غرقت غرقنا معها جميعا. ولذا نري أن الاعتدال السياسي أصبح ضرورة. فتخلف العرب في معظم أسبابه يعود إلي سيادة تياري بعينه. وإقصاء الآخر. وربما يكون متشدداً في بعض أفكاره. أو متسيباً في بعض بلدانه. وغالباً ما يقفون موقف الرافض والمزري لمَا عداهم سياسياً. وقد تصل هذه ¢الكراهية¢ لدرجة العنف واستخدام السِّلاح والإرهاب. الأمر الذي يجعلهم مكروهين من قبل أولئك الأغيار. ومن سُوء الحظّ أنّ أولئك الأغيار يتهمون الإسلام كله بالتَّطرف ورفضِ الآخر¢ وإن كان من بني جلدتنا ¢. ويتناسون عمداً تعاليم ديننا الحنيف ووسطية الإسلام. ومنهجه القويم في السياسة الشرعية عبر العصور والأزمنة. ويتجاهلون كون هذا التشدد - في الغالب - يصدر من فئة محدودة في المجتمع المسلم تبحث عن مصَالحهَا الشخصية باسم الدين. وكل هذا يؤدي إلي الإضرار بمصالح الإسلام وتهديهم أولاً. وإقحام لهم في صراعات لا أوَّل لها ولا آخر. كما أننا لا نريد العودة إلي التسيب الذي يقود - غالباً - إلي فقدان الهُويَّة. وفقدان احترام الغير والتعثّر في طريق العزة والكرامة. والقوة والمنعة. وضياع الشخصيّة المميزة. فما أحوجنا الآن إلي الاعتدال. لأنه يعني: احترام الآخَر واحترام خياراته. ومن ثَمَّ استدعاء محبة وقبول وتعاون ذلك الآخر. وذلك يصبّ - في نهاية الأمر - في مصلحة الإسلام والمسلمين عامة ومصرنا خاصة. ويسهم إسهاماً مباشراً في نهضتنا. فما بالنا الأمم تتقدم ونحن نتأخر. لأننا لم ننبذ التشدد والتطرف والتسيب ونتمسك بالاعتدال والوسطية في علاقاتنا وسلوكياتنا المختلفة. وفي النهاية نقرر أنه من المؤسف أن ظهرت جماعات وفئات مصرية تتبني التشدد. وتتسم بالتطرف فكراً وسلوكاً. كما ظهرت فئات قليلة - أيضاً - تتسم بالتسيّب. لذلك لا بد أن ننشر ثقافة الاعتدال في الوسط الثقافي والتعليمي. والعمل علي تعويد النشء ¢بصفة خاصة¢ علي التسامح. والسعي لتحقيق الأهداف الخيرة بالحسني والتفاهم والحوار البنّاء.