حث الإسلام الحاكم في كل زمان ومكان أن علي حسن اختيار بطانته لأنه مسئول عنها أمام الله. وهم من ينصحونه إلي الحق أو يعمون بصيرته عن الحق. وقد ضرب الرسول صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بوجه عام المثل الاعلي في حسن اختيار الباطنة الصالحة ولم يشذ عن هذه القاعدة الا القليل مثل حدث في عهد ذو النورين عثمان بن عفان فحدثت الفتنة الكبري. علي عكس الوضع أيام الرسول وخليفته الصديق والفاروق. من هنا تأتي أهمية هذا التحقيق الذي نعرض من خلاله لنماذج من البطانة الصالحة وبطانة السوء في مختلف العصور. أشار الدكتور أحمد عمر هاشم. عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر. إلي أن أخطر أنواع البِطانات السيئة هم أولئك الذين يلبسون ثوب الخلق والفكر والدّين ويعتبرون أنفسهم الأحرص علي مقدرات الأمّة ومستقبلها والأخطر من ذلك أن يقوموا بعزل الحاكم عن النّاس كي يبقي بعيداً عن الحقيقة ذلك من أجل المحافظة علي مراكزهم ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم:¢ ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه. وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه. فالمعصوم من عصم الله تعالي ¢. وقال في رواية: ¢ما من والي إلا وله بطانتان. بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر. وبطانة لا تألوه خبالا. فمن وُقي شرها فقد وُقي. وهو من التي تغلب عليه منهما¢. وأشار الدكتور عمر هاشم الي أن البطانة معناها ¢ الدخلاء¢ الذين يدخلون علي الحاكم أو المسئول في مكان خلوته ويفضون إليه بسرهم ويصدقهم فيما يخبروه مما يخفي عليه من أمر رعيته ويعمل بمقتضاه. وقيل ¢البطانة¢ هي الصاحب. وهو الذي يُعرّفه الرجل أسراره ثقة به شبهه ب¢ بطانة الثوب¢ القريبة من كل أسرار جسد الإنسان وتعلم خفاياه وتستره عن الناس. وأوضح الدكتور عمر هاشم. أن الفاروق عمر بن الخطاب حذر من بطانة السوء فقال:¢ شاور في أمرك الَّذِينَ يخافون الله. وأحذر بطانة السُّوء وأَهْل الرَّدَي علي نفسك ¢.وذلك لأن أحد أسباب تمادي الظلمة في ظلمهم هم بطانة السوء وإعانة بعض الرعية الظالم علي ظلمه. وأنهي الدكتور عمر هاشم.أن بطانة السوء تقوم بدور الشيطان وسوسةً وتزييناً للباطل ولهذا يقول الله تعالي عنها ¢ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ¢. ولهذا نري الإمام ابن كثير. يُفسر هذه الآية الكريمة بقوله: ¢يقول الله- تبارك وتعالي- ناهياً عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة أي: يُطْلعونهم علي سرائرهم. والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خَبَالاً أي: يَسْعَوْنَ في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن. وبما يستطيعونه من المكر والخديعة. ويودون ما يُعْنتُ المؤمنين ويخرجهم ويَشُقّ عليهم¢. ذلك لأن بطانة السوء لا تأمر إلا بالشر والفساد ولا تدخر جهداً في الفساد وجلب الضرر. كما أنّ بطانة السوء تمنع الحاكم من رؤية الحقيقة بسبب تزيينهم له الباطل وتشجع الظالم علي الاستمرار في ظلمه وفساده وبغيه بل وربما زيّنت له توسيع دائرة الظلم والفساد. الحق والباطل أوضح الدكتور عبد الرحمن العدوي. عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر. إلي أن أكثر ما تتقرب بطانة السوء إلي الحاكم بالثناء عليه وتزيين أعماله وتقديم الهدايا له لتظفر منه علي موافقته علي مآرب غير مشروعة أو تجعله يغض الطرف عن مفاسدهم. واستغلال نفوذهم. وبالتالي فإن بطانة السوء لا تطيق أن تري أحداً غيرها حتي لا تحرم من مكانها ولذلك قيل:¢ السّيفلة هم من يأكلون بالطبل والمزمار وسِفْلةُ السِّفلة هم من يأكلون بدينهم ¢ كما أن التاريخ الإنساني كله وليس الإسلامي فقط يؤكد أن بطانة السوء هلاك للحكّام والمحكومين فقد كان من أسباب تدمير ملك فرعون وزيرُه هامان. قيل: إن فرعون ركن إلي قول موسي لما دعاه. وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان. فشاور هامان فقال: لا تفعل. بعد أن كنتَ مالكاً تصير مملوكاً. وبعد أن كنت رباً تصير مربوباً. وقال له: أنا أردك شاباً... فخضّب لحيته بالسواد. فهو أول من خضب¢. وأضاف العدوي: يروي عن التابعي الشهير ¢أبو حازم ¢ عندما حاول أحد بطانة الخليفة سليمان بن عبد الملك أن يصده عن نصح سليمان: ¢ اسكت. إنما أهلك فرعونَ هامانُ وهامانَ فرعونُ ¢.وكما كان الملأ مع فرعون مشتركين في الظلم الذي لازمه الفساد والإفساد.فهم أيضا مع فرعون في رفض الحق والامتناع عن قبوله.كما أنّهم في الإجرام سواء. يقول تعالي:¢ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَي وَهَارُونَ إِلَي فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ . فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرى مُبِينى * قَالَ مُوسَي أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرى هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ¢ أكد الدكتور العدوي. أن الإسلام حذّر كل رئيس أو أمير أو مسئول من بطانة السوء والنمامين الذين ينقلون الوقائع والكلام بُغية الإفساد بين الإخوة ولرغبة نابعة من حسد دفين لمحو الحب والاحترام المتبادل بين المتحابين فقال: ¢أَلاَ لاَ يُبَلِّغْنِي أَحَدى مِنْكُمْ عَنْ أَحَدي مِنْ أَصْحَابِي شَيئْا» فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ¢. وقوله أيضا:¢ من ولي منكم عملا. فأراد الله به خيرا. جعل له وزيرا صالحا. إن نسي ذكّره. وإن ذكر أعانه ¢ وأنهي الدكتور العدوي كلامه مؤكدا علي ضرورة حسن الظن بجميع الرعية حتي يثبت العكس بالأدلة والشواهد والبينات وعندها يعملون وفق ضوابط التشريع لا ما يمليه عليهم الهوي أو الانتقام فقد قال رجل يا رسول الله: ما الحزم؟ قال: أن تشاور ذا لب ثم تطيعه "ونقل عن أشهب قوله "انه ينبغي للحاكم أن يتخذ من يستكشف له أحوال الناس ومصاعبهم في الحياة وليكن ثقة مأمونا فطنا عاقلا لأن المصيبة تدخل علي الحاكم من قبوله قول من لا يوثق به" والبطانة إذا لم تكن صادقة فإنها تعد خيانة لله لقول صلي الله عليه وسلم "الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله. قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". عبر وعظات يشير مؤرخ الأزهر الدكتور مجاهد الجندي. أستاذ التاريخ الإسلامي ? جامعة الأزهر إلي انه قد جاء في كتاب ¢أنيس الجليس¢.:¢ إن السلطان إذا كان صالحاً. ووزراؤه وزراء سوء منعوا خيره. فلا يقدر أحد أن يدنو منه.ومثله في ذلك مثل الماء الطيب الذي فيه التماسيح. لا يقدر أحد أن يتناوله وإن كان إلي الماء محتاجاً. وإنما الملك زينته أن يكون جنوده وينظرون في صلاحهم¢ وأكد الدكتور الجندي. أن البطانة يشكلون خط الدفاع الأول للطاغوت وهم الذين يكافحون الحق ويُلحقون الأذي حتي بالأنبياء وأتباعهم ولهذا دعا الرسول صلي الله عليه وسلم عليهم:¢ اللهم عليك الملأ من قريش. اللهم عليك أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف أو أبي بن خلف¢ وذلك لأنهم حجر عثرة أمام تقدم الحق وانتشاره ¢وهؤلاء وأمثالهم من بطانة السوء صدق فيهم قول رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:¢ إن رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حق. فلهم النار يوم القيامة¢. وأوضح الدكتور الجندي. انه في تاريخنا الإسلامي عشرات بل مئات الأمثلة التي تؤكد لنا خطر البطانة الفاسدة علي هذه الأمة فمثلا ابن العلقمي وزير المستعصم آخر خلفاء الدولة العباسية. كان له أثره البالغ في انهيار الخلافة ومقتل أهل بغداد علي بكرة أبيهم. وزوال الملايين من الكتب الشرعية والعلمية نتيجة إغراقها في النهر. وما ذلك إلا لتعاونه مع التتار الغزاة. فضلاً عن مشوراته الفاسدة التي قللت عدد الجيش من مائة ألف مقاتل إلي عشرة آلاف. ونهيه الناس أن يقاتلوا التتار. وغيرها من قراراته الهادمة ولهذا يجب أن نتيقن أن للبطانة دورها المحوري العظيم في قيام الأمم وانهيارها وصدق معاوية بن يزيد بن معاوية حينما قال عندما خلع نفسه من الخلافة وجعل الأمر شوري- لمن أرادوا أن يعدلوه عن قراره هذا. أو يجعلوا أمره في أهل بيته: ¢والله ما ذُقْتُ حلاوة خلافتكم. فكيف أتقلد وزرها وتتعجلون أنتم حلاوتها. وأتعجل مرارتها؟¢.ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن التين قوله ¢ ينبغي للحاكم أن يتخذ من يستكشف له أحوال الناس في السر وليكن ثقة مأمونا فطنا عاقلا لأن المصيبة إنما تدخل علي الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به إذا كان هو حسن الظن به فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك¢ وقال الدكتور الجندي: في تاريخ الأمم عِبر وعظات ومنها مقتل الخليفة المتوكل علي الله علي يد البطانة الفاسدة. وانهيار دولة الخلافة الإسلامية العثمانية بفعل قلّة من اليهود والمنافقين الأتراك الذين تقلدوا المناصب العليا ومواقع القرار حتي فكّكوا الدولة وأضعفوها ولهذا فإن البطانة السيئة أخطر علي الحاكم منها علي المحكومين فهي تحرّضه لبيع دينه بدنياه وتؤدي به إلي التفريط بأمانته التي تولاها في عنقه بل قد تعجّل بزوال ملكه حين تتأزم أوضاع البلد ويُشحن الناس ضد سياساته مما قد يدفعهم للانفجار عاجلا أو آجلا. مع العلم أن بطانة السوء نوعان أولهما:بطانة غرضها ونيتها سيئة: همها الأول مصلحتها الشخصية وإن كان في هذه المصلحة إضرار بمصلحة الدولة والأمة. وثانيهما: بطانة نيتها صالحة ولكنها ليست ذات كفاءة وهي تلك التي تختار لصداقة ومعارف شخصية لا علي أساس الكفاءة فتضر بالدولة من حيث لا تقصد لأنها غير مؤهلة وكلاهما خطر ومضر بالدولة بل قد يكون الثاني أحيانا أشد ضرراً لأنها تهدم الدولة بحسن نواياها. شواهد تاريخية أكد الدكتور سعد الحلواني. أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر. أن الصحابة أفضل بطانة لقول الله تعالي:¢لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً¢ وقد قال عمر بن الخطاب لبعض الصحابة يوما: ¢تمنوا فلما أنهوا أمنياتهم قال عمر: ¢أنا أتمني لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولي أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان أستعين بهم علي أمور المسلمين¢. وأوضح الدكتور الحلواني. أن من يتأمل تاريخ سقوط الدول الإسلامية في كل زمان ومكان سيجد أن ¢ بطانة السوء ¢ أحد الأسباب الرئيسية للسقوط حتي لو كان الحاكم طيباً. وقد تقوم بطانة السوء بالوشاية بالعلماء وهذا واضح جدا في سير أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة. ولهذا يجب أن يقرب الحكام العلماء أليهم ويستمعوا لمشورتهم فقد روي أبو سفيان الثوري: لما حج الخليفة المهدي قال: لا بد لي من سفيان فلما حضر قال له: لم لا تأتينا فنستشيرك في أمرنا؟ فما أمرتنا من شيء صرنا إليه وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه. فقال سفيان: كم أنفقت في سفرك هذا؟ قال: لا أدري لي أمناء ووكلاء.قال: فما عذرك غداً إذا وقفت بين يدي الله تبارك وتعالي فسألك عن ذلك؟ لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حج قال لغلامه كم أنفقت في سفرنا هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر ديناراً.فقال: ويحك أجحفنا بيت مال المسلمين. فقال أبو عبيد الكاتب مستنكرا: أمير المؤمنين يستقبل بمثل هذا؟.فقال سفيان: اسكت إنما أهلك فرعون هامان¢ وأشار الدكتور الحلواني. الي أن من مهام بطانة السوء اختراع المؤامرات ليعتمد عليهم. أراد رجل أن يتكلم. قال له عبد الملك بن مروان: احذر من كلامك ثلاثًا:إياك أن تمدحني فإني أعلم بنفسي منك.أو تكذبني فإنه لا رأي لكذوب.أو تسعي إليَّ بأحدي من الرعية فإنهم إلي عدلي وعفوي أقرب منهم إلي جوري وظلمي. وإن شئت أقلتك.فقال الرجل: أقلني. فأقاله. وانهي الدكتور الحلواني كلامه مؤكدا أن بطانة السوء تعمل تضخيم الإنجازات مهما كانت صغيرة فمثلا يروي أن الخليفة العباسي المهدي استدعي بعض الشعراء إلي مجلسه. وكان فيهم أبوالعتاهية. وبشار بن برد الأعمي. فسمع بشار صوت أبي العتاهية. فقال بشار لجليسه: أثم هاهنا أبوالعتاهية؟! فقال: نعم. فانطلق أبوالعتاهية يذكر قصيدته التي قال فيها: أتته الخلافة منقادة ليه تجرجر أذيالها فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها ولو رامها أحد غيره لزلزلت الأرض زلزالها ولو لم تطعه بنات القلوب لما قبل الله أعمالها فقال بشار لجليسه: انظروا هل طار الخليفة عن فراشه أم لا؟!