"إمام المتقين" الإمام الأكبر الدكتور عبدالحليم محمود هكذا لقبه المفكر الإسلامي الراحل خالد محمد خالد. وهكذا أحسن في اختياره. فالمتقون هم صفوة الخلق. الذين يتعالون عن أي نقيصة فلا يعرفون النفاق أو الجبن. أو الخوف أو الرياء. أو الكذب. بل يعرفون الخير ويعيشون له وبه. وينأون عن الشر والشبهات ولا يقتربون منها. كان رحمه الله مولعاً بالزهد مع العزة. والتقشف مع الاناقة. واللين مع القوة. الصمت مع الجهر بالحق. كان د. عبدالحليم محمود - رحمه الله - زاهداً إلي أبعد حد من الزهد. زهداً غير مصطنع. أو زهد مرحلي. لكنه كان منهجاً في حياته. فمثله لا تعنيه من متاع الدنيا اي شيء كانت أكبر ثروة جمعها في حياته هي مكتبته الضخمة التي كانت تضم آلاف المراجع والمجلدات التي جمعها طيلة حياته سواء التي جلبها معه بعد عودته من باريس أثناء دراسته في "السربون" أو التي جمعها من مكاتب مصر والدول الإسلامية. وحينما كنت تدخل منزله الكائن في شارع العزيز بالله بالزيتون تبهرك ضخامة المكتبة. تماماً كما تبهر قصور الأباطرة نفوس الذين يريدون الحياة الدنيا. ولكن سرعان ما يتوقف انبهارك بها حينما تتجول عيناك علي اثاث الشقة فهو أثاث مثل أثاث أي منزل لأقل موظف في مشيخة الأزهر وقت ذلك أما إذا قسنا ذالك الآن لقل بكثير عن أثاث أصغر موظف بالأزهر. زاهد أنيق وكما أخبرني د. منيع عبدالحليم محمود - رحمه الله - بأن الشيخ لم يهتم بشيء في حياته مما يطلق عليه الوجاهة إلا لبسه. فكان يهتم بزيه الأزهري أشد اهتمام ومن أفخر الأقمشة. لاعتزازه اللانهائي بزي الأزهر ويأتي مع ذلك مكتبته أما غيرهما لا شيء يشد انتباهه من مباهج الحياة. المهم عنده - رحمه الله - ان يؤدي ما عليه نحو دينه وربه. وكما يقول د. منيع كان هذا منهج حياة لا أخلاقيات قابلة للتغيير مع متغيرات الحياة. فحاله هو الحال. حينما كان استاذاً بالجامعة أو أميناً عاماً لمجمع البحوث الإسلامية أو وكيلاً للأزهر أو وزيراً للأوقاف. أو شيخاً للأزهر - هو.. هو. رفض الفيلا ومن الأسرار في حياة الإمام الدكتور عبدالحليم محمود والتي لا يعرفها أحد.. انه فور توليه مشيخة الأزهر حضر إليه مندوبا من رئاسة الجمهورية وكانت مهمته عرض علي الإمام الأكبر رغبة الرئيس الراحل محمد أنور السادات في منحه "فيلا" من فيلات شارع العروبة بمصر الجديدة والتي تملكها رئاسة الجمهورية حتي تتناسب ووضعه الجديد بدل الشقة الايجار. وكعادة عظماء التاريخ لم يفكر حتي يترك للنفس بإن ان تعمل داخله فتثنيه عن أخلاقه وقناعته فرفض رفضاً قاطعاً. فأخبره مندوب رئاسة الجمهورية له الحق في تملكها طبعاً دون مقابل. أو أخذها ايجارا طبعاً ايجاراً رمزيا إلا انه رفض وبشدة. وأخبر مندوب رئاسة الجمهورية ان مثل هذه الفيلا كانت من فيلات البشاوات قبل ثورة 23 يوليو. وتم سلبها منهم عنوة. وبدون وجه حق فهي مسكن مسلوب. والاقامة فيه حرام وبذلك أكون قد "أقرايت" بتقنين السلب وقننت الحرام فبعداً بيني وبين أي حرام. فلست بحاجة لفيلات أو غيرها.. كل ما أتمناه هو مقعد صدق عند مليك مقتدر. وخرج مندوب رئاسة الجمهورية وهو يضرب كفاً بكف. وكأنه يقول.. هل هناك بني آدم بمثل هذه الأخلاق. يعرض عليه فيلا ببلاش.. ومن رئس الجمهورية ويرفض. والله لو أخذها وطلب فرشها علي نفقة الدولة ما تردد السيد رئيس الجمهورية.. وكانت هذه الواقعة من أولي علامات تقدير الرئيس الراحل محمد أنور السادات للإمام الأكبر د. عبدالحليم محمود. إذاعة القرآن حينما انشأ الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إذاعة القرآن الكريم. بدأ بثها بإذاعة القرآن الكريم فقط. وكانت ذات ارسال ضعيف. واستمر هذا الحال حتي مجيء الإمام الأكبر د. عبدالحليم محمود. وكان صاحب مشروع إسلامي كبير يتخطي حدود التصوف والأزهر بل ومصر. فقد اساءه ان تكون المحطة الأولي في العالم للقرآن الكريم يكون إرسالها هكذا ضعيفا رغم الاقبال الكبير عليها وتأكد له ذلك حينما التقي بالدكتور كامل البوهي رئيس المحطة وقتها. وبحث الأمر معه في ايجاد وسيلة لتقوية ارسال المحطة. وانتهي الأمر ان الدولة لن تدعم اي شيء لتقوية الارسال وليس في نيتها ذلك . ويمكن ان نقوم بحملة لجمع التبرعات لانشاء محطة تقوية لارسال إذاعة القرآن الكريم. رحب الإمام الأكبر د. عبدالحليم محمود بالفكرة وتم الاتفاق علي آليات تنفيذ الفكرة حيث يقوم الإمام بزيارات متعددة للمحافظات لحث الناس علي التبرع. وسوف تتجول معه الاذاعة لإذاعة محاضراته ودعوته لذلك لم يتوان الإمام في القيام بهذا الأمر ووضع خطة للانطلاق لزيارة جميع المحافظات والمراكز ومعه طاقم من الاذاعة. وبدأت الفكرة تؤتي ثمارها. وتطوع الناس بالكثير من أموالهم ولما علم وزير الإعلام بهذه الخطوات التي انبتت ثمارها غضب غضباً شديداً معلناً: مالنا ومال شيخ الأزهر؟! هو ماله بالإذاعة؟ وأصدر أوامره لمدير الإذاعة بوقف هذا المسعي وعدم الذهاب مع شيخ الأزهر في أي مكان لهذا الغرض كان هذا القرار كفيلاً لوقف هذا الانجاز.ونظراً لفطنة الإمام الأكبر وحرصه علي الحق. ونشر الدعوة. والمحافظة علي القرآن والمحطة التي تحمل اسمه. فغضب هو الآخر من وزير الإعلام. واشتد غضبه حينما توقفت الحملة. فلم يكلم وزير الإعلام في ذلك ولم يستعطفه ولم يذهب إليه لكنه حدد موعداً سريعاً مع رئيس الجمهورية. وذهب إليه واشتكي له مسعي وزير إعلامه. وأخبره بحجم الانجاز الذي تم من أجل تقوية إرسال إذاعة القرآن الكريم التي تعد نقلة حضارية وابداعية لمصر. ونظراً لان الرئيس الراحل محمد أنور السادات كان يجل ويحترم الإمام الأكبر أشد الاجلال فقدرفع السماعة وطلب وزير إعلامه. وشدد معه في الكلام من فعلته الا ان وزير الإعلان كان سريع البديهة ولم يحرج نفسه أمام الرئيس فأخبره انه منع جمع التبرعات التي يقوم بها الإمام الأكبر د. عبدالحليم محمود لان الوزارة أعدت من تلقاء نفسها محطة كبيرة لتقوية ارسالها وقد انتهينا من انشائها في محافظة الغربية وأغلق الرئيس محمد أنور السادات المكالمة مع وزيره وضحك في وجه الإمام وقال له الرجل انشأ محطة ضخمة للاذاعة.. وسوف تعمل قريباً. ألا يفرحك هذا؟ واطمأن الامام الأكبر وخرج غانماً لا لنفسه ولكن لدين الله.