يقول الله تعالي في مُحكم تنزيله: "ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغني الله والله غني حميد" التغابن:.6 يقول المفسرون: قالوا ذلك علي سبيل الاستغراب والتعجب: أرسل من البشر يكونون هداة لنا» قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره: أنكروا أن يكون الرسول بشراً ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً» وذلك لقلة عقولهم وسخافة أحلامهم. وقال سبحانه مخبراً عن قوم نوح عليه السلام "فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم...". يقول محمد علي الصابوني الأستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الملك عبدالعزيز بمكة المكرمة في كتابه "صفوة التفاسير": أي ما هذا الذي يزعم أنه رسول إلا بشر مثلكم يريد أن يطلب الشرف والرياسة عليكم بدعواه النبوة لتكونوا له أتباعاً. والعجب كل العجب من ضلال قوم نوح عليه السلام الذين استبعدوا أن تكون النبوة لبشر وأثبتوا الربوبية لحجر قال عنهم جل شأنه: "وقالوا لاتذرن آلهتكم" أي فيما بينهم: لا تتركوا عبادة الأوثان وتعبدوا رب نوح "ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً" نوح: .23 قال الشيخ الفقيه أحمد بن محمد الصاوي المالكي توفي "1241" هجرية في حاشيته علي تفسير الجلالين: هذه أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالي وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم» ولذا خصوها بالذكر» وهذا من شدة كفرهم وفرط تعنتهم بالمكر والاحتيال. ويقصد بالجلالين: جلال الدين المحلي "791 864" هجرية وجلال الدين السيوطي "849 911" هجرية. وقد ذكر الدكتور عمرو أبوالفضل أن تفسير جلال الدين المحلي للقرآن الكريم المسمي "تفسير الجلالين" من أهم كتب التفاسير. كتبه من أول سورة الكهف إلي آخر القرآن. ولكنه لم يكمله. فعندما شرع في تفسير سورة الفاتحة وما بعدها وافته المنية. فأتمه الإمام جلال الدين السيوطي علي نفس النمط والمنهج. ولذا سمي هذا التفسير "الجلالين" نسبة إلي مؤلفيه الجليلين» جلال الدين المحلي. وجلال الدين السيوطي. وجاء في غاية من الاختصار والإيجاز. وتميز بوضوح الأسلوب. والابتعاد عن التعقيد والغموض. وكان يبدأ بذكر ما تدل عليه الآيات القرآنية. وما يفهم منها. واختيار أرجح الأقوال وأصحها» ويقوم كذلك علي إعراب ما يحتاج إلي إعراب. دون توسع أو تطويل يخرج عن القصد. بل في حدود ما يفي بالغرض. ويوضح المقصود والمطلوب. والتنبيه علي القراءات القرآنية المشهورة علي وجه لطيف. وبتعبير وجيز. "...ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين" المؤمنون: .24 أي: ولو أراد الله أن يبعث رسولاً في زعمهم لبعث ملكاً ولم يبعث بشراً. وقد رد عليهم سبحانه بقوله: "قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين" أي: لو كان أهل الأرض ملائكة يمشون علي أقدامهم كما يمشي الناس ساكنين في الأرض مستقرين فيها "لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً" الإسراء: 95 أي: لنزلنا عليهم رسولاً من الملائكة» ولكن أهل الأرض بشر فالرسول إليهم يجب أن يكون بشراً من جنسهم» إذ جرت حكمة الله تعالي أن يرسل إلي كل قوم رسولاً من جنسهم ليستطيعوا مخاطبته والاستفهام منه عما جهلوا من أمور. لقد عابوا بشرية الرسل ثم حسدوهم يقول سبحانه مخبراً عن رسوله هود عليه السلام حينما قال قومه: "... ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون" المؤمنون: .34 وقال الله تعالي مخبراً عن بني إسرائيل: "فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون" المؤمنون: 47. وقصدوا بالبشرين موسي وهارون عليهما السلام. لقد تعجب الكفار والمشركون علي مر العصور وتتابع الدهور من أن يفوز بعض البشر الذين اجتباهم الله تعالي برتبة الرسالة والوحي ومقام القرب مع أنهم بشر مثلهم فحسدوهم. إن الرسل عليهم السلام يشاركون الناس في طبيعتهم البشرية» ولكن الحال يختلف في الجعل التكويني للنبي فهو علي استعداد لتلقي الوحي من الله تعالي ولديه استعداد خاص لذلك فالحق سبحانه يقول: "ولتصنع علي عيني" طه: 39. أي: تتربي بحفظ الله ورعايته لأن المسألة متعلقة بالاجتباء الإلهي والاصطفاء الرباني لهذا الدور العظيم فالأنبياء يشاركوننا الطبيعة البشرية ولكنهم لهم من الجعل التكويني العصمة الجبرية ما يجعلهم في أعلي مراحل التكامل والتهذيب النفسي وهذا أحد مقتضيات تبليغ الرسالة السماوية فالاختلاف هنا في القابلية المودعة فيهم عليهم السلام في الاتصال والتعامل مع أوامر الله تعالي من خلال الوحي قال تعالي: "قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن علي من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلي الله فليتوكل المؤمنون" إبراهيم: .11 وقد اتفقت الأمة علي أن رسل الله عليهم السلام معصومون عن المعصية والزلل قبل الرسالة كعصمتهم بعدها. لأن عصمتهم قبل الرسالة هي جواز المرور وصك القبول عند قومهم لقبولهم أو رفضهم» ولو أنهم لم يكونوا معصومين لما تلقاهم قومهم بالقبول أبداً. وقال في لسان العرب: "إن العصمة هي الحفظ. يُقال: عصمته فانعصم. واعتصمت بالله. إذا امتنعت بلطفه من المعصية". ومن أحسن التعريفات وأسلمها ما ذكره قاضي القضاة شهاب الدين أحمد محمد عمر الخفاجي المصري "977 1069" هجرية في كتابه: نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض "476 554" هجرية. العصمة هي لطف من الله تعالي يحمل النبي علي فعل الخير. ويزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتلاء. وعبارة "مع بقاء الاختيار" مهمة في التعريف خلافاً لتعريف البعض بأنها سلب قدرة المكلف علي فعل المعصية. والأنبياء هم صفوة البشر. وهم أكرم الخلق علي الله تعالي. اصطفاهم الله تعالي لتبليغ الناس دعوة لا إله إلا الله. وجعلهم الله تعالي الواسطة بينه وبين خلقه في تبليغ الشرائع. وهم مأمورون بالتبليغ عن الله تعالي. قال الله تعالي: "أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين" الأنعام: .89 والأنبياء وظيفتهم التبليغ عن الله تعالي مع كونهم بشراً. ولذلك فهم بالنسبة للأمر المتعلق بالعصمة علي حالين: 1 العصمة في تبليغ الدين. 2 العصمة من الأخطاء البشرية. أولاً: أما بالنسبة للعصمة في تبليغ الدين. فإن الأنبياء عليهم السلام معصومون في التبليغ عن الله تعالي. فلا يكتمون شيئاً مما أوحاه الله إليهم. ولا يزيدون عليه من عند أنفسهم. قال الله تعالي لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم : "يا أيها الرسول بلَّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين" المائدة: .67 فالنبي في تبليغه لدين ربه وشريعته لا يخطيء في شيء البتة أياً كان هذا الشيء كبيراً أو صغيراً» بل هو معصوم دائماً من الله تعالي. ثانياً: بالنسبة للرسل كبشر يعتريهم الخطأ والصواب. إلا أن كبائر الذنوب لا تصدر من الأنبياء أبداً وهم معصومون من الكبائر. سواء قبل بعثتهم أم بعدها.