سأعرض في هذا المقال والمقال التالي بعضا من أقوال السلف التي قيلت في آيات سورة القيامة وجمع القرآن، ولكن قبل ذلك أود أن أقول: إن قولي فيما سبق من فهم لآيات سورة القيامة ليس إبداعا مني ولا ابتكارا لفهم لم يسبقني إليه أحد، فمنذ سنوات عديدة حين استوقفتني هذه الآيات (16: 19) من سورة القيامة، لم أكن علي قناعة كافية بأن هذه الآيات يقصد الله بها القرآن الكريم وفق ما ورثناه من فهم عن السلف وما قالوا به من تفسيرات، وكنت دائما ما أشعر بريبة وحيرة حول تلك التفسيرات التي تقول بأن الله هو من تكفل بجمع القرآن وقرئه وبيانه بناء علي آيات سورة القيامة هذه، ولكن بعد محاولات طويلة ومضنية مني في البحث وإمعان النظر والتفكير الطويل لمحاولة فهم هذه الآيات، والوقوف علي المقصد الحقيقي لها، استطعت أن أهتدي إلي ما سبق من قرء وفهم، ولكن الطريف في الأمر أنه بعد توصلي لهذا الفهم قمت بالعودة إلي كتب التفاسير لفحص ما جاء فيها عن مفاهيم لهذه الآية قد قالها السلف، ففوجئت بأن فهمي هذا يتطابق في جزء منه مع بعض ما فهمه بعض السلف، بل وفوجئت بأن معظم التفاسير القديمة قد ذكر أصحابها هذا الرأي المطابق لفهمي السابق ولكنهم قاموا بالاعتراض عليه وعدم إجازته، إلا أن اعتراضاتهم في رد هذا الفهم لا تنهض لرد فهمي هذا، وأسوق للقارئ بعضا مما ورد في بعض تفاسير القوم حول ذكرهم لهذا الفهم ومحاولة ردهم عليه وعدم قبوله علي النحو التالي: ذكر الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان في تفسير القرآن)، في تفسير سورة القيامة ما يلي: (وقال البلخي: الذي اختاره إنه لم يرد القرآن وإنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدل علي ذلك ما قبله وما بعده وليس فيه شيء يدل علي أنه القرآن ولا شيء من أحكام الدنيا وفي ذلك تقريع للعبد وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة، يقول لا تحرّك لسانك بما تقرأ من صحيفتك التي فيها أعمالك، يعني اقرأ كتابك ولا تعجل فإن هذا الذي هو علي نفسه بصيرة إذا رأي سيئاته ضَجِر واستعجل، فيقال له توبيخاً لا تعجل وتثبت لتعلم الحجة عليك فإنا نجمعها لك، فإذا جمعناه فاتبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه والاستسلام للتبعة فيه فإنه لا يمكنك إنكاره.).. انتهي. وذكر الفخر الرازي في تفسيره (التفسير الكبير) في تفسير سورة القيامة ما يلي: (زعم قوم من قدماء الروافض (يقصد الشيعة) أن هذا القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص عنه، واحتجوا عليه بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها ولو كان هذا الترتيب من الله تعالي لما كان الأمر كذلك.).. انتهي. وقد حاول الفخر الرازي يائسا تبرير وترقيع الوجود الفج وغير المبرر لهذه الآيات في سورة القيامة من دون أي مناسبة لها لا قبلها ولا بعدها وفق فهمه أنها تقصد القرآن الكريم، فقال ما يلي: (فلا جرم، نهي عن ذلك الاستعجال في هذا الوقت، وقيل له: لا تحرك به لسانك لتعجل به، وهذا كما أن المدرس إذا كان يلقي علي تلميذه شيئاً، فأخذ التلميذ يلتفت يميناً وشمالاً، فيقول المدرس في أثناء ذلك الدرس لا تلتفت يميناً وشمالاً ثم يعود إلي الدرس، فإذا نقل ذلك الدرس مع هذا الكلام في أثنائه، فمن لم يعرف السبب يقول: إن وقوع تلك الكلمة في أثناء ذلك الدرس غير مناسب، لكن من عرف الواقعة علم أنه حسن الترتيب، فهنا كان الرسول صلي الله عليه وسلم يظهر التعجيل في القراءة مع جبريل، وكان يجعل العذر فيه خوف النسيان، فكأنه قيل له: إنك إذا أتيت بهذا العذر لكنك تعلم أن الحفظ لا يحصل إلا بتوفيق الله وإعانته فاترك هذا التعجيل واعتمد علي هداية الله تعالي، وهذا هو المراد من قوله: (لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَينَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ) انتهي. وكما نري أن المثال الذي ذكره الفخر الرازي حول المدرس وتلميذه لا يقنع طفلا صغيرا، فضلا عن أن يقنع أهل الفكر والنظر، وقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره قولا للقفال ينكر فيه أن يكون المقصود في هذه الآيات القرآن الكريم، وقال إن المقصود في هذه الآيات هو الإنسان وليس القرآن، فذكر ما يلي: وسادسها: ما ذكره القفال وهو أن قوله: (لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ) ليس خطاباً مع الرسول عليه السلام، بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله: (ينَبَّأُ الإِنسَانُ يوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (القيامة: 13) فكان ذلك للإنسان حال ما ينبأ بقبائح أفعاله وذلك بأن يعرض عليه كتابه فيقال له: (أقْرَأْ كَتَبَكَ كَفَي بِنَفْسِكَ الْيوْمَ عَلَيكَ حَسِيبًا) (الإسراء: 14)، فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف وسرعة القراءة فيقال له لا تحرك به لسانك لتعجل به، فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال، ثم إن علينا بيان أمره وشرح مراتب عقوبته، وحاصل الأمر من تفسير هذه الآية، أن المراد منه أنه تعالي يقرأ علي الكافر جميع أعماله علي سبيل التفصيل، وفيه أشد الوعيد في الدنيا وأشد التهويل في الآخرة، ثم قال القفال: فهذا وجه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به.) انتهي.