يحتفل الشعب خلال أيام بثورة مصر الجديدة في ميدان التحرير.. وهو أشهر ميادين القاهرة التاريخية.. وإن كان هناك كوبري عتيق شهد العديد من الأحداث الدامية في ثورتنا وهو كوبري قصر النيل الذي يعد أقدم وأجمل كوبري في أفريقيا.. ولكل من الميدان والكوبري قصة في تراثنا وتاريخنا المعاصر.. وهذه إطلالة سريعة علي المكانين اللذين يمثلان جزءا من ذاكرة مصر المعاصرة، يقدمها لنا الدكتور جمال فتحي مدير عام البحث العلمي بالمجلس الأعلي للآثار. تجدر الإشارة أولا إلي أن موقع ميدان التحرير الحالي كان مغمورا بمياه النيل أي كان جزءا من مجري النيل حتي عام 680ه / 1281م، كما هو معروف تاريخيا أن النصف الغربي من مدينة القاهرة الجزء الحديث هو ناتج عن طرح نهر النيل وفيضاناته المتعاقبة فضلا عن جهود الحكام المستمرة في إعمار وتوسعة مدينة القاهرة. ويقول الدكتور جمال فتحي إن ميدان التحرير كان يطلق عليه قبل ثورة 1952 ميدان الإسماعيلية نسبة للخديو إسماعيل وكان الملك فاروق قبل الثورة بقليل قد أعد نصبا لوضع تمثال لجده إسماعيل بميدان الإسماعيلية ويقابله في ميدان الجمهورية تمثال لوالده الملك فؤاد وكانت فكرة الملك فاروق من ذلك هي أن ينظر كلا التمثالين لبعضهما البعض وكأنهما يتناجيان إلا أنها لم تتم وبعد قيام ثورة يوليو 52، استبدل الاسم من ميدان الإسماعيلية إلي ميدان التحرير وهو الأمر الذي كان شائعا إبان الثورة حيث استبدلت أسماء الشوارع والميادين وبعض المنشآت الهامة بأسماء أبطال مصريين. بينما كوبري قصر النيل.. كما يوضح الدكتور جمال فتحي أطلق عليه هذا الاسم نظرا لوجود قصر الأميرة نازلي هانم ابنة محمد علي باشا الذي كان يسمي بقصر النيل ويقع علي محور هذا الكوبري من الضفة الشرقية للنيل وقد هدمه سعيد باشا وأقام موضعه قشلاق (ثكنة عسكرية) قصر النيل وبعد الثورة هدم هذا القشلاق أيضا وموضعه اليوم ميدان التحرير. وعلي أية حال.. كما يقول الدكتور فتحي.. فقد كان الدافع لإقامة هذا الكوبري هو أن الخديو إسماعيل كان قد عمل علي تحديث القاهرة حتي نجح في ذلك وأصبحت تضاهي العديد من عواصم العالم خاصة أوروبا، ولما كان بصدد افتتاح قناة السويس ودعوته للعديد من أمراء وأميرات وملوك أوروبا لزيارة القاهرة وحضور ذلك الافتتاح الأسطوري في نفس الوقت الذي كان يقيم فيه سراي الجزيرة لاستقبال الضيوف.. ولما تم تجهيز هذا السراي وجد أنه من غير اللائق أن يكون انتقال هؤلاء الملوك والأمراء من شاطئ النيل الشرقي حيث يوجد مقره إلي الشاطئ الغربي نحو الجزيرة بواسطة المعديات والمراكب أو الآلات البخارية المتواضعة، لذا فقد أصدر أوامره بإقامة هذا الكوبري. ويشير الدكتور فتحي إلي أن البدء في إنشاء كوبري قصر النيل القديم جاء بعد أن أصدر الخديو إسماعيل أمرا عاليا لنظارة الأشغال (الري حاليا) بتاريخ 27 محرم 1286ه 1869م وهذا نصه »القونتراتو المعقود مع مسيو جانجين بالتوكيل عن قومبانية فيف ليل (شركة فرنسية أقامت العديد من المشروعات في مصر قبل الكوبري) ومضي منه ومنكم بالتوكيل عن الحكومة بشأن أعمال كوبري علي بحر النيل للتعدية إلي البر الغربي من جهة قصر النيل بمبلغ قدره مليونان وسبعمائة وخمسون ألف فرنك والحسبة المرسومة مع القونتراتو ببيان مواعيد التأدية، والفايض ستة في المائة سنوي، صار منظوري ووفق إرادتي مقبول واعتماد ذلك من بعد مراجعة الحسبة وتطبيعها والتصديق علي صحتها بديوان المالية«. وقد تم الانتهاء من هذا الكوبري وتشييده في منتصف عام 1288 ه/1871م. ويؤكد الدكتور فتحي أن كوبري النيل أول كوبري يعبر نيل القاهرة ويعانق ضفتيه، كما أنه أول كوبري أقيم علي نهر النيل من منبعه حتي مصبه وكان وقت إنشائه من أجمل كباري العالم من حيث قوة أساساته وجمال مظهره الذي كان مواكبا لمشروع تحديث القاهرة. بل كان هذا الكوبري بمثابة الوريد أو الشريان الرئيسي لقلب مدينة القاهرة عاصمة البلاد.. كما يري الدكتور فتحي.. حيث أصبح هذا الكوبري مصدرا لضخ البشر والدواب المحملة بالأرزاق والأقوات لإمداد القاهرة باحتياجاتها الغذائية والصناعية، أما عن امتداد الكوبري مابين الضفتين فقد بلغ 406م وعرضه 11م ومكون من ثمانية بغال حجرية من الحجر الدبش المغطي من الخارج بطبقة من الحجر الصلب وكان يعلو تلك البغال جسم الكوبري المعدني، وبصفة عامة بلغت تكلفة إنشاء هذا الكوبري القديم حوالي مائة ألف وثمانية آلاف جنيه. أما الجانب اللافت للنظر في بناء هذا الكوبري.. كما يشير الدكتور فتحي.. هو ما ألحق بمدخلي الكوبري من نصب حجرية شاهقة الارتفاع تحدد معالم مداخل الكوبري ويعلوها أربعة تماثيل من البرونز علي هيئة أسود (سباع) قام بتشكيلها النحات الفرنسي الفريد جاكمار من أجل وضعها بالإسكندرية حول تمثال لمحمد علي باشا لكن نقلها إلي القاهرة مسيو دي بلفون حتي استقرت في موضعها الآن.. ويؤكد الدكتور فتحي أن هذه التماثيل الأربعة من البرونز المفرغ بطريقة التشكيل التشريحي للأعضاء الرئيسية لجسم الأسد وهي تمثل قيمة فنية وتاريخية وحضارية خاصة أنه قد مضي علي وجودها بذلك الموضع أكثر من 135 عاما، مما أوجد علاقة حميمية بينها وبين المصريين فأصبحت جزءا من تاريخ القاهرة. أما عوائد المرور علي كوبري قصر النيل القديم.. كما يذكر الدكتور فتحي: فيقصد بها الرسوم التي كان يتم تحصيلها من الناس والمركبات التي تمر فوق الكوبري وكذلك المواشي ولم يتسثن من دفع عوائد المرور فوق الكوبري سوي الأطفال الذين لم تتعد أعمارهم الست سنوات ويكونون بصحبة ذويهم وقد تم تحديد تعريفة الرسوم سواء للمارين أو المركبات وكذلك الدواب وفوق ذلك وجدت فوارق في تقدير قيمة الرسوم بالنسبة للدواب التي تمر فوق الكوبري في حالة كونها محملة بأشياء فوق ظهورها من عدمه! ويلفت الدكتور فتحي إلي أنه في عام 1332ه - 1913م بدأ تآكل ألواح الصاج الحاملة للطريق العلوي للكوبري القديم، فاستبدلت بأخري من الخرسانة المسلحة لتتحمل الضغط الواقع عليها ثم تعرضت أساسات ودعائم هذا الكوبري للعديد من المشاكل نتيجة ثقل الأحمال الواقعة عليها فضلا عن تآكل بعض الأجزاء المعدنية فتمت عملية ترميم وصيانة شاملة لجسم الكوبري فضلا عن أساساته تحت المياه التي جلبت إليها الأحجار لتثبيتها وذلك عام7881م/5031ه علاوة علي تعطل الآلات الميكانيكية التي تعمل علي غلق وفتح الكوبري مما كان له أكبر الضرر علي حركة الملاحة. ويضيف الدكتور فتحي أنه تم استبدال الصاج الموجود بظهر الطريق الخرسانية المسلحة عام 1349ه1920م ونظرا لتطور حركة المرور وازدياد الأحمال بالنسبة للسيارات، فبعضها كان يحمل أوزانا تفوق الوزن الذي يتحمله الكوبري آنذاك وهو ستة أطنان، إلي جانب انهيار بعض الأجزاء وتآكلها في البغال الحجرية الحاملة للكوبري. ولذلك استقر الرأي نهائيا علي إنشاء كوبري جديد يواكب حركة العمران وازدياد الكثافة السكانية وتطور المركبات وازدياد أحمالها.. وقد توقف هذا الكوبري القديم عن العمل نهائيا في الأول من أبريل 1391م/0531ه حتي تم إنشاء الكوبري الجديد وهو الحالي الذي افتتحه الملك فؤاد الأول في عام 3391م/2531ه وأسماه بكوبري إسماعيل عرفانا بالفضل لأبيه صاحب الكوبري القديم ثم غير الاسم بعد ثورة يوليو 1952 إلي كوبري جمال عبدالناصر ثم كوبري التحرير ولكن غلب عليه اسم كوبري قصر النيل.. الذي يقع في نفس الموضع الذي أقيم فيه الكوبري القديم لأول مرة في منتصف عام1781م/8821ه وهو يصل مابين البر الشرقي للنيل بالقاهرة الجزيرة (الأوبرا حاليا). وكانت مصلحة الطرق والكباري كما يقول الدكتور فتحي قد طرحت عملية إنشاء الكوبري الجديد علي الشركات قبل غلقه بسنة كاملة وتقدم للعملية نحو ثلاث عشرة شركات مختلفة وفازت بها الشركة الإنجليزية دور مان لونج بعد تقديمها عطاء للتنفيذ يبلغ (308.250.250 جنيه) بينما كان المبلغ المعروض عليها من قبل المصلحة هو (291.955 جنيه) مقابل إنجاز الكوبري في مدة ثلاثين شهرا فقط. إلا أنها أقامته خلال عامين وشهرين وخمسة أيام حيث كانت تقوم بهدم الكوبري القديم وفي نفس الوقت تقوم ببناء الكوبري الجديد الذي يبلغ طوله 382.2م أما عرضه فيبلغ عشرين مترا منها خمسة أمتار للأرصفة الجانبية. ويوضح الدكتور فتحي أن الكوبري الآن مغلق في وجه الملاحة حيث تم تحويل الطريق الملاحي إلي كوبري الجلاء وذلك علي الرغم من كون هذا الكوبري من الكباري المعدنية المتحركة.