لم تشهد مصر تقدماً عمرانياً كذلك الذي شهدته خلال عهد الخديوي اسماعيل الذي حلم بأن يجعل من مصر علي وجه العموم والقاهرة علي وجه الخصوص قطعة من أوروبا. ودفعه ذلك إلي التوسع في انشاء الطرق والأحياء الجديدةز ولا تزال أثار عهده باقية إلي يومنا هذا متمثلة في وسط القاهرة التي كانت في الماضي تعرف بحي الإسماعيلية نسبةً للخديوي اسماعيل، وإليه أيضاً يرجع الفضل في إنشاء أول جسر يربط بين ضفتي القاهرة وهو كوبري قصر النيل. وواقع الأمر أن هذا الكوبري الذي كان الأول من نوعه في القاهرة لم يكن الوحيد الذي امر اسماعيل بإنشائه، حيث شهد عهده إقامة 426 كوبري منها 276 كوبري في الوجه البحري و150 في الوجه القبلي. بدأت قصة إنشاء كوبري قصر النيل مع تفكير الخديوي اسماعيل في إنشاء جسر يربط بين ميدان الإسماعيلية (التحرير حالياً) والضفة الغربية من النيل بمنطقة الجزيرة اقتداءاً بمدن أوروبا التي تربط الجسور بين ضفافها. كانت تلك الفكرة مريحة وعمليةً مقارنة بطريقة انتقال الناس بين ضفتي النيل في تلك الفترة وهي المراكب الشراعية التي تصف بجوار بعضها البعض وتمتد عليها ألواح من الخشب كي يسير الناس عليها. بدأ العمل بشكل جدي في إنشاء الكوبري عام 1869 حينما أصدر الخديوي اسماعيل الأمر العالي لتنفيذ البناء وتم إسناد المشروع لشركة فيف- ليل الفرنسية. وبلغت تكلفة المشروع حوالي مليوني و750 ألف فرنك أو ما يعادل 108 ألف جنيه مصري. استغرق البناء حوالي ثلاث سنوات وبلغ طول الكوبري 406 متر وعرضه 10 أمتار ونصف شاملة الأرصفة الجانبية التي بلغ عرضها مترين ونصف. وكان الكوبري مكوناً من 8 أجزاء منها جزء متحرك من ناحية ميدان الإسماعيلية طوله 64 متر لعبور المراكب والسفن يتم فتحه يدوياً من خلال تروس علاوة علي جزئين نهائيين بطول 46 متر و5 أجزاء متوسطة بلغ طول كل منها 50 متراً. تم تأسيس دعائم الكوبري من الدبش المحاط بطبقة من الحجر الجيري الصلب كما تم تنفيذ الأساسات بطريقة الهواء المضغوط. وصممت فتحات الكوبري كي يمكنها حمل 40 طناً والسماح بعبور عربات متتابعة وزن كل منها 6 أطنان أو تحمل أوزان ضخمة موزعة علي جسم الكوبري. وبلغ ارتفاع جسم الكوبري عن سطح النيل حوالي 10 امتار حساباً للفيضان. وبعد الانتهاء من بناء الكوبري تم تشكيل لجنة من محمود باشا الفلكي رئيس ديوان الأشغال وبهجت باشا مفتش عموم قناطر وترع الوجه البحري وعلي باشا ابراهيم مهندس شوارع مصر لاختبار متانة جسم الكوبري وتم ذلك من خلال السماح بمرور طوبجية مدفعيه راكبه مكونه من 6 مدافع مع كامل ذخيرتها. تم المرور في البداية بالخطوة المعتادة ثم بالخطوة السريعة ثم مرور الطوبجية علي قسمين وبالفعل تم التأكد من صلابة جسم الكوبري وصلاحيته للاستخدام. شركة فيف - ليل التي قامت بإنشاء كوبري قصر النيل قامت بإهداء الخديوي ماكيت مصر للكوبري صنع من الذهب الخالص. أما التسمية فتعود إلي قصر أقيم علي ضفة النيل لزينب هانم بنت محمد علي باشا أزيل في عهد الخديوي سعيد وأقيم مكانه ثكنات للجيش المصري صارت فيما بعد ثكنات قصر النيل التي اتخذها الجيش الإنجليزي مقراً له. ويحتل موقعها اليوم فندق النيل هيلتون ومقر جامعة الدول العربية. لم يكن العبور علي الكوبري عند إنشائه مجانيا، ففور إتمام البناء، اصدر الخديوي مرسوماً يقضي بوضع حواجز علي مدخلي الكوبري لدفع رسوم عبور نشرت تفاصيلها في جريدة الوقائع المصرية بتاريخ 27 فبراير 1872 بعد مرور 17 يوما من افتتاح الكوبري. وكان الهدف من فرض تلك الرسوم هو أن تستخدم لتغطية تكاليف الصيانة وبلغت الرسوم قرشان للجمل المحمل وقرش واحد للجمل الفارغ والخيول والبغال المحملة قرش و15 باره وكذلك الأبقار والجاموس (كانت قيمة الباره تقدر بربع المليم) وعربات الركوب قرشين للعربه المحملة وقرش للفارغة وعربات الكارو 3 قروش للمحمله وقرش واحد للفارغة والأغنام والماعز 10 بارات للرأس الواحدة. لم تقتصر الرسوم علي فحسب، بل تم تحصيلها أيضاً بواقع 10 فضه علي النعام الصغير والكبير والغزلان والكلاب والخنازير والضباع والدببه. أما البشر فكانت رسوم العبور للرجال والنساء " فارغين وشايلين" 100 فضة، أما الإعفاء الوحيد فكان للأطفال دون سن ست سنوات من المارين مع أقاربهم. أما أسود كوبري قصر النيل الأربعة فلها قصة أخري حيث كلف الخديوي اسماعيل شريف باشا ناظر الداخلية في أبريل 1871 بالاتصال بالخواجه جاكمار لعمل 4 تماثيل واقترح جاكمار بدوره أن تكون تلك التماثيل متوسطة الحجم وكلف لجنة من المثال أوجين جليوم والمصور جان ليون لتتولي مهمة الإشراف علي صناعة التماثيل. وخصص مبلغ 198 ألف فرنك للإنفاق علي المشروع. تم تصنيع التماثيل من البرونز في فرنسا ونقلت إلي الإسكندرية ومنها إلي موضعها الحالي علي مدخلي كوبري قصر النيل. وبعدها التصق إسم "أبو السباع" بالخديوي اسماعيل كنية لكل من يحمل هذا الاسم. كان للكوبري فضل في تطوير منطقة الجزيرة حيث بدأ تعميرها علي نطاق واسع كما سهل الكوبري التجارة بين الوجه القبلي والقاهرة وجعل الانتقال من الجيزة إلي القاهرة سهلاً كما حمي أرواح المصريين من مخاطر عديدة نتيجة الفيضان، فكثيراً ما كان المواطنون يلقون حتفهم غرقاً أثناء العبور علي المراكب. وفي النصف الثاني من القرن الماضي، كان كوبري قصر النيل أحد أبرز معالم القاهرة ويعزز ذلك القول وجود عشرات اللوحات المرسومة والصور الفوتوغرافية التي أخذت للكوبري. كان كوبري قصر النيل بداية لمجموعة من الجسور أنشئت علي النيل للربط بين القاهرة والجزيرة والجيزة، حيث أعقبه إنشاء الكوبري الأعمي أو كوبري الانجليز للربط بين الجزيرة والجيزة وكوبري أبو العلا والملك الصالح وعباس الثاني وبولاق والزمالك. الطريف أن تلك الكباري أنشئت لتخفيف الضغط عن كوبري قصر النيل ولكنها لم تفلح في ذلك خاصة وأن الكوبري أنشئ قبل أن تعرف مصر السيارات وحتي عشرينيات القرن الماضي لم يكن مسموحاً بعبور السيارات عليه. وفي أواخر العشرينيات بدأ التفكير جدياً في توسيع أو تغيير الكوبري وعهدت وزارة المواصلات إلي قسم الكباري بمصلحة السكك الحديدة لدراسة الأمر وقامت المصلحة بالاستعانة بخبير بلجيكي وعدد من كبار مهندسي الكباري في مصر. وانقسمت الآراء حيال الكوبري القديم، حيث رأي البعض توسيع الكوبري وتدعيم أساساته بينما رأي فريق أخر إزالة الكوبري بالكامل وإنشاء كوبري جديد وذهب رأي ثالث إلي الإبقاء علي الكوبري كما هو ويناء كوبري جديد بالقرب منه سواء في جهة الجنوب أو الشمال. ورأي فريق رابع أن تتم إزالة الكوبري وبناء كوبري جديد في جهة أخري. وخلال تلك الفترة كان الرأي الأقرب إلي التنفيذ هو رفع الكوبري وإنشاء كوبري جديد مكانه خاصةً وأن مكانه هو الأقرب إلي قلب المدينة لا سيما أن القاهرة كانت تستعد في تلك الفترة لنقل المصالح والدواوين الحكومية إلي سراي الإسماعيلية في ميدان التحرير الحالي. فماذا حدث في تلك الفترة كي تواجه الحكومة المصرية ضيق كوبري قصر النيل وعدم قدرته علي استيعاب حركة السيارات عليه. هذا ما سنواصل متابعته في الأسبوع القادم.