علي الرغم من ان تلك المنطقة المسماة "ميدان التحرير" تحمل جزءاً هائلاً من تاريخ مصر الحديث، فإن الميدان حتي هذه اللحظة مازال يبحث عن هويته وشخصيته وكيانه المفقود. ميدان التحرير هو عاصمة القاهرة وقلبها وروحها لكنه ربما يكون الميدان الوحيد الذي يتبدل شكله بتعاقب السنوات، كل جيل لايكتفي باضافة لمسة او بصمة، بل يشطب كل الموجود ويبدأ من الصفر. ما أعاد فتح ملف "ميدان التحرير" هو الحكم القضائي الذي حصل عليه الدكتور عبد المحسن حمودة رئيس جمعية "إحياء تراث عظماء مصر" ويقضي بإلزام رئيس الوزراء ووزير الثقافة ومحافظ القاهرة، بإقامة تمثال للزعيم الراحل مصطفي النحاس في ميدان التحرير، أسوة بالتماثيل المقامة في معظم ميادين القاهرة لزعماء مصر. ويتزامن هذا الحكم مع الدعوة التي أطلقها المهندس عبد العزيز عطية لإعادة تخطيط ميدان التحرير، ليستعيد بهاءه ورونقه وجماله ومعناه. ويقضي المشروع باستغلال المساحة الخالية في مواجهة كل من المتحف المصري وفندق هيلتون وجامعة الدول العربية، لاقامة حديقة تحت اسم "حديقة الخالدين" تضم تماثيل لكل رموز مصر في العصر الحديث. يقول المهندس صلاح حجاب الرئيس السابق لاتحاد المهندسين العرب ان الدولة يجب ان تولي اهتمامها لاحياء تراث مصر وتخليد زعمائها ولن يتحقق ذلك الا بمشروع حديقة الخالدين، واقترح حجاب اقامة مسابقة عالمية لاعادة تخطيط ميدان التحرير يشارك فيها مهندسون مصريون وعالميون، واطلاق حملة للتبرعات بين المواطنين ورجال الاعمال لتغطية تكلفة مشروع ضخم كهذا. وأشار حجاب الي ان الدولة ملزمة بتنفيذ قرار المحكمة وانشاء تمثال لمصطفي النحاس ولامفر من ذلك. ولكي نعرف اهمية ميدان التحرير، لابد ان نسرد موجزاً لقصته وتاريخه الذي يعود الي عصر محمد علي باشا وكان اسمه وقتها ميدان "قصر النيل" نسبة الي القصر الذي أقامه محمد علي لابنته نازلي.. وفي عام 1856 تم هدم القصر وأعيد بناؤه، وقرر الخديو سعيد تحويله الي مدرسة لتعليم ابناء الامراء، وجاء الخديو اسماعيل ليجعل من القصر مقراً للمدرسة الحربية، وبعدها اصبح مقراً لمدرسة الطب. وطرأت للخديو إسماعيل فكرة ان يحول القصر الي بيت لحريمه، واسكن فيه ثلاثاً من زوجاته وخصص قاعته الكبري لاقامة حفلاته. وفي عهد الخديو توفيق تم تخصيص جزء كبير من القصر لهيئة اركان حرب الجيش والمتحف الحربي، واتخذ الزعيم احمد عرابي من القصر مركزاً لحركة الجيش العسكرية، ولما دخل الجيش البريطاني القاهرة، احتل الانجليز القصر ليصبح بمثابة ثكنات لهم. وبلغت الاثارة قمتها عندما حول الانجليز جزءاً من القصر الي السجن للأمراء والزعماء الذين كانوا مع مصطفي كامل، وحدث الامر نفسه بسجن مجموعة من زعماء الحركة الوطنية في ثورة 1919. وانتهي القصر نهاية حزينة عندما هدمه الانجليز تماماً، وخلال هذا التاريخ الطويل تغيرت اسماء الميدان من "قصر النيل" الي "ميدان الاسماعيلية" إلي "ميدان الخديو اسماعيل" الي ميدان التحرير بعد الثورة وكان مخططا في احدي الفترات ان يوضع فيه تمثال للخديو اسماعيل لكنه مات قبل وضع التمثال علي قاعدته التي بنيت بالفعل، وبعد وفاة عبد الناصر كانت هناك فكرة لوضع تمثال له فوق هذه القاعدة، ولكن الفكرة ماتت أيضاً وحدث الأمر نفسه بعد وفاة السادات. فهل يحظي الزعيم مصطفي النحاس بتمثال له بعد كل هذه التقلبات التاريخية في قلب الميدان المثير للجدل.