في كل عام .. يتبدل شكل الحياة في المحروسة التي لم تعد بالنسبة للكثيرين.. محروسة من أحد.. بعدما تخلي الجميع عنها في لحظة الشدة.. مثلها .. مثل الحياة التي عشتها في شبابي.. أيام ما كان لنا.. عيلة.. وأصدقاء وجيران.. يشاركوننا في كل لحظة من حياتنا.. التي كانت سهلة وبسيطة مقارنة بما دخل علينا.. من قيم وتقاليد وعلاقات متشابكة وصعبة.. جعلتني أهرب منها دائما.. إلي ذكريات تزورني .. مدعوة.. ومتطفلة ولكن في كل الأحوال.. تتركني.. أفضل بكثير خاصة في أيامنا الصعبة تلك!! أتعجب جدا.. عندما أجدني في كل مكان أذهب إليه.. تطالعني وجوه يائسة متشائمة.. الكل توحد في مطلب واحد.. السفر خارج مصر.. الهجرة نهائيا من بلد، تصوروا أنه وصلوا به إلي بر الأمان بعد ثورة جاءت متأخرة عشرين عاما .. ربما لو حدثت وقتها .. ربما لما ضرب اليأس دروبا عثرة علي روحنا وعزيمتنا.. أو ربما كانت قدرة هذا الشعب المنتهك جسديا ونفسيا.. علي التحمل والمثابرة أطول وأقدر علي تحمل ضربات الخيانة والخسة والمصلحة ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. نعم يصفعني الحديث.. عن ترك البلد.. والأصعب عندما يكون الكلام ملونا بنبرة الحسرة بأن البلد لم يعد لنا والحياة فيه ستكون الجحيم بعينه .. خاصة بعدما هجمت علينا تيارات آتية من خارج الزمن والتاريخ تريد أن تغير من هوية مصر ومدنيتها وتاريخها وخصوصيتها بروحها المتسامحة التي تقبل الآخر ولا تتعالي عليه ولا تفرض عليه أي وصاية.. بحكم أنها الأصوب وتملك الحقيقة كاملة. مصر التي امتصت كل أمواج الغزاة.. وغربلتهم في طميها ونيلها.. وخرجوا منها كما دخلوا. وربما خرجوا منها بملامح مصرية.. أثرت علي عقولهم وأرواحهم بحيث غيرت فيهم أشياء.. لم يلتفتوا إليها إلا عندما واجهوا مواقف إنسانية. ووجدوا أنهم ببساطة قد تغيروا!! فكيف بالله يتصورا أحد.. أنه قادر علي تغيير أسلوب حياتنا وتفكيرنا.. وعلاقتنا ومشاعرنا وحتي أثوابنا؟ هلي تتذكرون الملاءة اللف.. السوداء.. صاحبة العصمة في الأحياء الشعبية؟ كيف حولتها المرأة المصرية من عباءة تخفي وتسود شكل الحياة ومن برقع يضع حاجزا كئيبا بين وجه الأنثي ووجه الحياة؟ إلي ثوب أنثوي.. يوحي أكثر مما يسفر ويترك الخيال بتجميع أجزاء الصورة. دلال شقي.. غير مبتذل.. يدعو .. بلا تفريط.. يضحك دون أن يسقط في الفجاجة.. وإن أحد اقترب وتصور أنه ملك صك الدخول في هذا العالم المثير تفرش السيدة (الملاية) وتقف في وسطها تدافع عن قدسية المرأة في محيطها الشرقي. تهدد وتؤدب وتردع.. وتعيد.. الشقي.. إلي حدود الاحترام.. إلي الحدود الحمراء التي لايجرؤ أحد علي التعدي عليها. قال عنها.. وهي المرأة المصرية التي فاجأت الشيخ الشافعي الذي ترك العراق.. ليصل إلي المحروسة.. فتذهله بخصوصيتها وتفردها. حتي غير الكثير من فقهه.. ومنه تعلمنا أن المكان والزمان والأعراف والأفكار تتغير بتغير التربة والنيل والشمس والأغاني والأشعار والأعراف. فكتب الشيخ الجليل الكثير عن المرأة المصرية ورفعها إلي مكان عال تستحقه وتقدر عليه. وسمعنا أجمل الكلام، رفع رأسنا نحن الزوجات أمام رجالنا فقال: من لم يتزوج مصرية فلم يعرف طعم الزواج. الله .. الله.. نصرة قوية وفرحة لنساء المحروسة.. اللاتي زاملن الرجال في الدنيا معروفا. وكن سكنا ورحمة واحتواء.. وماعوناً منح (مصرنا) أزكي وأشهر النساء وأقدر وأكرم الرجال. كنا نسمع تلك الحكايات القديمة من جدة أمي.. نعم فلقد ماتت جدتي (شابة) وعاشت أمها حتي بلغت التسعين وكان ذكاؤها حادا لم ينل منه الزمن.. بل انتصرت هي عليه بحب الحياة.. بالبساطة التي عاشت فيه. خالية (البال) من المنغصات التي نعيشها نحن. فالعائلة كانت حاضرة معها في كل دقيقة من حياتها العمات والخالات عندما كانت اللمة هي قانونها الطبيعي في رمضان بالذات مع تواجدهم في بقية الأيام. فلم تعرف أو تعاني اختفاء الأولاد علي النت في غرفهم المغلقة علي عالم لانعرف عنه شيئا ومن أي (موقع) سيأتي الخطر ليأكل منه أولادها. كانت جدتي حكاءة.. تلهب خيالنا بأبوزيد الهلالي وأمنا الغولة والزناتي خليفة. ولكن قبل كل ذلك هي من فتحت عيوننا علي عالم الفتوات قبل أن نقرأه ونعيشه مع كاتبنا المصري (بجد).. نجيب محفوظ تلك المعجزة القصصية التي من فحش الواقع نجد من يتهمه بالفجور وأنه لايكتب إلا عن الخطيئة وعن أماكن الفسق وبيوت المتعة. كانت جدتي تتكلم عن هذا العالم الذكوري حيث كان الفتوة كما كانت تراه وتعيشه أرسين لوبين العصر الحديث. هذا الذراع القوي ونبوته يلازمه ملازمة القرين.. ليدافع به عن الضعيف وينصر المظلوم.. ويفقع عين من يتجرأ في التلصص أو التعرض لحرمات الآخرين. تدور العركة ويرتفع النبوت وينزل علي رأس الظالم والمفتري وابن الحرام. لم يكن لفظ الفتوة مرادف البلطجي كما عرفناه في خطة أبو رجل مسلوخة المسماة بالانفلات الأمني الحالي لا .. كان ظهر من لا ظهر له.. يدافع عن الحارة أو الحي.. يعمل له ألف حساب. وطبعا لم تكن تسمع أبدا أن أحدهم جرؤ أن يؤجره لتزوير الانتخابات. أو الاعتداء.. علي المنافسين. تلك كانت أيام الرجولة.. بحق. ❊❊❊ في أي وقت أو زمن لو قيل لي إن باستطاعتك الاختيار بين تلك الأيام والأيام التي نعيشها خاصة العشر سنوات الأخيرة. لاخترت دون تفكير تلك الأيام خاصة في رمضان كانت لنا طقوس أدهشت الحي غير الشعبي حي الطبقة المتوسطة العليا ذي التقاليد الراسخة مودة وتآخ وجيران وأحباب ولكن لا خروج عن المألوف. دور تقليدي للمرأة والرجل علي حد سواء كل يعرف حدوده لم نجد تمردا يذكر الكل قانع بالمرسوم له. إلا من متمرد هنا وجانحة هناك.. ولكن في حدود الزمن أيضا. ولكن كانت لي (خالة) آتية من مكان قصي لا تعرف للتقاليد حدوداً.. كانت مختلفة متعلمة قارئة نهمة. كانت لها قدرة علي تحويل العادي .. الروتيني لشيء مذهل يستحق الاحتفال. يأتي رمضان فتلم أطفال العائلة.. وتجوب الحي الهادئ ذا البيوت الصغيرة فيلات الخمسينات والستينات.. المتوهجة بالعلاقات العائلية الجميلة.. حيث وجدت غرف الضيوف لتستضيف الأرامل والمطلقات. أما غرفة الجدود.. فنعمل لها حساباً لليوم الموعود.. ولم نسمع قط.. عن بيوت العجزة. فالكل كان وقته ومساحة بيته تسمح برعاية وحماية كرامة من أفنوا عمرهم في خدمتنا ومن قال الله فيهم (ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا).. كانت تلك الخالة تجوب الحي الهادئ وتكسر صمته الكلاسيكي بالأغاني الرمضانية. وحوي يا وحوي .. إياحا.. والفوانيس المصرية وليس الصينية المضروبة والمدموغة بعصر الإهانة لتدني الصناعة المصرية في عصر المحبوس في طرة ذات الضوء الشاعري للشمعة.. المصنعة محليا.. كنا نقف تحت شباك الجيران لننادي كل فتاة وسيدة حتي تنزل وتشاركنا فرحة استقبال الشهر الكريم كانت تلك المظاهرة الرمضانية الخارجة عن المألوف تصيب الشارع الهادئ بالصدمة المفرحة.. فيهللون لنا من الشرفات ويظهرون لنا فوانيسهم. ولكن لا أحد تجرأ.. علي المشاركة بالنزول. كانت التقاليد أقوي من تمرد هذه الطبقة علي أصولها الريفية في أغلبها. من الاحتفال غير التقليدي.. وكانت هذه السيدة.. رائدة في مجال حقوق الاختلاف والدهشة والتغيير وكسر روتين الحياة للسيدة.. ربة البيت ومربية الأجيال. ربما لو ولدت في هذا العصر لكانت كاتبة عظيمة أو معلمة مختلفة.. تنير العقول وتحفز علي التغيير وتقف مقاتلة شرسة.. لطيور الظلام. ولكنها في زمانها أثرت علينا بشدة. كانت من أوائل الأمهات التي منحت حق الحب العلني لبناتها ودافعت عن حقها في البوح باختيارها .. وحقها في إضفاء مشروعية.. علي حتي الخطأ في الاختيار. ولكنها كانت واضحة وبسيطة في تحديد الخط الفاصل بين الحرام والحلال. فالمشاعر حلال حلال.. والخطيئة حرام حرام.. إذن لاتضعي نفسك في وضع يسهل لك الوقوع في الخطيئة نتيجة للحب الجارف وفورة الشباب. إذن لا خلوة مع من تحبين.. العلانية والتواجد الناس يحميك من لحظة ضعف وحب وطيش.. لم تتكلم أبدا عن الشيطان الذي هو الطرف الثالث المعروف في العلاقة الثنائية بين المرأة والرجل.. كانت تتكلم عن الله وقدرته ومعرفته عن ضعف مخلوقاته أليس هو من خلقهم؟ إذن فهو يعرف أن الخلوة في أماكن خالية ومظلمة تشجع الجسد علي الفوران. بحكم الحب والغريزة التي وضعها الله فينا. إذن لا تضعي نفسك في امتحان قد تسقطين فيه. إذن اتبعي كلام الله ولا تضعي نفسك في موضع الشبهات اتبعي كلامه.. تستريحي وتسعدي بحبك الحلال. ياه.. اطعنا الله حبا وتقديرا للذي يعرف كيف يحمينا من ضعفنا. كان هذا الخيال الجميل حضنا دافئا.. رافقنا إلي بر الأمان إليها.. ادعو لها بالرحمة والمغفرة. تلك الغالية التي صاحبتنا في طفولتنا ومراهقتنا معروفا وتركت بصمات تفردها علي عقولنا ترشدنا وتحمينا وتدفعنا إلي كسر المألوف والتمرد علي الاستقرار المزيف للتقاليد غير المناسبة لتطور الحياة. وربما وجدت آثار تعاليمها التي حملناها لأولادنا واضحة في الميدان وفي نبض الثورة التي هي الشيء الوحيد.. الذي أختار أن أعاصره وأعيشه في زماننا الأسود هذا. ❊❊❊ اتذكر تلك الأيام موت عبدالناصر.. كان فاجعة لعائلة نصفها كان من رجال الثورة ونصفها الآخر قلبا وروحا كانوا مع الثورة وأهدافها. سيطرة رأس المال علي الحكم.. يا ألله .. بعد 30 عاما وأكثر مازلنا ننادي بسقوط نفس الشعار. ولا أعرف لماذا تذكرت جنازة ناصر الذي جاءها الفقراء الذين نصرهم وحاول أن يجعلهم مواطنين كاملي الأهلية والحقوق والكرامة. وجنازة السادات وتخيلت أيضا في خيالي.. جنازة مبارك مهما طال الزمن فله يوم ونهاية حتي لو بلغ الألف عام فالجنازة تقيّم الإنسان وسيرته. من وقف مع المظلومين ومن صدع لهم وعمل ودن من طين وودن من عجين. ومن أخطأ عن غير عمد وهو يعمل علي رفعة وطنه.. ومن ارتكب خطيئة.. خيانة الوطن. اتذكر أنه يوم موت ناصر وكنا مجتمعين في بيت هذه الخالة.. المتفردة أنها قالت لنا.. لنصلي جميعا لله.. أن يحمي مصر ويغفر لناصر زعيم الوطن العربي. كانت الصلاة هي الدواء لكل مشكلة. وكان الفرض والسنة وقيام الليل.. وصلاة الفجر حاضرا كانت تكرم السائل وتحنو علي اليتيم. وتتصدق بكل شيء كانت تعرف ربها وتحبه. ولم تضع طرحة ولاحجاب علي شعرها أبدا.. ولكنها كانت تخشي الله في كل تصرفاتها.. كانت تلبس حجاب التقوي وحب الله وخشيته. ولا أعتقد إن مثواها.. النار .. لمجرد أنها كانت سافرة علي حساب من يعدون إن كل نظرة لها من الرجال سوف تحاسب عليها.. وبالعدد. فإن حسناتها لن تكفي ذنوب الآلاف والملايين الذين دانوا سفورها. أعتقد أن من نظر إليها بشهوة سوف يحاسب هو عليها أما هي فلها حسناتها وسيئاتها.. وحسابها عند الله. وكلنا سندخل جنته.. برحمته التي تسبق عدله و.. و.. رمضان كريم.. ❊❊❊ قيدت الشياطين في رمضان.. تلك هي شياطين جهنم.. أما شياطين الإنس فيصولون ويجولون رغم صيامهم وصلاتهم وتراويحهم. كيف يستطيع هؤلاء.. أن يفصلوا تماما .. بين مناسهكم .. وبين مؤامرتهم ومصالحهم.. وصفقاتهم التي تبيع الوطن في اليوم خمس مرات. كيف يستطيعون أن يصوموا عن مأكلهم ومشربهم وشهواتهم. ولايصومون عن تنطعهم .. وجهلهم وتجرؤهم علي آيات الله.. فيلطخوها بمياه السياسة غير الذلول ولا المطهرة؟ أهي علامات الساعة؟ أم .. هو .. آخر امتحان لصبر المؤمنين.. ورمضان كريم!!