لأن فقر ذويهم المدقع يعوق ذهابهم للمصيف، فكان حمام سباحة أم أحمد ابتكارا مصريا لكسر البؤس بوسيلة تخلق السعادة رغم أنف الفقر المريع دنيا السيرك.. هكذا تعارفنا علي تسميتها، وهو الوصف اللائق بتنوع الألعاب والمهارات والعلاقات بين البشر في لعبة الأكروبات المعلقة الخطرة، أو السير الماهر علي الحبال، أو ترويض الحيوانات الأليفة والمفترسة.. السيرك يرمز إلي الحياة.. ففيه صراع القوي بين المهرج الداهية الذي يبدو هشا ضعيفا وبين سائر زملائه، لكنه يتغلب عليهم بذكائه الفطري وخفة ظله والشجن المطل من وجهه (رغم الطلاء الضاحك).. فهو المضحك الباكي علي حاله الهزلي وسط أقوياء لعبة الحياة، شأنه في ذلك شأن الحكماء المترفعين عن إظهار الهيبة والعظمة في زمن الخواء والزيف.. ومهرج السيرك المصري بالتحديد يتقن سبع »صنايع والبخت ضايع« بالفعل.. فهو يتدخل للإضحاك وإضفاء البهجة في جميع الفقرات التي غالبا ما يجيدها كأصحابها لكنه يتعمد الخطأ حتي يصنع السعادة للأطفال بالذات.. أما مرتبه ودخله المادي فمثله مثل أدني موظف حكومي تعيس، لكنه لا يستطيع أن يبدي تذمره أمام الجمهور، بل يبتسم دائما للحياة حتي لو كانت قاسية. في السيرك أيضا، انتحاريون يستمتعون بالمغامرة الخطرة مقابل إسعاد المشاهدين.. يرتضون أيضا بالمرتبات المهينة كموظفين في قطاع حكومي بائس ويعلقون شكاواهم فيهمسون بها خوفا من إلغاء السيرك بمن فيه لترشيد الإنفاق ودرء مفسدة الفن. »أنا سلطان قانون الوجود«.. هذا هو اسم واحدة من أروع قصص الأديب الكبير الراحل د.يوسف إدريس.. وهي مستوحاة من حادثة شهيرة وقعت في السيرك عندما داهم الأسد سلطان مدربه الراحل محمد الحلو وغرس أظافره في صدره فاخترقت الرئة وأودي بحياته.. القصة الفلسفية ترسم صورة مدهشة عن علاقات القوي في الحياة، وكيف كانت نظرة عين المدرب تسجد الأسد وتروعه.. ثم غابت تلك النظرة في لحظة فانكشفت للأسد قوته الذاتية.. إنها بالفعل حادثة مروعة تدلل بفلسفة آخاذة قدمها يوسف إدريس علي سيرك الحياة الذي تلتبس فيه الأدوار، ويتوارث فيه الحيتان والضباع أدوار سابقيهم مع اختلاف الرؤي والمعتقدات.. المهم أن تجد الفتاة »دنيا« لاعبة الأكروبات الماهرة في السيرك القومي المصري »أكل عيشها« بعد طغيان المتطرفين الذين يطاردون الآمنين ويفرضون عليهم الوصاية الدينية والقمع باسم تهذيب وتنقيح المجتمع.. والغريب أن تتم هذه الممارسات في مصر الآن باستلهام مرفوض من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في دولة خليجية وصدر قرار في بداية هذا العام بإقالة رئيس هذه الهيئة وإعادة النظر في ممارساتها بشكل عام. حمام سباحة شعبي.. وسط الغبار والأتربة في حي الدويقة.. ينتصب بلونه الأزرق وجدرانه البلاستيكية الدائرية كأنه هبط من الفضاء لإسعاد التعساء من أطفال هذه المنطقة العشوائية المنسية من غابر الزمن، حتي أن أم أحمد التي ترتزق من تأجير الحمام للأطفال، عرفت كيف تتحايل علي الرزق بوسيلة جذابة وممتعة ومربحة، فقد دبرت ثمن حوض السباحة بمشقة، وقررت أن تسعد أطفال الحي العشوائي الذين لا يعرف معظمهم شكل شاطئ البحر سوي من الأفلام، ولا يحلمون برؤيته في الواقع لأن فقر ذويهم المدقع يعوق ذهابهم للمصيف، فكان حمام سباحة أم أحمد ابتكارا مصريا لكسر البؤس بوسيلة تخلق السعادة رغم أنف الفقر المريع وتقدمها للعالم عن مصر علي قناة الجزيرة.. انتحار اللغة علي قناة نايل سينما.. أي نعم.. هو انتحار بالثلث.. كتبوا علي الشاشة أن »جايزة« مسابقة الأفلام كذا جنيه!! أيوه.. كتبوا »جايزة« وليس »جائزة«.. فهل هي جائزة لقصيدة عامية؟! وحتي لو كانت كذلك، فليس من المفروض، مادمنا بصدد إعلان موجه لكل الأعمار في بث عام، أن نمارس هذا الخلل اللغوي إلا إذا كان المقصود مجاراة اللسان الشعبي وضرب العربية الفصحي في مقتل!! فنايل سينما هي قناة مصرية رسمية، وليست قناة عشوائية تفعل ما تشاء بلا ضوابط! والمفروض أن تخضع الإعلانات للمراجعة لأنها مادة جذابة للأجيال الناشئة، فلا يجب أن تفلت من إجازة المصححين للغة العربية حتي لا يتفشي الجهل كالوباء الجرثومي بين أبناء التعليم العشوائي من الشاشة والمدرسة معا.. مطلوب محو أمية العاملين بالفضائيات لأن بسطاء مصر يستمدون معلوماتهم من الوسائل والقنوات الفضائية الجذابة، ويفترضون تلقائيا، أن ما يصدر عنها هو الصواب.. وتلك هي المأساة المريعة!!