في رحلة الحياة البعض منا يسير مغمض العينين علي صراط مستقيم لايلتفت.. ولا يعنيه شيء مما يدور حوله.. وكأنه يدور في فلك خاص به وحده.. مقصور عليه.. منسلخ عما يحيط به.. لا خيوط تربطه بالآخرين، والبعض الآخر ربما آخر من يفكر فيه هو نفسه لأنه منشغل دائما بما يدور حوله.. يلتقط كل مايحدث بعينيه وحواسه.. ومهما كانت قيمته فإن اهتمامه الأول يظل بالناس البسطاء والمهمشين وكافة شرائح المجتمع. والمخرج القدير محمد خان واحد من هؤلاء الذين يضعون أعينهم دائما علي البشر يغوص في وجدانهم.. يحلق مع أحلامهم.. يغوص في آلامهم.. يعيش تفاصيل همومهم وحياتهم اليومية. إن من يهتم بالناس البسطاء عادة إنسان طيب القلب واضح وصريح بعيد تمام البعد عن النرجيسية والغرور وهما ما اتهم بهما محمد خان.. والحقيقة أنه إنسان خجول في الحياة لايتحدث كثيرا بقدر ما ينصت.
علاقتي بمحمد خان تعود لبداية التسعينيات مازلت أذكرها وعالقة بذهني كنا في مهرجان أفلام حقوق الإنسان مع الإعلامي والتليفزيوني القدير «يوسف شريف رزق الله».. وفي رحلة العودة من ستراسبورج للعاصمة باريس والتي كان يستغرقها القطار في ذلك الوقت في أكثر من سبع ساعات.. ولتسلية الوقت وتمضيته كان «محمد خان» ويوسف شريف رزق الله يتباريان في أسئلة سينمائية عن أشياء دقيقة في أفلام من السينما العالمية.. مثل كم فيلما لعب فيه البطل «الورق» مع ذكر اسم الممثل.. أو عدد كئوس الشراب والنوع التي شربها.. أشياء صغيرة جدا لاتشغل بال المتفرج العادي لكن لمحمد خان، وأستاذ يوسف الذي يهتم بكل التفاصيل الصغيرة كانت ترصدها ذاكرتهم.. الوقت مضي وهما يلعبان.. لكنني كنت مبهورة أشد الانبهار.. يومها لم يكن هناك «نت» ولا «محمول» وكنا نحن نطلق علي أ.يوسف «الموسوعة» وأقول وأضفت إليها أنا (محمد خان).
محمد خان سوف يعرض أحدث أفلامه «قبل زحمة الصيف» في مهرجان دبي السينمائي في دورته الثانية عشرة.. وكما يقول فكرة الفيلم جاءته عندما كان يقضي إجازة بإحدي القري في الساحل الشمالي مع زوجته قبل بداية الصيف في هدوء شديد وقبل زحمة المصطافين.. وكان هناك أسرة أخري.. فرأي أنه في حياة هؤلاء الناس ما يستدعي أن يكون هناك مشروع فيلم. ومحمد خان معروف عنه أنه يختار أفكاره وموضوعات أفلامه بنفسه ثم يعهد بها إلي سيناريست لكن دائما هو صاحب الفكرة. أعاود سؤاله ولماذا غادة شهبندر السيناريست في أول تجربة لها؟ غادة صديقة عزيزة وكاتبة.. وقد رأيت أنها تستطيع فهم الطبقة التي أريد التحدث عنها.. ولذلك أوكلت إليها كتابة السيناريو.. أشاكسه قائلة.. «وسام» زوجتك سيناريست أيضا كتبت رائعة السينما «فتاة المصنع»،، والآن غادة شهبندر هل تفضل المرأة سيناريست عن الرجل؟ ضحك قائلا هل تريدين أن توقعي بيني وبين زملائي من الرجال.. الفكرة هي التي تطرح علي أفضل من يقوم بكتابة السيناريو.. تهتم المرأة احيانا وتختلف في بعض التفاصيل.. لكن تبقي الموهبة واحدة وهي التي تفرض نفسها.. وسام أمضت عاما من عمرها داخل «مصنع» لتستطيع كتابة السيناريو بهذا الشكل الصادق الذي اشتمل علي كل التفاصيل الصغيرة التي تجعل من العمل ناجحا. أما غادة فإنها تنتمي لوسط اجتماعي أستطيع القول إنها تعرف تفاصيله وخيوط حياة أفراده. ليستطرد قائلا.. إنني عندما أقدم عملا.. ويجب أن يكون من صميم الحياة.. معبرا عن أناس التقيت بهم فعلا أو أعرفهم. إن السينما هي الحياة.. التي نعيشها ولذا لا أريد استنساخ أشخاص من الخيال لا وجود لهم في الحياة.
أقول له.. كتبت تقول إنك عندما تنتهي من ميكساج أي فيلم تشعر بالحزن لأن الفيلم لم يعد ملكا لك.. بل ملك المشاهد. - نعم هذه حقيقة أعترف بها.. والمشاهد هو الذي سيحكم علي هذه الشخصيات وبالتالي الفيلم.. هل سيتفاعل معها ويحب الفيلم أم لا. من يعرف «محمد خان» يدرك جيدا أنه يعمل لمزاجه الخاص فلا شيء يستطيع إجباره علي تقديم عمل لايريده.. ومن هنا تنبع أهمية وقيمة أعماله الراقية ومدي صدقها وانعكاس رؤيتها لكل ما يدور حولنا.
محمد خان لايضع ممثلا بعينيه عندما يفكر في دور.. ولا يكتب من أجل أي شخص.. ربما الوحيد المستثني من ذلك كما يقول هو الراحل «أحمد زكي».
من والده الذي كان أحد أثرياء التجار (للشاي) تعلم معني الحق والعدل وذلك يوم أن عاقبه بشدة من أجل شخص بسيط ارتكب في حقه خطأ، اعتقد أن والده سوف ينصره عليه لكن حدث العكس، الأب من أصل باكستاني عاش في مصر.. والأم إيطالية تتحدث سبع لغات.. لكنها كانت تبدو كأي سيدة مصرية بسيطة.
أحب خان مصر وعشقها ولم يستطع أن يعيش في إنجلترا كثيرا عندما رحلت أسرته.. وإن ظل الألم والمرارة تحاصره حيث كان يعتبر «باكستاني».. كان دائم القول في كل مرة يبرز جوازه البريطاني بأنه «مصري» سيظل يعيش ويموت مصريا.. وكيف لا وهو الذي قدم أروع الأعمال عن حياة المصريين.. باختلاف طوائفهم وطبقاتهم.. إنه يجيد تصوير حياة البشر من الأعماق وداخل أنفسهم..
خان.. أصدقاؤه لهم مكانة كبيرة في حياته.. صداقاته طويلة الأمد.. ومن أجل هذه الصداقة قدم فيلمه «يوسف.. وزينب» أول فيلم يصور في جزر «المالديف».. حاكم الجزيرة وثلاثة من أهم رموزها كانوا أصدقاء له ومن أجلهم قدم هذا الفيلم.
أحلام «هند وكاميليا» هي حكاية الخادمة صباح التي كانت تعمل لديهم وكانت شديدة الحنو عليه.. «خرج ولم يعد» أيضا حكاية خادمة كانت تعمل عند أحد أقاربه.. أفلامه هي علامات في تاريخ محمد خان ومشواره الفني لكنه أيضا انعكاسة لأحداث عاشتها مصر علي المستوي الاجتماعي والسياسي.. إن أفلامه وإن كانت اجتماعية إلا أنها دائما تعكس الواقع السياسي الذي تعيش فيه البلاد.. «الحريف».. «زوجة رجل مهم».. «مشوار عمر».. «أيام السادات».. كلها أفلام ترجمتها حياة المواطن المصري ومصر.. وأخيرا فإن خان سوف يفاجئنا في فيلمه الجديد بمجموعة من الممثلين في أدوار ربما لم نكن نتخيلهم فيها «ماجد الكدواني» أحمد داوود» «هنا شيحة». إن محمد خان قيمة فنية كبري في حياتنا نتمني له دائما التوفيق وأن يمتعنا بأفلامه صاحبة البصمة والعلامة في السينما المصرية.. والعربية.