كوارث لا حصر لها يُخلفها فصل الشتاء الذي يأتي كل عامٍ مُلغماً بسيولٍ تعصف بمحافظات عدة، وهي الظاهرة التي تزيد حِدَتها مع تقاعس المسئولين عن اتخاذ إجراءات الحماية للحد من مخاطر السيول والأمطار. ورغم ما تمثله هذه السيول من ثروةٍ مائية يُمكن أن تُحدث طفرة في الزراعة المصرية، لقدرتها علي مضاعفة المخزون الاستراتيجي من مياة الري، إلا أن مشروعات الحماية والتخزين التي تُنفذها وزارة الموارد المائية والري لم تنجح في استغلالها، الأمر الذي أرجعه خبراء لغياب الرؤية وضعف البنية الأساسية لهذه المشروعات، وعدم تنفيذها وفق المواصفات العالمية لبناء السدود والخزانات الجوفية، ما يهدر كميات هائلة من مياة الأمطار سنوياً. د. نادر نورالدين: حصة مصر من الأمطار سنوياً تُعادل حصتها من مياه النيل الدكتور ضياء القوصي: التعديات علي مخرّات السيول كارثة تصريحات معتادة تخرج بها علينا وزارة الموارد المائية والري قبل حلول فصل الشتاء كل عام، لتؤكد جاهزيتها لاستقبال الظواهر الجوية من الأمطار والسيول بالتعاون مع المحليات بالمحافظات المُختلفة، من خلال تنفيذها لمشروعات الحماية وتطهير مخرات وخزانات مياه السيول، وهي المُفارقة التي تبدو جليّة إذا ما رصدنا واقع المحافظات التي تحصد خسائر فادحة جرّاء تعرضها للسيول، خاصة أن الوزارة تُنفق سنوياً علي هذه المشروعات عشرات الملايين من الجنيهات. حيث يوضح الدكتور خالد وصيف المُتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد المائية والري، أن الوزارة وضعت خطة مُحكمة بدأت بتنفيذها بالفعل منذ أوائل العام الماضي لمواجهة السيول والاستفادة من مياهها في الأغراض الزراعية، فتم رصد 450 مليون جنيه لتنفيذ المشروعات علي عدّة مراحل. متابعاً: هذه الخطة تشمل تنفيذ مجموعة من الأعمال الصناعية من سدود إعاقة وخزّانات أرضية وبحيرات لتخزين مياة الأمطار التي تهطل بكثافة علي بعض المحافظات، وتجري هذه الأعمال في نطاق العديد من المناطق في مدن طابا ودهب ونويبع وسانت كاترين بمحافظاتالبحر الأحمر وشمال وجنوبسيناء، حيث تم بالفعل الانتهاء من عدد من سدود الإعاقة والتخزين بمحافظة جنوبسيناء منها سدود شعيرة وسرطبة وشاف الله، غير أننا أنفقنا خلال العام الماضي فقط 50 مليون جنيه لتطوير مشروعات الحماية بوادي وتير. كما تولي الوزارة الصعيد اهتماماً خاصاً لضعف البنية التحتية في محافظاته والخسائر الكبيرة التي تُخلفها السيول خاصة في القري الصغيرة، ما دفعنا إلي تطوير المخرّات وإقامة عدد من السدود بمحافظاتأسوانوأسيوط والمنيا. كل هذه المشروعات تتم من خلال إدارة المياه الجوفية وتحت إشراف خُبراء معهد الموارد المائية التابع للوزارة. بينما يري الدكتور أحمد عبدالعال رئيس الهيئة العامة للأرصاد الجوية أن مشروعات الحماية والتخزين لمياه السيول التي تقوم بها الجهات المختلفة، يجب أن تكون مواكبة للتغيرات الطارئة علي هذه الظواهر الجوية، التي أقرتها الهيئة الحكومية الدولية للتغيرات المُناخية"IPCC". حيث يتجلي هذا التغيُر في زيادة عُنف الظاهرة وكثافة الأمطار التي تهطل خلال فصلي الخريف والشتاء مع قِلة مرات حدوثها، وهذا ما شهدناه لأول مرة في كارثة السيول التي ضربت مدينة الإسكندرية والسواحل الشمالية، حيث بلغت كمية الأمطار التي هطلت خلال ثلاث ساعات فقط 3.5 مليون متر مكعب، وهو ما يزيد بستة أضعاف عن حجم الأمطار في خريف العام الماضي. ويوضح أن خريطة السيول ومجاريها علي مستوي الجمهورية حافظت علي ثباتها لآلاف السنين، إلا أن التغيرات المُناخية التي لحقت بجميع دول العالم، يُمكن أن تُدخل مناطق أخري داخل هذه الدول في دائرة الخطر، ورغم أن ظاهرة السيول والأمطار الغزيرة تتركز في المحافظات الشمالية والمحافظات ذات الطبيعة الصحراوية والجبلية غير بعض المناطق بالصعيد إلا أن القاهرة الكبري ليست بعيدة عن ذلك، فزيادة كمية الأمطار التي يُمكن أن تهطل عليها ستُحدث خسائر فادحة، خاصة في مناطق مثل المقطم وهضبة الدويقة لأن صخورها غير مُستقرة. وهذا يستلزم ضرورة العمل علي تطوير شبكات صرف الأمطار ومشروعات الحماية. مؤكداً أن هيئة الأرصاد تُرسل خلال الفصول الانتقالية إنذارات متتالية لجميع المحافظات التي تتعرض لهذه الظواهر، ولكن للأسف لا تأخذ الجهات التنفيذية احتياطاتها ما يسبب خسائر بشرية ومادية. من جانبه ينتقد الدكتور نادر نور الدين أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة السياسة التي تدير بها الجهات التنفيذية ملف الأمطار والسيول، مؤكداً أن غياب التخطيط والرؤية لمجابهة أخطار السيول وتخفيف آثارها والاستفادة منها لدي هذه الجهات، جعلها مصدراً للكوارث التي تحل بالعديد من المحافظات، وحوّلها إلي ثروة مُهدرة بدلاً من استغلالها في الاستخدامات الحياتية للتجمعات السكانية داخل هذه المحافظات، أو لتغذية المخزون الاستراتيجي للمياه الجوفية واستخدامها في الزراعة كمصدر هائل لمياه الري. فأهمية استغلال مياه الأمطار تتعاظم في ظل ما نعانيه من نقص في الموارد المائية أوصلنا إلي أعتاب مرحلة الفقر المائي، مشيراً إلي أن كمية الأمطار التي تسقط علي مصر تتجاوز 51 مليار متر مكعب سنوياً، أي ما يعادل حصتنا من مياه النيل، وهو ما ورد في تقرير حديث لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "الفاو". مُتابعاً: الساحل الشمالي الغربي وحده يسقط عليه 30 مليار متر مكعب من المياه، تكفي لزراعة 2 مليون فدان علي امتداد الساحل، إذا تم إعداد مشروعات حقيقية للاستفادة من هذه الثروة التي تُهدر في الصحاري والبحار. والغريب أننا وقعنا علي اتفاقية مع السودان لزراعة 91 ألف فدان في منطقة الدمازين بولاية النيل الأزرق، ووافقنا علي شرط الطرف الآخر بإنشاء مصائد للأمطار كمصدر أساسي للري بهذا المشروع، في حين أن المسؤولين يتقاعسون عن تنفيذ ذلك في الداخل. ولا توجد للأسف رؤية مبتكرة لإنشاء مصائد للأمطار كالتي تنتشر في دول الخليج علي سبيل المثال، حيث تعمد حكومات هذه الدول إلي تصميم أسطح المباني والمنشآت المختلفة بحيث تحولها إلي خزّانات للأمطار عن طريق مواسير تجمع مياهها. ويؤكد نورالدين أن الكوارث الناجمة عن السيول تحدث سنوياً، مع تنصل الجهات المعنية من مسؤوليتها مُلقية اللوم علي الجهات الأخري، ليتفتت ملف السيول بين وزارة الري والمحافظات والمحليات، ما يحمّلنا ملايين الجنيهات لإصلاح الأضرار المترتبة علي السيول التي تُدمّر المنازل وشبكات الطرق والفنادق والمنتجعات السياحية، في مدن سفاجا والقصير ومرسي علم وشرم الشيخ وطابا ونويبع، خاصة تلك القادمة من سلسلة جبال النقب علي أودية وتير بمحافظة جنوبسيناء، كما دمرت السيول العام الماضي 2200 فدان ببعض قري محافظاتأسيوط وسوهاج. مُضيفاً: الأزمة الحقيقية تكمن في أن المشروعات التي تُنفذها وزارة الري لا تتم بدقة، ولا يتبع فيها المواصفات القياسية العالمية والأساليب العلمية السليمة، خاصة فيما يتعلق بإنشاء السدود التي يُفترض أن تُصمم بطريقة زجزاجية متقاطعة وعلي أبعاد متفاوتة، بحيث تحد من سرعة المياه الجارفة عندما ترتطم بهذه الموانع. إلا أن عدم إتمام هذه العمليات بحرفية تسبب في انهيار عدد من السدود كما أن مناسيب المياه ترتفع أحياناً عن بعض هذه السدود وتزيد عن طاقتها الاستيعابية. غير أن تلك القائمة بالفعل لا تجري عليها عمليات الصيانة والتجديد، وبدأت تتآكل بفعل الإهمال الفادح الذي تتعرض له، مثلما حدث في سد الروافعة الواقع عند ساحل العريش. كما يُفترض أن تتضمن هذه المشروعات إنشاء موانع خرسانية وحفر خنادق مبطّنة بالاسمنت تكون بمثابة خزّانات أرضية لمياه السيول. بينما يُحذَر الدكتور ضياء القوصي خبير المياه ومستشار وزير الموارد المائية السابق من خطورة البناء علي مخرّات السيول وهي المجاري التي يتخذها السيل أثناء حركته، مشدداً علي أن هذه الخطورة تزيد في المخرّات التي تخترق الكتل السكانية داخل المُدن. متابعاً: المخرّات الواقعة داخل القاهرة الكبري علي سبيل المثال تتعرض للتعديات المستمرة التي أدت إلي زحف المباني العشوائية عليها، وهذه كارثة تُعرض حياة الآلاف من سكان هذه المناطق للخطر حال سقوط أمطار كثيفة عليها لمدة نصف ساعة فقط. فهذه المخرّات تتوزع مابين مناطق المعادي ووديان "جراوي" و "حوف" بحلوان، غير وادي دجلة ومنخفض 15 مايو، ومن المُفترض أن يتم إخلاء وتطهير جميع المناطق الواقعة في مجاري السيول، فلا يُمكن القضاء علي أخطار السيول بالكامل ولكن يُمكن تحجيمها وتخفيف حدّتها.