المتردد علي منطقة وسط البلد، خصوصاً ميدان طلعت حرب، ربما ينخدع للوهلة الأولي في العقارات التي تم ترميمها، فقد يظن أن عدم وصول أشعة الشمس إلي الواجهات الجانبية، هي السبب وراء انطفائها، لكن بالتحديق والتقريب منها يكتشف أن طلاءها لم يكتمل، حتي اعتقد كثيرون أن ما يحدث من إحياء للمباني التراثية محض تجميل ظاهري، لا يهدف إلي إنقاذ حقيقي للمنطقة، خاصة أن العقارات من الداخل تعاني حالة من التردي؛ فلم يتم ترميم الشقق ومداخل العمارات منذ سنوات طويلة. وما زاد الأمر سوءا أن الأهالي هناك، أو بالأحري أصحاب مخازن الملابس والمكاتب والعيادات الذين يسكنون غالبية شقق وسط البلد، لا يعيرون أي اهتمام، رغم أن الشقوق التي تجري في الحوائط تنذر بكارثة حقيقية. ترميم خارجي للواجهات ومن الداخل الشقوق تتسع علي آخرها سهير حواس: قلة التمويل وراء عدم استكمال ترميم العقارات الخاصة كل عقار يختلف عن الآخر، تاريخياً وواقعيا، لكن غالبيتها بحاجة إلي ترميم، الغريب أن بعض قاطنيها يخشون من التصريح بذلك، ولم يكن سهلاً بالطبع التجول بحرية بين الطوابق، لرصد الشقق التي تنهار داخلياً. صعدنا إلي عدد كبير من العقارات، وكان العاملون لدي المحلات التي تؤجر الشقق، لتخزين بضائعها، أو لتصنيعها، يرمقوننا بحذر، إذ يعتقدون أن أي صورة لهم، بمثابة تشهير أو قطع رزقهم. وكان اتساع بعض العقارات يساعدنا في ألا يلاحظنا أحدهم. بدأنا الجولة من شارع عماد الدين، العمارات التي تضم مقرات البنوك وبعض الجهات الحكومية وعيادات أطباء مشهورين حالتها جيدة، لم نرصد أي تشويه أو إهمال من الداخل، بل علّقت شركة مصر لإدارة الأصول العقارية المالكة لبعضها في مداخلها لافتات تنادي القاطنين بأن يحافظوا علي نظافة "المناور" لأن إلقاء القمامة فيها مُخالف للقانون. علي النقيض، كانت مناور عقارات شارعي شريف باشا وقصر النيل ممتلئة علي آخرها بالقمامة، التي من الممكن أن يتم استغلالها في زراعة النباتات، نظراً لاتساعها، وتصميمها الجمالي. حتي الممرات التي تؤدي إلي الشقق لم تسلم من القمامة وقصاصات الأقمشة التي يتركها الترزية، الموجودون بكثرة لتلبية احتياجات زبائن محلات الملابس. ولم يشفع وجود البنسيونات في الأدوار الأخيرة للعقارات في تحسين مظهرها الجمالي، كل بنسيون اكتفي بأن يضع أمام بابه بعض المزهريات، لكنها تعاني من نفس حالة التردي، الحوائط تملؤها الشقوق المتسعة التي حاولوا إخفاءها بدهان مُختلف. تحدثنا إلي أحد أصحاب أحد البنسيونات، الذي فضل عدم ذكر اسمه، عن سبب عدم الترميم قال: "لا يدر البنسيون دخلاً هائلاً، حتي أستطيع تحمل تكلفة الترميم، أحاول أن أصلح بعض المشاكل في دورات المياه والشرفات والحوائط، لكن ليس كافياً". السكان أيضاَ لا يستطيعون تحمل تكلفة الترميم، إذ إنهم يقطنون الشقق بنظام الإيجار القديم، الدخل الذي لا يساعد المالك علي إصلاح كل التلفيات، التي طالت كل شيء: الأسانسيرات مُعطلة، مواسير المياه متهالكة، وسلوك الكهرباء عارية، والشرفات علي وشك السقوط. ترميم خارجي في مارس الماضي، تبني جهاز التنسيق الحضاري، بالتعاون مع محافظة القاهرة، ترميم عقارات وسط البلد، المشروع الذي سُمي بإحياء القاهرة الخديوية. واعتقد كثيرون أن الترميم سيكون خارجياً وداخلياً، لكن تم الإعلان عن أنه خارجي فقط. ما خيب ظن البعض في عودة منطقة وسط البلد إلي ما كانت عليه في القرن العشرين. الغريب أن بعض العقارات لم يكتمل طلاؤها، خصوصاً تلك التي تطل علي شارعي طلعت حرب وقصر النيل، وممر بهلر، التي تسمي بعمارة بنك أبو ظبي، حيث تم ترميم واجهاتها الثلاث الرئيسية، بينما تم تجاهل الواجهة الرابعة. العاملون في المحلات التجارية، والسُكان، لا يمتلكون معلومة مؤكدة حول استكمالها من عدمه، وساد بينهم حالة من التخبط بعد أن أزال عُمال الترميم كل المُعدات والسقالات نهاية مايو الماضي، بينما تم البدء في مرحلة أخري، وهي إعادة رصف الطرقات، التي بدأت في يونيه. يقول محمد إسماعيل، أحد سكان ممر بهلر: "كنا نعتقد أنه سيتم ترميم العقار من الداخل والخارج، لكن فوجئنا بإصلاح الواجهات عدا واحدة.. لا نعرف علي أي أساس يتم اختيار العقار الذي يتم ترميمه، بعد أن بدأوا في شوارع أخري". مشيراً إلي أن الاختيار العشوائي للترميم - علي حد وصفه - جعل أصحاب العقارات يقومون بترميم أدوار معينة سواء بطلائها أو بإصلاحها، ما شكل حالة من القُبح. لم يتوقف القُبح عند حد حالات الترميم الفردية، بل لا تزال هناك فوضي عارمة تعاني منها منطقة وسط البلد نتيجة للممارسات الخاطئة، إذ لا يوجد عقار لا يحمل عشرات من اللوحات الإعلانية التي تخالف القانون 119 لسنة 2008 حيث تنص المادة 37 علي عدم إيجاز إصدار أي ترخيص بوضع أي إعلانات أو لافتات أو ملصقات علي واجهات المباني الأثرية وذات القيمة التراثية، وأنه من حق الجهاز طلب إزالة هذه اللافتات علي نفقة المخالفة. في هذا الشأن قال مصطفي داوود، صاحب أحد المحلات: "مستحيل أن أزيل لافتة المحل، لأنها هي عنواني لأي زبون، كما أنها كلفتني كثيراً، والجميع هُنا في وسط البلد يستخدم اللافتات والإعلانات.. نحن لا نعطل أعمال الترميم ولا نريد أن يعطل أحد عملنا". الغريب في الأمر أن العقارات التي تم ترميمها لم يلتزم بعض قاطنيها، بإزالة اللوحات الإعلانية، التي عادت بشكل تدريجي. ففي عمارة صيدناوي التي تطل علي شارعي صبري أبو علم وقصر النيل، إذ علقت إحدي العيادات بها لافتة تعلن عن اسم الطبيب، بجانب أن العمارة لم يتم استكمال ترميمها أيضاً، خاصة واجهتها التي تطل علي شارع إبراهيم اللقاني، ولم يعرف الأهالي سبب توقف إحياء المبني. إضافة إلي ذلك، أن جميع العقارات لم تزل أجهزة تكييف الهواء التي تظهر بوضوح علي الواجهات الرئيسية، رغم طلائها بنفس لون المبني. ووفق أسس تحديث المباني التراثية المتعارف عليها، المعتمدة من المجلس الأعلي للتخطيط والتنمية العمرانية، يتم إلزام العقارات ب "وضع وتثبيت "(دكتات) وأجهزة التكييف في أماكن غير الواجهات الرئيسية مثل في المناور أو الأسطح بعيداً عن مجال الرؤية". كما تشمل أسس صيانة المباني التراثية بعض البنود كأعمال البياض، والدهانات، والكهرباء، وتكييف الهواء، وتجديد أو تحديث وإصلاح الشبكات والتركيبات الصحية، وكل ذلك تحت مبدأ أساسي هو عدم تشويه المظهر العام الأصلي للمبني وملامحه التاريخية التي يجب إبرازها وتأكيدها وعدم الإخلال بها، من خلال استعمال نفس نوعية البياض بنفس تركيباته التي كانت مستعملة عند إنشاء المبني، ويمكن استعمال نوعيات أخري منه عند الحاجة تتوافق من ناحية شكلها النهائي مع البياض القديم. وقد تم التعامل في ترميم عقارات طلعت حرب، وشوارع وسط البلد، علي هذا الاعتبار، إذ تم استخدام اللون الأصفر للواجهات، واللون الأخضر للشبابيك، لكنها لم تعجب كثيرين، ودشنوا حملة علي مواقع التواصل الاجتماعي، تحت اسم (أوقفوا تشويه وسط البلد). قلة التمويل "هذه أذواق.. لكننا راعينا أثناء الترميم لون العقارات الأصلية"، تقول الدكتورة سهير حواس، عضو مجلس إدارة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، المفوضة باتخاذ القرارات بشأن إحياء التراث المعماري، التي أوضحت ل "أخر ساعة" أن اللون الذي تم استخدامه بعد الترميم، محايد تماماً، ولم يختلف عن لون العقارات الرئيسية، إذ تم الاطلاع علي كل الصور القديمة لمنطقة وسط البلد، ودراسة حالة العقارات من زخارف ورسومات وتصميمات، حتي يتم الترميم بالشكل المماثل لأي عقار حين تم بناؤه. مضيفة: "لم يتم طلاء العقارات فقط، بل شمل الترميم صيانة الواجهات بالكامل، وإصلاح ما دُمر خلال العقود الماضية. لذلك من المُحزن أن يتم اختزال ما تم إنجازه في لون الطلاء، ورغم ذلك نحن لن نمانع بإعادة الطلاء، حال إثبات أحد المواطنين أنه ليس لون العقار الأصلي". وعن ترميم العقارات من الداخل، قالت الدكتورة سهير: "صعب جداً، سيحتاج ذلك إلي أموال طائلة، وغالبية سكان وسط البلد كانوا يعتقدون أننا سنقوم بإصلاح الجدران والشرفات، وما تم إنجازه في وسط البلد ليس هينا، حيث وصل عدد العقارات التي تم ترميمها في ميدان طلعت حرب إلي ثمانية، تعود ملكية غالبيتها إلي شركة مصر لإدارة الأصول العقارية، بجانب عدد من المباني التي تم ترميمها في شارع عماد الدين وشارع الألفي وميدان عابدين، وترميم مجمع التحرير ومسجد عمر مكرم. مشيرة إلي أنه لا يزال نحو 500 مبني تاريخي علي قائمة الانتظار لترميمها، قائلة: "للأسف التمويل قليل، والمحافظة لا تستطيع تحمل التكلفة بمفردها، وكما استطعنا إنهاء ترميم عقارات، هناك من لم يكتمل خصوصا تلك العقارات ذات الملكية الخاصة". مشكلة ضعف التمويل، أكد عليها أيضاً المهندس سعيد البحر، مدير مشروع التطوير بمحافظة القاهرة، إذ قال إن إجمالي عدد العقارات التي تم ترميمها 20 تكلفت نحو 50 مليون جنيه، موضحاً أن الممول الرئيسي لها الشركة القابضة، وشركة التأمين، واتحاد البنوك، وشركة الإسماعيلية التي تحملت ترميم العمارات المواجهة للمعبد اليهودي بشارع عدلي، وبعض الوزارات مثل وزارة السياحة التي وافقت علي ترميم كورنيش النيل من بداية فندق الفورسيزون حتي مبني ماسبيرو، بالإضافة إلي مساهمات الأهالي، فقد تحمل علي سبيل المثال صاحب عمارة السويدي القاطنة في شارع الألفي تكلفة ترميمها، وتحمل أيضاً ملاك كل من عمارة ألفارديرو في شارع الألفي وعمارة جحا في شارع عماد الدين ترميمها، التي لم يتم استكمال ترميمها لسببين؛ الأول أننا كنا في حاجة لافتتاح شارع الألفي سريعاً حتي يشعر الناس بالتطوير، وأن الملاك ليس لديهم من الأموال التي تكفي لترميم العمارة بالكامل، كما أن عدم وجود اتحاد للملاك في المنطقة، يعرقل العمل كثيراً. وبالنسبة لعدم استكمال عمارة أبو ظبي القاطنة في ميدان طلعت حرب، خصوصا واجهة ممر بهلر، أكد المهندس سعيد أن ترميمها ضمن المرحلة الثانية، التي انطلقت الأسابيع الماضية، حيث تم البدء في أعمال الرصف والتبليط والتشجير والأرصفة وأعمدة الإنارة والإضاءة في شارعي طلعت حرب وقصر النيل، مضيفاًُ: "حال توافر التمويل، سيتم الانتهاء من الترميم في شهور قليلة، حيث أقرت المحافظة بحاجتها إلي نحو 500 مليون جنيه لإحياء منطقة وسط البلد وعابدين". وتطرق إلي أزمة اللوحات الإعلانية التي يرفض أصحاب المحلات الاستغناء عنها، إذ أزال الحي أكثر من مرة اللافتات واللوحات لبعض المحلات التي تقع في العمارات التي تم ترميمها لكن أصحابها يعلقونها مجدداً، قائلاً إنها ترجع لسلوك المالك، خصوصاً أن القانون لا يعاقبه سوي بإزالة اللوحة علي نفقته.