علي مدار أكثر من ألفِ عام ظل فانوس رمضان أيقونةً للبهجة، يتمايل في أيدي الأطفال وتُزينُ به الشوارع وشرفاتِ المنازل احتفاء بالشهر الكريم، في طقسٍ مصريٍ أصيل تقف وراءه صناعةٌ يدوية عريقة، ظلت تقاوم لسنواتٍ طويلة غزو الفوانيس الصينية للأسواق المصرية، حتي انتصر لها مؤخراً قرارٌ أصدره وزير التجارة والصناعة بمنع استيراد الفوانيس والمنتجات التي تحمل طابع الفن الشعبي "الفلكلوري"، حمايةً للتراث المحلي والحِرف اليدوية التي تجسّد الهويةَ المصرية. القرار الذي يُعد بمثابة "عودة الروح" للفوانيس المحلية، حفّز صُنّاعها لمضاعفة إنتاجهم من الفوانيس وابتكارهم في أشكالها وتصميماتها ليصل التجديد إلي الخامات التي تدخل في صناعتها، فبجانب الفوانيس النحاسية وتلك المُصنّعة بقماش الخيامية ظهرت الفوانيس الخشبية التي أبدعتها ورش النجارة بدمياط، لتنطلق منها إلي أسواق المحافظات الأخري، ما ضاعف من إقبال الجمهور علي شراء الفانوس المصري رغم ارتفاع أسعاره مُقارنةً بالعام الماضي لارتفاع تكلفة مستلزمات التصنيع. الإقبال الكبير علي شراء الفوانيس المحلية من قِبل الجمهور، يظهر جلياً في الزحام الذي تراه أمام الشوادر والمحال والسرادقات التي تبيع الفوانيس خاصة في شوارع القاهرة الفاطمية. وفي منطقة باب الخلق القريبة من الغورية يمتد شارع تحت الربع المكتظ بعشرات الوِرش التي تصنع الفوانيس، يعكِف عليها حرفيون مَهرة يُشكّلون من صفائح الصاج الذهبية والزجاج الملوّن قطعاً فنية بصناعةٍ مصريةٍ خالصة. "الفانوس المصري يكسب" يقولها مبتسماً العم مجدي أبوالعجب صاحب واحدة من أقدم ورش تصنيع الفوانيس بالمنطقة، مزهوّا بزحام الزبائن أمام معرضه، ويتابع: قرار حظر الاستيراد يرد الروح للفانوس المصري ويشجع الصناعة الوطنية، ويحد من إغراق السوق بالفوانيس الصينية، لكن تأثيره بشكلٍ أوضح سيظهر في رمضان المُقبل، لأن هناك شُحنات من هذه الفوانيس تم إدخالها قبل صدور القرار، غير البضائع المتبقية من الموسم الفائت ومازالت موجودة في السوق. يُخبرني العم مجدي أنه ورث حِرفة صناعة الفوانيس أباً عن جد، يري أن عراقتها الضاربة في عُمق التاريخ يجب أن تكون مدعاة للفخر: هذه الحرفة تعود إلي العصر الفاطمي، فعندما دخل المعز لدين الله القاهرة في إحدي ليالي رمضان، خرج الأطفال لاستقباله بمصابيح صغيرة تُضاء بالشموع، بعدها بدأ الحرفيون بصنع فانوس له باب وتوضع داخله شمعة، ومن ثم أصبحت الفوانيس تقليداً رمضانياً يرتبط بالمصريين حتي اليوم. ورغم ارتفاع أسعار الفوانيس هذا الموسم لارتفاع أسعار المواد الخام التي نستخدمها في الصناعة، أري أن إقبال الزبائن زاد بشكلٍ ملحوظ عن العام الماضي. ويوضح أن أسعار الفوانيس المعدنية التي ينتجها تتفاوت حسب التصميم والحجم الخاص بكل فانوس، مضيفاً: تبدأ الأسعار من عشرة جنيهات للفانوس الصغير "أبو شمعة" الذي أنتجنا منه كمياتٍ هائلة هذا الموسم لعودة إقبال الأطفال عليه، بينما تتراوح أسعار الفانوس المتوسط من 50 - 200 جنيه، وتصل إلي 1000 جنيه للفوانيس الكبيرة التي تُقبل عليها المحلات والفنادق والمطاعم الكبري لتجهيز ديكورات استقبال الشهر الكريم. بعض أنواع هذه الفوانيس لها ألقاب ترتبط بتصميمها، فهناك الفانوس البرج، وتاج الملك، والفانوس النجمة، وأبو العيال والفانوس الكروي. أما عن مراحل تصنيع الفانوس فيشير العم مجدي إلي أن جميعها تتم يدوياً، وتبدأ بتقطيع صفائح الصاج وقطع الزجاج بأبعاد وزوايا معينة، ليناسب حجم وشكل الفانوس المراد صنعه، يتابع: نقوم بعدها بتشكيل الصاج باستخدام تقنية الحفر أو النقر، لتزيينه بالزخارف الفلكلورية والنقوش الإسلامية وأسماء الله الحسني التي ننقشها بمختلف أنواع الخطوط العربية، ونبدأ بتلوين الزجاج قبل أن نجمع قطع الفانوس في مرحلة التشطيب باستخدام آلة اللحام ليظهر في شكله النهائي. من شارع تحت الربع نتجه إلي درب البرابرة بمنطقة العتبة، لتستقبلنا صفوف الفوانيس المُصنّعة بقماش الخيّامية، التي تتراص علي واجهات المحال التجارية في المنطقة التي تشتهر بتصنيعها. فكما يخبرني خالد حلمي أحد مُصنّعي الفوانيس المحلية، هناك مايزيد عن 25 ورشة بالمنطقة متخصصة في صناعة فوانيس الخيّامية المرتبطة بتراثنا الحضاري. متابعاً: صناعتنا تراجعت بشكلٍ كبير خلال السنوات الماضية، مقابل تفوّق الصين علينا بإمكانياتها وإغراقها للأسواق بفوانيس تشوّه القيمة التراثية لهذه الصناعة. غير أن الحرف اليدوية كانت ساقطةٌ تماما من حسابات المسؤولين لأكثر من ثلاثة عقود، لما نتعرض له من صعوبات تتمثل في ارتفاع أسعار الخامات وانعدام سُبل تطوير هذه الحِرف ودعمها وحمايتها. ويضيف: ضاعفنا إنتاجنا من الفوانيس بعد هذا القرار، وابتكرنا أشكالاً جديدة لفوانيس الأطفال التي لاقت إعجاب الزبائن، قمنا بدمج قماش الخيامية بنوع من البلاستيك الشفاف، ووضعنا داخله دائرة كهربائية تتيح مصدر إضاءة بلون أحمر لافت، ما يحقق عامل الجذب للأطفال ولإبقائهم علي صلة بتراثنا الثقافي والفني في صناعة الفوانيس. بينما تنتشر بميدان السيدة زينب الفوانيس البلاستيكية والخشبية محلية الصُنع التي شهدت إقبالاً كبيراً من الجمهور، حيث يُشير محمد سلامة أحد بائعي الفوانيس إلي أن الفوانيس الخشبية انطلقت من وِرش النجارة بدمياط، لتبدأ في تصنيعها العديد من الورش الأخري لتزايد طلب المعارض عليها، وتبدأ أسعارها من ثمانية جنيهات للفانوس الصغير إلي 50 جنيها للحجم الأكبر. الأسعار تبدأ من ثمانية جنيهات وتصل إلي ألف جنيه