يتلفتون حولهم كالصياد المنتظر قدوم فريسته، يدققون بملامح المارة ويستخدمون مهاراتهم المكتسبة في التعرف علي الصالح منهم، أجساد صعيدية متراصة علي الأرصفة لن تستطيع رؤيتها بوضوح، ولن تتمكن من تحديد ملامحها أيضاً، فدخان سجائرهم المصرية يكسو وجوههم وكوب الشاي «الحبر» لا يفارق أيديهم. نمر عليهم يومياً ولا نلقي بالاً لهم، ورغم استمرار وجودهم إلا أن كثيرين لا يستطيعون رؤيتهم فهم أشبه بالسراب، ظهورهم محنية وكعوبهم بالية وأيديهم متشققة وملابسهم مهلهلة. «الأجنة والمرزبة» مصدر رزقهم الوحيد الذي لا يعرفون غيره، يود كثير منهم أن تنقلب حياته رأساً علي عقب فيترك سكنه الذي هو أشبه بالجحر ليسكن ولو ليلة واحدة بأحد القصور التي شارك في تشييدها، حالهم لا يسر أحد ولا يملكون إلا الحلم، والآن هم قانطون رافضون مستاءون من أوضاعهم المتدنية ويحلمون بالتغيير. «الفواعلية» .. لم يتغير حالهم منذ أعوام عدة، ظلوا قيد التهميش والإهمال من قبل الدولة، لا يكترث لهم أحد حتي النقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، ورغم أن أزمتهم علي مرأي ومسمع من الجميع إلا أنهم يعيشون حتي الآن دون تأمين أو معاش اجتماعي أو مرتب ثابت. اغترب معظمهم عن محافظته تاركاً خلفه أفواها لا تغلق، زوجاتهم وأولادهم لا يعنيهم شيء إلا سد جوعهم وقضاء حوائجهم، ورغم ذلك فلا أحد ينظر لما يبذلوه من جهد ولا أحد يفكر في استغلال قدراتهم البشرية وتوظيفها بالشكل الصحيح. يبيعون صحتهم بأبخث الأثمان، لا يتقاضون سوي حفنة من الجنيهات لا تكفي قوت يومهم، ولا يدخرون شيئاً إلا المرض ولا يرث أبناؤهم إلا الفقر. يتركز تواجد الفواعلية في عدة أماكن داخل نطاق القاهرة أهمها دوران شبرا وميدان رمسيس وميدان المطرية والإسعاف والسيدة زينب والسيدة عائشة وشارع عباس العقاد وزهراء المعادي ومنطقة أرض اللواء وبولاق الدكرور. أعداد المتواجدين بكل منطقة لا تتخطي ال30 فردا، ولا يسمح لأحد دخيل علي المنطقة بالجلوس معهم فهناك قانون وضعه هؤلاء وبروتوكل يجب ألا يتخطاه أحد من الغرباء. حكاوي الرصيف «لقمة هنية تكفي 100» مثل مغلوط لا يوجد له مكان بين عمال التراحيل فكلما زاد عدد المتواجدين قل الأجر، هذا ما قاله مجاهد أحد العاملين بمنطقة المطرية : «الرزق يحب الخفية وإحنا أول ما بنلمح العربية جية أو زبون جاي بنجري عشان نركب معاه واللي بيلحق يروح يبقي محظوظ طبعاً، وصاحب الشغل طبعاً بيختار الأقوي فينا يعني الطويل واللي عنده عضلات عشان يكون قادر يخلص الشغلانة» . وتابع: «مش من مصلحتنا خالص إن عددنا يزيد لأنه كل ما العدد زاد الفلوس قلت عشان المقاول ممكن ياخد 6 بدل 3 ويقسم الفلوس علينا وبكده إحنا بنخسر لأن كل يوم يظهر لنا واحد جديد.. الصراحة الشغلانة لمت!!». فواعلي .. وافتخر تعجبت من حديث مجاهد عن المهنة وكأنه يعمل في الأبعدية وشعرت أنه يفخر بما يقوم به وتأكد ما دار ببالي حينما سألته إنت بتكسب كويس؟، فرد قائلاً: «آه طبعاً بكسب وبشتغل علي كيفي كمان أنا مش بروح مع مقاولين لأن معظمهم نصاب وبينهب الفلوس كلها لوحده أنا بشتغل علي الشقق إللي بتتوضب طياري يعني .. أطلع نقلة رمل أنزل رتش عمارة .. أكسر حيطة .. أطلع شيكارات أسمنت. وكده يعني، وبكده محدش بيضحك علي ومش بيكون فيه وسيط بيني وبين الزبون». وقالك «أنا باخد70 جنيه أجرة لإنزال هدم الشقق «الرتش»، و20 جنيه لمتر الرمل، وشيكارة الأسمنت ب3 جنيه.. إحنا بنكسب دهب بس ربنا يبعد عنا المرض». ويقول محمد عزام 36 عاما: «يوميتي 50 جنيه وراضي بيها الحمد لله وده المبلغ إلي اتفقت مع المقاول عليه .. أياً كان حجم الشغل ويوميتي ماشية حتي لو مشتغلناش كتير بس دي حالات نادرة لما مثلاً صاحب الشقة يتأخر أو ميجيش ، إحنا مش من مصلحتنا إننا نزود الأجرة لأن السوق نايم أوي خاصة بعد ما الحكومة شدت حيلها علينا وهدت كل العمارات المخالفة فمبقاش في شغل زي وقت الثورة .. دي كانت أيام فل». العمر ضاع ويلتقط طرف الحديث الحاج أنور 54 عاما الذي كست ملامح الحزن وجهه مستنكراً ضحك زميله، فقال: «إنت بتضحك عشان إنتا لسة في عز شبابك ومش شايل الهم زيي أنا محدش بقي بيرضا يشغلني معاه ولا حتي بتوع الشقق مع إن صحتي لسة كويسة بس هما بياخدوا بالمظهر.. والله يا بنتي أنا نسيت شكل عيالي ومش عايز أروح أزورهم لإني مببعتش فلوس بقالي شهرين وبعت تليفوني وهما مش عارفين عني حاجة .. هوريهم وشي إزاي وأنا كنت السبب في فسخ خطوبة بنتي الكبيرة وكنت ورا طلوع عيالي ال 2 من المدرسة .. إحنا محدش حاسس بينا والعمر بيعدي إحنا خسرنا صحتنا وعمرنا في الشغلانة دي ومحدش قدرنا .. أنا نفسي بس في معاش يأكلني ويصرف علي بيتي». عم سمير يجلس بجوار الحاج أنور صديقه المقرب ويقول: « أنا بقي مبقتش استني حد يطلبني أنا بلف بنفسي علي الشغل .. وأياً كان الشغل عمره ما يعيب صاحبه أنا ممكن أشتغل أي حاجة خدام أو أمسح عمارات المهم إني أروح بالليل بأي فلوس عشان العيال يكملوا تعليمهم بس أكثر حاجة بعملها دلوقتي هي مسح سلالم العمارات وبتحصلي علي 5 جنيه من كل شقة وساعات بيدوني مساعدات تانية زي زيت أو شاي بس أنا في الأصل فواعلي والتكسير مفرقش كتير عن المسح». مقاول الدماء أنا مظلوم وكل ما يقال عن العاملين بمهنتنا افتراء، اتهامات كثيرة نفاها الحاج سيد الأسيوطي مقاول أنفار عن ذاته، وأكد أنه لا يجني الملايين مثلما يتصور العمال، فما يتقاضاه من مقاول البناء بالكاد يكفيه، ويقول: «أنا وسيط بين العمال وبين مقاول العمارات، وحتي إذا كان عدد الأشخاص المطلوبين أقل في الوقت اللي يحدده لا أحصل منه إلا علي المبلغ الذي يساوي عددهم، وأنا عادة لا أبحث عن فواعلية جدد، فأنا أتعامل مع فواعلية بعينهم أثبتوا كفاءتهم في الشغل، وإذا كانوا غير موجودين اضطر أن أبحث في الشوارع علي عمال غيرهم لكن قبل الساعة 7 وأجمعهم في سيارة نقل أو ميكروباص لتوصيلهم لمكان العمارة، واتفاقي معهم يكون كلامياً، وأحصل مقابل النفر الواحد 120 جنيه». وقال: «أنا براضيهم بالي فيه النصيب علي حسب مجهود كل واحد فيهم وباخد الباقي ليا ده عرقي، وكمان أنا المسئول قدام مقاول العمارة عن أي حاجة يعملها العمال دول في وشي ولو عمل حاجة أو سرق مونة بنعرف نجيبه وساعتها بنقعده في البيت، وفي أغلب الأوقات مش بيحصل كده لأن كلنا معروفين لبعض والوسط بتاعنا ضيق ومعظمنا عارف بعضه». بداية جديدة «مصر تقع ضمن القائمة السوداء للعمالة التي أعدتها منظمة العمل الدولية لوجود مثل هذه الشرائح من العمالة التي تندرج تحت مظلة العمل العبودي»، هذا ما أكده كريم صابر، مدير مركز الأرض لحقوق الإنسان، مشيراً إلي أن عمال التراحيل محرومون من أي حق من الحقوق الإنسانية سواء التأمين الصحي أو الاجتماعي أو الدخل المناسب أو الإجازات بجانب أن العمل يتم في ظروف سيئة بما يستلزم أن يكون هناك اتجاه عام حالي يحمل خطة واضحة ومحددة الوقت لكفالة هذه الشرائح العمالية مهدرة الحقوق. ويشير صابر إلي أن إهمال الدولة المصرية لهذه القطاعات انعكس بشكل سييء علي أوضاعهم الاجتماعية الأسرية التي تمثل في مشكلات العنف وسوء الرعاية الصحية والتعليمية بما يجعلهم مؤهلين لمشكلات مجتمعية كثيرة مطالباً بأن تكفل الحكومة الجديدة بداية جيدة لحياة هؤلاء وغيرهم من المهمشين. من جانبه قال الدكتور أشرف والي أستاذ علم الاجتماع ومؤسس رابطة دعم العامل المصري: «عمال التراحيل ينتمون في الأصل للقطاع الزراعي الذي يضم حوالي 6 ملايين من العمالة غير الرسمية، بجانب 6 ملايين آخرين في القطاع غير الزراعي أي أن 12 مليوناً من أصل 27 مليون عامل بما يعني أن قرابة نصف العمالة المصرية غير منظمة.. وأضاف : «هؤلاء يعانون من تردي الأوضاع الصحية والنفسية، فضلاً عن الظروف السيئة التي يمرون بها وأسرهم». وأكد والي أن الحل يكمن في تسجيل بياناتهم وأسمائهم بشكل رسمي وتدوين معلومات كافية عنهم علي أن تتولي الحكومة مساعدتهم في إدماجهم تحت مظلة العمالة المنتظمة حتي يتسني لهم الحصول علي التأمينات والمعاشات المطلوبة.