أكثر من مشهد استوقفني طويلاً بعد القرار الكارثي بتعويم الجنيه وتركه دون حماية أمام الدولار.. متصل ببرنامج تليفزيوني يُجزِم بأن الحكومة لا "تمثلنا" ولكنها تتفاني في خدمة رجال الأعمال والتُجار وتُمعِن في تدليلهم.. مواقف معبِرة ودالة وتحمل الكثير من النُذُر أضعها، وغيرها كثير مما يستعصي علي الحصر، أمام حكومة عاجزة ويبدو أنها فوجئت مثلنا تماماً بالعواقب المُرَوِعة لقرار التعويم..وهو الإجراء الذي كان يتعين أن تدرسه جيداً من كافة جوانبه وتتحسب لتأثيراته الخطيرة علي المواطنين وخاصة محدودي ومعدومي الدخل.. هذه التأثيرات أصابت الناس بصدمة تكبر وتتفاقم مثل كرة الثلج يوماً بعد يوم. معظم البيوت تكاد لا تستطيع توفير ما تطبخه وتأكله مع اختفاء المواد الغذائية الرئيسية مثل الأرز والسكر والزيت فضلاً عن أسعارها الفلكية في السوق السوداء، ناهيك عن اختفاء الأدوية بصورة أجبرت بعض الغلابة علي تفضيل "الموت الرحيم" لهم ولأحبائهم.. أي اختيار الموت مرضاً وألماً لضيق ذات اليد.. والغريب أن الحكومة التي أدارت ظهرها لمعاناة وأنات فقراء المواطنين سارعت لاسترضاء المقاولين ورجال الأعمال ومصنعي الدواء وتعويضهم عن الخسائر التي تكبدوها نتيجة إجراءاتها الاقتصادية وبادرت بتقديم مشروع قانون إلي البرلمان لتحصين التعويضات التي ستقدمها لهم ضد الطعن عليها أمام القضاء!!.. وليس لدي أي تحفظات علي مبادرة الحكومة لتعويض الأغنياء والقادرين، ولكنني كنتُ أتوقع أو أتمني أن تبادر بنفس السرعة والحماس لتعويض المواطنين عن الأضرار الفادحة التي لحقت بهم جراء قراراتها وخاصة أن المصريين الذين يعيش أغلبهم تحت خط الفقر بالفعل، فقدت دخولهم أكثر من 60% من قيمتها.. فالموظفون وأصحاب المعاشات يعانون بلا حدود لأن رواتب معظمهم لم تعد تكفي دفع فواتير الكهرباء والغاز والمياه التي شهدت زيادات خيالية متتالية متعسفة وغير عادلة.. أما الفلاحون فقد تلقوا ضربة مزدوجة إذ قفزت تكاليف معيشتهم إلي مستويات غير مسبوقة ككل المصريين، بينما يكادون يتوقفون عن الزراعة وتخرب بيوتهم نظراً لارتفاع كُلفة مُدخلات وأدوات الإنتاج مثل التقاوي والأسمدة والعمالة والوقود.. ولو أنصفت الحكومة الفلاحين لأنقذت نفسها وكل الشعب من نقص محاصيل رئيسية مثل القمح والذرة والأرز وقصب السكر وهو ما كان سيوفر مليارات كثيرة ننفقها في سد نقص هذه المحاصيل بالإستيراد. ومما يدعو للضحك حد البكاء أن يطالبنا محافظ البنك المركزي بالصبر وتحمل تبعات اغتياله للجنيه بينما يُطلِق الحد الأقصي للمرتبات في البنوك ليتقاضي هو وغيره من كبار القيادات رواتب تتجاوز المليوني جنيه شهرياً.. يحدث ذلك أيضاً في الوقت الذي ألغت فيه الحكومة صاغرة، تحت ضغوط أباطرة البورصة، ضريبة سبق أن فرضتها علي الأرباح مما عرضها لانتقاد صندوق النقد الدولي، مرجعية الرأسمالية في العالم، الذي وصف الضريبة المُلغاة بأنها "عادلة وتعمل علي تحسين الإيرادات".. ولا شك أن الحكومة التي تُعفي الأغنياء من الضرائب وتفرضها علي الفقراء والغلابة (ضريبة القيمة المُضافة)، تصيب العدالة في مقتل ولا تستحق الإقالة فقط بل يجب محاكمتها أيضاً.