الأمة التى تسأل الواحدة فيها عن اسمها فتقول لك: «فلانة، إن شاء الله» أمة تحتاج إلى مراجعة نفسها ومراجعة فهمها لمعانى الكلمات قبل نطقها. الرغبة الجامحة فى حشر اسم الله فى كل جملة تغلبت على الرغبة فى التحلى بسمْت الإنسانة العاقلة: التفكير فى ما تقول. فى القنوات الدعوية والمساجد تركيز على ذكر الله، على الإغراء بعدد الحسنات التى تنالها إذا قلت سبحان الله والحمد لله، بتفصيل يصل أحيانا إلى إعطائك بيانا بعدد الحسنات على كل حرف. لا بأس، إلا أن التركيز على هذا النمط من التعبد يأتى على حساب الأخلاق الاجتماعية التى تعنينى وتعنيك. يأتى على حساب التركيز على قيمة كالنظام أواحترام الدور أو احترام خصوصية الناس، أو احترام قوانين المرور. ستقولين لى ولكن الإسلام يحث على كل هذا. وسأقول لك: أعرف. كل نظام اجتماعى فى العالم يحض على أساسيات كتلك. لكن هذه ليست المشكلة. المشكلة أن المشتغلين بالدين يعرضون الأحاديث كما يعرض مذيعو قنوات المبيعات التليفزيونية المنتجات. يبحثون عن الحديث الذى يعطى حسنات أكبر مقابل مجهود أقل. وأين تجدين هذه الأحاديث إلا فى ذكر الله والصلاة على نبيه؟! وأصبح المواطنون وكأنهم آلات حاسبة متحركة، يحصون لأنفسهم عدد الحسنات على «أعمال» تنتمى كلها إلى فعل اللسان أو العين أو الأذن. الحواس. صورة متكاملة للمواطنة المأنتخة المتكاسلة عن تحريك يدها، ناهيك بتشغيل دماغها، ولو فى الكلام الذى تقوله. صورة مناسبة تماما للموظف والحِرفى المصرى الكسول الذى يريد أقل عمل وأعلى عائد. أما حين يأتى الأمر إلى مفردات حياتنا الحديثة، الأخلاق الاجتماعية التى أحتاجها منك وتحتاجينها منى، فلا تجدى أثرا لكود أخلاقى عصرى، فلم يكن فى أيام النبى سيارات ومترو أنفاق وتنظيم مدينى حضرى، ولذلك لن يجد هؤلاء الدعاة أحاديث يستخدمونها فى توجيه المواطنين إلى السلوك الحسن. هل تدركين المشكلة؟ هل وصلتك الفكرة التى أريد أن أوصلها؟ المشكلة أن الجماعات الدينية خلقت فى العقود الأخيرة كودا أخلاقيا يعتمد على الحلال والحرام. والحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه. وبما أن القرآن والسنة استخدما مفردات الزمن الذى بُلِّغا فيه، فليس لدينا أحاديث عن سلوك التعامل مع مفردات زماننا نحن. ومهما قال الدعاة عن هذه الأشياء تظل كلماتهم فيها ضعيفة التأثير، لأنها غير مترجمة إلى إحصاء دقيق للحسنات. قولى لى حديثا واحدا أغرى به الناس لكى يقودوا سياراتهم بطريقة آمنة لهم ولغيرهم، وأنهى به من يتسببون فى احتقانات مرورية، أو يقودون سياراتهم كأنهم فى «مدينة ملاهى». أريد حديثا فيه إحصاء بعدد الحسنات. لو يفكر الدعاة بهذه الطريقة سيجدون، بدلا من التفكير بطريقة مندوبى المبيعات، الذى يجعل الناس يفكرون فى ما فيه مكسب أكبر وليس فى ما يحتاجون إليه أكثر. ما هو الناس مابقتش بتفهم إلا بكده. الروائى ياسر عبد اللطيف بينما يتمشى فى المعادى وجد أحد جنود الحراسة يشعل نارا فى جذع شجرة لكى يتدفأ. فقال له: يا أخى حرام عليك الشجرة تتحرق. فارتبك الجندى وقال لياسر: «أيوه صحيح، الشجرة سنة». المسكين لا يستطيع أن يفكر فى صح وخطأ إلا بموجب القرآن والسنة. ويريد أن يلصق الكلمة والسلام. انظرى إلى أقصى ما فعله الإسلامجية فى التعامل مع هذه المفردات الحديثة، أقصى ما فعلوه فى «تمدين» خطابهم الدينى، أنهم بحثوا عن شوية أدعية تقال عند استخدام أيها. تركبين أسانسير فتفزعين لصوت قادم من جوفه، غير واضح. تركزين فتجدينه دعاء ركوب «الدابة». نفس الدعاء الذى تصر «مصر للطيران» على تشغيله قبل إقلاع رحلاتها. ويا ويلك يا سواد ليلك لو قلت إن هذا الدعاء -فضلا عن لزوم كونه شأنا شخصيا بين الإنسان وربه- ليس مناسبا أبدا هنا. هذا دعاء ركوب «الدابة». تعرفين معنى كلمة «دابة». لقد كان هذا مناسبا لراكبى الجمال والخيل على عهد النبى، لأنه يتحداهم أن يخلقوا مثلها ويذكرهم بإعجاز الله فى خلقها وتسخيرها. فيقول: «سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين». أى لن نستطيع أن نخلق قرينا لها. أما فى حالة الطائرة فهى مجرد آلة بشرية. الإنسان هو الذى خلقها، وهو قادر على أن يوجد لها بدل القرين ملايين. ونفس الشىء ينطبق على الأسانسير والسيارة والتوك توك والدراجة والموتوسيكل. ترديد هكذا دعاء فى الآلات الحديثة يجعلك ببغاء ترغين بما لا تعين. الله لن يغضب لو قلت له «اكفينا شر الطريق»، بصدق. وبلاش فزلكة. وبلاش رياء. لكنها نفس النظرية التى أشرت إليها فى البداية. ما سهل فعلُه وكثرت حسناتُه. الشيخ مش بتاع طرقات، الشيخ بتاع حسنات. الشيخ مش بتاع ذوات بشرية، الشيخ مشغول بحماية الذات الإلهية، الشيخ لا يعنيه أن يتذكر السائق مراجعة مراياه، ولا يعنيه أن يتعلم السائق قواعد الحارات المرورية. ولو كان يعنيه ماعندوش حاجة يقولها. واحنا عايزين حد عنده حاجة يقولها عن حياتنا الحديثة، فى المدينة. زهقتونا!