منذ أكثر من أربعين سنة بالتحديد عام ستين، شهر يناير، سافرت إلي الاقصر واسوان ضمن فريق الكشافة بالمدرسة الثانوية الفنية التي التحقت بها عام تسعة وخمسين، قطعنا مسافات شاسعة سيرا علي الاقدام، تجولنا في البر الغربي للاقصر الذي اقيم فيه الان اذكر زيارتنا لوادي الملوك، وارتقاءنا الجبل ونزولنا إلي وادي الملكات. حقا شتان ما بين زيارة وزيارة. في هذه المرة اجيء مزودا بالمعرفة التي تشرح وتفسر ما اراه. فرق كبير بين ان يري الانسان لوحة ولا يعرف شيئا عن الرموز التي تحويها، والعصر الذي انتجت فيه، وأن يقف امامها مزودا بالمعلومات والرؤية والخلفية الثقافية، هذا هو بالضبط الفرق بين زياراتي في العقود الماضية وتلك التي اقوم بها إلي الاثار المصرية القديمة في السنوات العشر الاخيرة، ولذلك تبدو رؤيتي الآن وكأنها الاولي، ولا اعلم ما يمكن ان اتوصل اليه بعد اتقاني اللغة المصرية القديمة التي بدأت محاولات الإلمام بها خلال السنوات الاخيرة. بعد ان عشت لحظات الشروق والغروب قصدت دير المدينة. انها قرية الفنانين والحرفيين الذين قاموا برسم وحفر المقابر والمعابد في البر الغربي، بعد عودتي من باريس اتجهت مباشرة إلي الاقصر وعندي شعور بالذنب لانني لم اول هذا المكان عناية من قبل. ادركت اهميته من خلال اللوفر، هنا كان الفنانون المبدعون يعيشون في هذه القرية، دير المدينة. وفيها يموتون ايضا، ممنوع اتصالهم بالعالم الخارجي. بدأت سيري إليها في الصباح الباكر، ذروة تدفق السائحين إلي المزارات الاثرية ما بين السادسة صباحا والعاشرة، المواقع مفتوحة للزيارة حتي الخامسة بعد الظهر، وأفضل الاوقات ما بعد الثانية عشرة وحتي نهاية الوقت المسموح به. هذا ما اتبعه في الشتاء حيث تزداد كثافة الزائرين، ولكنني في الصيف، في اشد شهور السنة حرارة، بؤونة طبقا للتقويم المصري القديم، الموافق ليونيو، عدد السائحين اقل وفي منتصف النهار تبلغ الحرارة اقصاها. عندما وصلت إلي قرية الفنانين كانت الشمس ماتزال في بداية رحلتها اليومية التي منها يتحدد اليوم، ولم يكن هناك اي زائر في الموقع كله، كان الدكتور سلطان كبير مفتشي اثار القرنة في انتظاري، توقفت معه، ارقب موقع القرية، اقارن بين ما رأيته في الصور الضخمة التي شاهدتها في اللوڤر، والملتقطة علي امتداد ستين عاما. منذ ان بدأ التنقيب عن القرية التي كانت مطمورة تحت الرمال وحتي ظهور معظم تخطيطاتها وما تبقي منها. الموقع لا يقل في اهميته عن موقع وادي الملوك، كلاهما قصي، سر، بعيد عن الاعين، تحيط به التلال الصخرية المؤدية إلي وادي الملوك حيث المقابر العظمي التي حفرها هؤلاء الفنانون الذين اعرف الآن اسماء بعضهم وملامحهم من خلال ما تركوه من لوحات علي الجدران أو تماثيل منحوتة، المكان تم اختياره بعناية، انه قريب من منازل الابدية »القبور«.. بعيد عن الفضوليين، يضم كل ما يحتاج اليه الانسان من مولده حتي مماته، البيوت ماتزال جدرانها امامنا، ما تبقي منها واضح بتخطيطاته، وعلي سفح المرتفع الغربي تبدو قبور الفنانين، امتار قليلة تفصل ما بين مقار الحيوات ومقار الابدية، اي ان الانسان كان يعيش ويموت في هذا المكان. ان السؤال دافعنا في معظم الاحيان للمعرفة، وبالنسبة لي كانت التساؤلات عديدة، منها علي سبيل المثال: نحن نري الاهرام. والمعابد الكبري، والمقابر المنقوشة، لكننا لا نعرف الكثير عن اولئك الذين صمموا ونفذوا هذه النقوش الرائعة، من هم؟ وكيف تم اختيارهم، وكيف تعلموا؟ ما المواصفات التي كان يجب ان تتوافر في هؤلاء الفنانين الذين يرسمون الملك وصور الألهة، من حدد شكل ايزيس واوزير، وحوري وحتحور؟ طبقا للعقيدة المصرية فإن رسم شخص ما يعني معادلا موضوعيا تاما لوجوده، لسعيه، ليس في الحياة الدنيا فقط، انما في الابدية ايضا، لذلك كان خصوم الانسان يدمرون بعض ملامحه في الرسوم، خاصة الانف لحرمانه من الحياة في الاخرة، اذن ما هو شعور الفنان الذي يرسم صورة الاله أوزير أو ايزيس. ومن يحدد له الملامح؟ خاصة ان الملامح متشابهة علي امتداد آلاف السنين؟ هنا اقول بدور المؤسسة الدينية المتمثلة في الكهنة والذين كان دورهم لا ينحصر فقط في العبادات والطقوس، انما في التأمل والتفكير وتصوير هذه القوي الخفية التي تنظم العالم. التي تأتي بالفيضان في موعده، والتي تدفع بحركة الشمس من الشرق إلي الغرب، ومن الغرب إلي الشرق عبر الليل، كذلك وضع هذه الاطر الاخلاقية التي تنظم علاقات الانسان بالكون. هذه الاطر التي جعلت العلامة جنس هنري برستد يصدر كتابه »فجر الضمير« منذ حوالي قرن، وكان يدور حول الضمير الانساني الذي ولد من خلال التأمل والمتون علي ضفتي النيل، كان الفن يتبع الكهنة الذين كان يتبعهم ايضا علم الفلك، والزراعة، وما يتصل بالكون، كذلك العمارة التي قصد بها ضمان الخلود وعبور الازمنة. كان الفن بدءا من الرسم والنحت والعمارة وسائل لتجسيد التصور الديني والفكري الذي اكتمل علي ضفتي وادي النيل. وكانت الكتابة فعلا مقدسا، اذن.. كان هؤلاء المبدعون يتبعون المؤسسة الدينية. وكان من بين رجالها المختصون باختيار مواقع المراقد الابدية، وتحديد مواصفاتها وتصميماتها واللوحات التي سوف تسجل علي الجدران والتي ما هي إلا تصورات المصريين القدماء عن الحياة وعن العالم الاخر بأدق تفاصيله. كانت الكتابة مرادفة للواقع، تلخصه وتشير إليه، وكانت اللوحات تعكس تفاصيل الحياة اليومية املا في عودتها مرة اخري. ولم يكن الفن مقصرا علي القبور، انما كان للحياة اليومية فنونها ولكم توقفت امام مشط علي هيئة غزال وملعقة علي هيئة امرأة تسبح في الماء، كان الفن جزءا من الحياة اليومية للملوك وللنبلاء وللفقراء ايضا. تبدو قرية الفنانين وكأنها مكان خاص جدا، معزول إلي حد ما، علي حافة الصحراء، اكاد اري مسافة الحياة الانسانية ما بين منازل هؤلاء الفنانين التي لا تختلف كثيرا عن منازلنا التقليدية في صعيد مصر. وقبورهم المحفورة في المرتفع الصخري المطل علي بيوت القرية. والمعبد القائم إلي الشمال، كان هؤلاء المبدعون يتوارثون التقاليد ابا عن جد، ويتعلمون اصول الفن منذ الصغر، وان هذا كله يتم تحت اشراف رجال الدين ويبدو ان الاساطير المتوارثة عن هؤلاء العمال والفنانين غير صحيحة، ومايزال بعضها ساريا بين الاهالي في الاقصر، تقول الحكايات انهم كانوا يقادون معصوبي الاعين إلي اماكن المقابر الملكية، وإنهم كانوا يقتلون بعد تمام انجازهم حتي لا يبدعوا مرة اخري كما ابدعوا. ليس هذا في رأيي من الحقيقة في شيء، الفنان الذي يعرف ان مصيره القتل لا يمكن ان يواصل الابداع بهذه الروعة، وقد اثبتت الابحاث التي قام بها علماء لآثار، وما وصل الينا من اثار تلك القرية انهم كانوا يعيشون في ظروف جيدة وطبقا لتنظيم جيد وان كانت السرية طابعا عاما للمكان ولما يقولون به لارتباط عملهم بمراقد الملوك الابدية وما تضمه من كنوز. امضي في الصباح الباكر متجولا بين ما تبقي من جدران، الحفر المؤدية إلي عمق الارض، مخازن الحبوب والغلال، المنازل متشابهة، تنتظم في مجموعات، كل مجموعة تشكل منظومة منفصلة، كلها مبنية من الطوب اللبن نفس المادة التي استمر استخدامها لآلاف السنين، حتي بدأ الطوب الاحمر يحل مكان الطوب اللبن في الريف المصري، وفي القرية ايضا. السقوف صنعت من جذوع النخيل، وهذا مستخدم حتي الان في البيوت التي تبني طبقا للنظم التقليدية. تتكون البيوت من طابق ارضي يضم اربع حجرات، وسلما يؤدي إلي السطح، الجدران مكسوة بالجص، احيانا كان يوجد عليها بعض اللوحات التي تصور الحياة اليومية، وظاهرة الرسم علي الجدران تنفرد بها الحياة المصرية، وتستمر حتي الان فيما يعرف برسومات الحج. فمن عادة المصريين بعد العودة من الاراضي المقدسة ان يزينوا واجهات بيوتهم بلوحات يرسمها فنانون شعبيون للكعبة والروضة الشريفة مع وسيلة الانتقال التي تنوعت من الجمال، إلي السفن، إلي الطائرات الان. في القرية منازل اكثر اتساعا.. داخلها اعمدة من الحجر، ومن الواضح ان قاطنيها كانوا من مستوي اجتماعي متميز، ربما كانوا من كبار الاداريين الذين يشرفون علي شئون الحياة، وربما كان بعضهم من المعلمين الكبار الذين يلقنون الفنانين اسرار الرسم، وحروف الكتابة. كنت اتجول بين بقايا البيوت التي يسودها صمت عميق في تلك الناحية النائية. وأكاد اصغي إلي الاصوات المندثرة، الاصوات التي كانت تشكل الحياة اليومية، ما تبقي موجود الان في القرية وفي مختلف متاحف العالم، قطع الفخار، اجزاء من صناديق، ادوات نحاسية، منازل للنسيج، قطع من حصير وأجزاء من لعب الاطفال، وبرديات حوت نصوصا دينية وادبية ونصوصا رياضية وتعليمات وحسابات خاصة بالبناء وتكاليف المواد المستخدمة وأرشيف المعبد. ثمة مقابر قليلة وصلت إلينا سليمة اهمها علي الاطلاق مقبرة رئيس العمال »كا« والذي توفي في حوالي عام 5931 قبل الميلاد، ومحتويات هذه المقبرة نقلت بالكامل إلي متحف تورينو بإيطاليا. وتضم كل الاثاث الجنائزي ومواد الحياة اليومية من ملابس، وادوات تجميل وادوات طعام، لقد وصل إلي عصرنا محتويات مقبرتين كاملتين الاولي لرئيس العمال »كا« والثانية للملك الشاب توت عنخ امون، وكلاهما يكمل الاخر، مقبرة احد ابناء الشعب، ومقبرة ملك لم يعمر طويلا في الحكم. بعد ان امضيت عدة ساعات في التجوال بين ما تبقي من البيوت بدأت اصعد المرتفع الصخري قاصدا بعض المقابر، وبالتحديد مقبرة احد هؤلاء الفنانين التي توجد بها لوحة جدارية شهيرة له وهو يسجد مصليا. سجدة تماثل تماما سجدة الصلاة كما نعرفها نحن المسلمين في صلاتنا، كنت راغبا في رؤية اصل هذه اللوحة، وفي نفس الوقت رؤية شغل الفنان لنفسه.