مهدت لهذا الحديث بالتخصصات المتنوعة في الهندسة وفي الطب ، وغيرها كثير ، التي جري الناس علي احترامها ، وعدم الاجتراء عليها ، بل ويمكن أن يعرض الخروج عليها في بعض التخصصات إلي مساءلة القانون ، وربما عقابه ، وأردت بهذا الاستشهاد أن أبين أنّ وجوب العلم بالدين شرط للخطاب الديني إلي الغير ، لأنه أمانة ومسئولية . وشرعت في هذا الإطار في بيان وجوب العلم باللغة ، وبالفقه وأصوله ، توطئة للحديث في أصول الفقه ، وهو المفتاح الآمن إلي الفقه ، ولست في هذا مبتدعًا ، وإنما ناقل عن أساتذتي الذين تعلمت عليهم : فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة ، وفضيلة الشيخ عبد الوهاب خلاّف ، وغيرهما . مصحوبة بخواطري إزاء ما نواجهه الآن ويستوجب التأمل والتمحيص والتصويب . قاصدًا أن نتلمس طريقنا معًا لنري وجه الصواب في الفوضي ضاربة الأطناب التي يلبس فيها لباس العلم بالدين والتفقه فيه جهلاء ، وأدعياء ، وذوو أغراض ، وليس بالأقل سوءًا الأنصاف المتعجلون السطحيون الذين لا يعطون لهذه الأمور الدقيقة حقها الواجب ، ويعرِّضون البسطاء للحيرة والتشويش ! لا شك أن الفرد وشأنه فيما يفهمه أو لا يفهمه ، وما يعلمه أو يقصر علمه عنه ، ولكن عليه حين يتحدث بخطابه إلي الغير أن يكون واثقًا من فهمه ومن علمه ، ومسئوليته عن هذا تجاوز مسئوليته قبل نفسه عن فهمه الشخصي وعن علمه الشخصي . ولا شك أن الفرد مسئول أمام نفسه أن يبذل غاية جهده للفهم ولتحصيل العلم ، إلاَّ أن تفريطه في هذا أو تقصيره في بلوغ الغاية فيه ، يبقي مسئوليته محصورة في شخصه ، بيد أن مسئوليته تصير مضاعفة ، وربما أضعافًا مضاعفة إذا تقدم بفهمه المشوش وعلمه الناقص إلي الغير . وهذه المسئولية محكومة بدورها بتصنيفات ، فهي لا تجري علي وتيرة واحدة ، ويحكم تصنيفها حُسن النية إن كان ، أو سوء القصد وغرض الإضرار ! ولست أخفي أن غرضي من هذا الحديث ، أن أتعرض للفريقين ، لا بغرض الإساءة لأحد ، وإنما لحفظ الدين من تشويهه ، وللحفاظ علي فهم الناس له من التشويش أو الانحراف عن صحيح الدين . وتسعي هذه السطور للتعريف بعلم أصول الفقه ، لا إلي بسط العلم كما يعرفه ويحيط به العلماء ، فغايتي ليست تعليم هذا العلم الذي يحتاج تعلّمه إلي دراسة طويلة عميقة ، وإنما التعريف به بالقدر الذي يدرك به القارئ أن المتصدي لخطاب الغير بالدين ، يلزمه إحاطة واسعة بالفقه ، ومعرفة متخصصة بعلم أصول الفقه الذي هو المفتاح اللازم الآمن إلي الفقه . أبواب علم أصول الفقه (1) الحكم الشرعي يُعرِّف العلماء أن التعرف علي الحكم الشرعي ، هو أول الأبواب الأربعة التي يعني علم أصول الفقه بالتعرض لها في إطار طرائق الاستنباط ، والحكم الشرعي بدوره نوعان : الحكم التكليفي ، وهو المتعلق بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع ، والاقتضاء هو طلب الفعل أو النهي عنه ، علي سبيل الوجوب اللازم ، أما التخيير فهو إجازة الفعل أو الكف . أما الحكم الوضعي ، فيعني ربط الشارع بين أمرين ، بجعل أحدهما سببًا للآخر أو مانعًا له ، مثل رؤية الهلال مثلاً كسبب لبداية رمضان و الصوم ، أو شرط الوضوء للصلاة ، أو الوفاة كسبب للإرث ، أو قتل المورث كمانع لميراث القاتل . ويُعرِّف أهل العلم أن الحكم التكليفي علي أقسام : الواجب والمندوب والحرام والمكروه . والواجب هو ما طلب فعله علي وجه اللزوم بحيث يؤثم تاركه ، وله بدوره تقسيمات ، ما بين المطلق من الزمان ، والمقيد بالزمان الذي يكون الزمان المعين مناط أو أمارة الوجوب فيه ، وفي مقابله الواجب المؤقت ومنه الموسع والمضيق علي تفصيل يُعني بمعرفته العلماء . والمندوب يعني الواجب المندوب إليه ، أي المطلوب طلبًا غير لازم ، فيثاب فاعله ، ولا يؤثم تاركه ، ويلحق به البعض الإقتداء بالنبي في شئونه العادية دون أخذه علي وجه الإلزام ، وإلاَّ كان ابتداعًا يبتدع في الدين ما ليس فيه . والحرام من أقسام الحكم التكليفي ، هو المطلوب الكف عنه علي وجه الحتم واللزوم ، ومنه الحرام لذاته لما فيه من ضرر ذاتي ، أو الحرام لغيره لما يؤدي إليه من انحراف كالجمع بين المحارم الذي يؤدي إلي قطع الأرحام. أما المكروه ، فهو ما كان طلب الكف عنه غير ملزم ، ولكن يحسن بالمرء أن يكف عنه ، والفارق بينه وبين المباح ، أن المباح يُخيِّر المكلف بين الفعل والترك . ويجري العلماء علي التفرقة في هذا الحكم التكليفي ، بين الرخصة والعزيمة ، والعزيمة يُعرِّفها علماء الأصول بأنها الأصل ، شُرعت ابتداءً ، وهي بذلك الحكم الأصلي . بينما الرخصة تمنع استمرار الإلزام بالحكم الأصلي ، أخذًا بأسباب منها الضرورة ، والمخمصة ( أي الجوع الشديد أو المجاعة الشديدة ) ، وخشية الموت ، ورفع الحرج والمشقة . وهذه الرخصة إما رخصة فعل ، أو رخصة ترك ، ومن كمال الإسلام ورحمته وتيسيره ، ما جاء بالحديث الشريف : » إن الله يحب أن تُؤْتي رخصه كما تُؤْتي عزائمه » .هذا باختصار شديد هو الحكم التكليفي ، ويقابله عند علماء الأصول الحكم الوضعي ، والحكم الوضعي ينقسم بدوره إلي سبب ، وشرط ، ومانع. والسبب هو الأمر الظاهر المضبوط الذي جعله المشرع أمارة لوجود الحكم ، وقد يكون من فعل المكلف ، أو لا يرجع إلي فعله . وفي السبب والأسباب حديث طويل أسهب فيه العلماء .. أما الشرط ، فهو الأمر الذي يتوقف عليه وجود الحكم الشرعي ، ويلزم من عدمه عدم الحكم ، ولا يلزم من وجوده وجود الحكم .. وهنا يتضح الفارق بين السبب والشرط ، فالشرط علي عكس السبب لا يستلزم وجوده وجود الحكم ، أما السبب فيلزم من وجوده وجود الحكم ، إلاَّ إذا قام » المانع» . والمانع ، هو الأمر الشرعي الذي ينافي وجوده الغرض المقصود من السبب أو الحكم ، وهو علي قسمين : أحدهما مانع مؤثر في السبب كالقتل المانع من الميراث ، والثاني هو الذي يعارض الحكم ويؤثر فيه فيسلبه خاصيته ، ولا يعارض السبب كون الشبهة مثلاً مانعة من إقامة الحد . ويقسم العلماء المانع الذي يعارض الحكم نفسه إلي ثلاثة أقسام يطول فيها الحديث بين العلماء. علي أن قبلة الباحث والبحث والاستنباط في هذا كله ، إنما هي في المصادر النصية المتمثلة في القرآن الحكيم ، والسنة النبوية . والعلم بهما بحر كبير لا يقدر علي الإبحار فيه إلاَّ أهل العلم والحكمة والمعرفة . القرآن الكريم الإلمام بالقرآن الحكيم اللازم للتعرف علي مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية ، ليس هو إلمام العوام ، ولا حتي إلمام الخواص في تخصصاتهم الأخري ، كالذين يتصفحون القرآن أو يتلونه من وقت لآخر ، أو يرتلونه من باب التعبد أو التبرك ، أو الذين يستمعون إليه في الإذاعات أو المحافل أو الاحتفالات الدينية .. فهؤلاء يعرفون القرآن ويوقرونه ويقدسونه ، وقد يستشهدون بآية أو أخري يحفظونها منه ، وينزل في نفوسهم منزلة كبيرة تضاهي إيمانهم بالإسلام ورسالته . ولكن هذا التعرف العام بالقرآن ليس هو كل المطلوب لمن يتصدي لاستنباط الأحكام من واقع أدلتها المستمدة من الكتاب المجيد ، ولا التعرف علي أحكام الفروع العملية من أدلتها التفصيلية . وأُولي أدوات الباحث ليحسن ذلك ، هي العلم باللغة العربية التي نزل بها القرآن ، وكذلك السنة النبوية التي هي المصدر الثاني للأحكام بعد الكتاب المجيد . وقد حدد الإمام أبو حامد الغزالي القدر الذي يجب معرفته من العربية لأداء هذه المهمة الجليلة في استخراج الأحكام ، بأنه » القدر الضروري الذي يُفهم به خطاب العرب وعاداتهم في الاستعمال ، حتي يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله ، وحقيقته ومجازه ، وعامه وخاصه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومطلقه ومقيده ، ونصه وفحواه ، ولحنه ومفهومه ، وهذا لا يحصل إلاَّ لمن بلغ درجة الاجتهاد » . وعلي قدر فهم الباحث في الشريعة لأسرار البيان العربي ودقائقه ، تكون قدرته علي استنباط الأحكام من النصوص الفقهية ، وأهليته للاتجاه بخطاب الدين إلي غيره . فإذا ما توافر له ذلك ، لزمه العلم بالقرآن : مكيه وأكثره في بيان العقيدة الإسلامية ، وهي الوحدانية ، والإيمان بالملائكة والنبيين واليوم الآخر ، وما دار حول ذلك . ومدني القرآن الذي نزل بالمدينة ، وهو يشمل في معظمه الأحكام الفقهية ، وتنظيم المجتمع والأسرة ، والعلاقات بين المسلمين وغيرهم ، من أحكام المعاهدات والصلح والموادعة ، وأن يلم مع ذلك بوجوه الإعجاز في الكتاب المبين ، والإعجاز في الشريعة التي جاء بها ، وبأوجه البيان فيه ، والأحكام التي اشتمل عليها في العبادات والكفارات ، وفي المعاملات ، وفي أحكام الأسرة والميراث ، وأحكام الحدود والعقوبات ، والعلاقات بين الحاكم والمحكوم أو بين الوالي والرعية ، ومعاملة المسلمين لغيرهم في السلم وفي الحرب . ويضيف الإمام الشافعي في » الرسالة » ، وهي أول ما صنف في أصول الفقه : العلم بالناسخ والمنسوخ ، وبالمُحْكم والمتشابه ، لأن القرآن الكريم هو عمود الشريعة ، ومن ثم يجب أن يكون الباحث عالمًا بدقائق آيات الأحكام في القرآن ، محصلاً لمعانيها ، عارفًا للعام والخاص بها ، والتخصيصات التي وردت علي بعضها في السنة النبوية ، وأن يكون عالمًا علمًا إجماليا بما عدا ذلك مما تشتمل عليه القرآن الكريم . وينبغي أيضًا أن يكون ملما إلي جوار ذلك بالسنة النبوية ، التي آمل أن يمتد إليها حديثنا في المقال القادم إن شاء الله .