أنزل الله تعالى شريعته هادية الناس إلى طريق الحق، وحاكمة أقوالهم وأفعالهم إلى يوم القيامة، وجاءت أحكامها إجمالاً في كتاب الله تعالى القرآن الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وأحكامها تلك لا بد أن تكون شاملة وثابتة لا يعتريها قصور أو نقصان أو تبديل أو تحريف. وابتداءً لا بد من التفريق بين الفتوى والحكم الشرعي، فالحكم الشرعي: «عبارة عن خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين»، والفتوى: «ذكر الحكم المسئول عنه للسائل» وهو جواب المفتي. أما الإفتاء فهو بيان حكم الواقع المسئول عنه، وهو عمل المفتي. وعليه فالخطاب الشرعي ثابت لا يتغير، أي بقاء الحكم الشرعي على ما هو عليه ودوامه وعدم تغيره لا بزمان ولا بمكان ولا بغير ذلك، ودليل ذلك قوله تعالى: «اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً»، فهذا كمال للدين وتمام للنعمة أما الفتوى فهي متغيرة، وتختلف الفتوى باختلاف الجهات الأربع (الزمان والمكان والأشخاص والأحوال) ولا ينكر أحد تغير الفتوى بتغير هذه الجهات. وإنما نسب التغيير لتغير الزمان في كلام بعض أهل العلم، لأن الزمان هو الوعاء الذي تجري فيه الأحداث والأفعال والأحوال، وهو الذي تتغير فيه العوائد والأعراف، فنسبة تغير الفتوى لتغير الزمان من هذا الباب، وإلا لو ظل العرف كما هو عدة قرون لم يكن أحد مستطيعًا أن يغير الفتوى. أما الأحكام التي لا تُبنى على الأعراف والعوائد، والأحكام الأساسية النصية بالأمر أو النهي، فإنها لا تتغير بتغير الأزمان، ولا بتغير الأماكن، ولا بتغير الناس، كوجوب الصلاة والصيام والزكاة والأمانة والصدق، وإباحة البيع والشراء، والرهن والإجارة، ووجوب الميراث وبيان فرائضه وغير ذلك من الأحكام المأمور بها، ومثل حرمة الزنا وشرب الخمر، وحرمة القمار والكذب وشهادة الزور والخيانة، وغيرها من الأحكام المنهي عنها. قال ابن عابدين : «اعلم أن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح اللفظ وإما أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي ... وكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا، للزم عنه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد؛ لبقاء العالَم على أتم نظام وأحسن إحكام». وقال ابن القيم: «الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة والأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد مخالف لما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير فيها بحسب المصلحة». فالأحكام الذي اعتمدت على دليل قطعي في ثبوته، كالقرآن الكريم والأحاديث المتواترة والإجماع الذي توفرت شروطه ونقل إلينا نقلا متواترا، وكان النص قطعيا في دلالته على الأحكام، بمعنى أن النص لا يحتمل إلا هذا المعنى الواحد، أقول الأحكام التي كانت من هذا القبيل أحكام ثابتة لا تقبل التغير ولا التبديل مهما تعاقبت الأزمان وتغيرت الأحوال، كقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وكقوله جل شأنه:وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، فهذه الآية قاطعة في حل البيع وحرمة الربا، ولكن ما هي البيوع التي أحلها الله تعالى، وما هو الربا الذي حرمه الله تعالى، فهذا مجمل تكفلت السنة ببيانه بما أعطى الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم من حق البيان، ومثل ذلك ما أجمع عليه علماء الإسلام من أحكام، كحرمة زواج المسلمة بغير المسلم، وإن كان كتابيًّا، وكتوريث الجد والجدة عند عدم الأب والأم، إلى غير ذلك من الأحكام التي أُجمع عليها ونقل إلينا هذا الإجماع نقلاً متواترًا. وقد تتغير أساليب تطبيق الأحكام ووسائل تحقيقها باختلاف الأزمان، فمثلا حماية الحقوق بالدعاوى أمام القضاء كان يقوم بها القاضي الفرد، أما في عصرنا هذا فقد تعددت درجات المحاكم من قاضي الصلح إلى التقاضي على درجتين، فهناك محاكم جزئية مكونة من قاض فرد، وهناك محاكم مكونة من ثلاثة من القضاة أو أكثر كالمحاكم الابتدائية، ومحاكم الاستئناف، ومحكمة النقض التي تعني بالرقابة على المحاكم في التفسير الصحيح للقانون وتطبيقه، ومع هذا فتغير الأسلوب لا يعني تغير الحكم الشرعي. وينبغي التنبيه على أن الحكم الشرعي التكليفي يحتاج في تطبيقه في الواقع إلى توفر شروطه ووجود أسبابه وانتفاء موانعه، ولهذا قد يتغير الحكم لذلك وجدنا أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم امتنع عن التسعير لما طلب منه ذلك وقال:« إن الله هو القابض الباسط المسعر وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس في عنقي مظلمة لأحد» ومع هذا فقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعر السلع، وذلك لما اختل عمل السوق ولم يسر سيرا صحيحا، وعلى هذا يمكن فهم ما جاء في فقه المذاهب الفقهية، فقد أجاز كثير من الفقهاء التسعير ومنع منه البعض، فمن أجاز نظر إلى الضرر المترتب على الخلل في عمل السوق، ومن منع نظر ولم يجد خللا في عمل السوق. هذا إجمال لعوامل تغير الفتوى الأربعة وهي الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وإدراك هذه العوامل أمر مهم لفهم أسباب تغير الفتوى من جيل لآخر من العلماء المجتهدين الأجلاء، نفعنا الله بعلومهم وحشرنا في زمرتهم. وللحديث بقية لمزيد من مقالات د شوقى علام