للشاعر الشيلي العظيم بابلو نيرودا بيت من الشِعر يقول «أسماك المحيط تشرب القهوة.. وأطفال بلادي لا يجدون اللبن»!!.. وفيه يجسد جريمة الشركات الأمريكية المحتكرة لتجارة البن والتي تلقي كميات كبيرة من محصول أمريكا اللاتينية من البن في البحر لرفع الأسعار ومضاعفة الأرباح!!.. تذكرتُ كلمات نيرودا وأنا أقرأ تقارير خطيرة تحذر من الانهيار الوشيك لصناعة السكر في مصر.. وأنا لا أستبعد أن تُضطر شركة السكر للصناعات التكاملية قريباً لإلقاء إنتاجها من سكر الموسم الماضي في النيل لتأكله الاسماك كي تفسح مكاناً في مخازنها المكدسة بالفعل للإنتاج الجديد، أو اتخاذ قرار بوقف العمل في مصانعها ورفض تسلم المحصول الجديد من المزارعين. وما ينطبق علي القصب ينسحب أيضاً علي البنجر وعلي محصولين إستراتيجيين آخرين هما القطن والقمح.. الأول زرعه الفلاحون وجمعوه ثم خزنوه لتأكله الفئران قبل أن تتعطف الحكومة وتعتمد ثمناً بخساً للمحصول لم يصل ليد الفلاحين حتي الآن، أما الثاني فقد انصرف الفلاحون عن زراعته لأن ما تدفعه الحكومة ثمناً لما يوردونه من المحصول لا يكاد يكفي تغطية التكاليف الفعلية لزراعته.. وبلغت المأساة حد اضطرار الفلاحين آسفين إلي ترك اراضيهم قاحلة لأنهم لم يعودوا قادرين علي تحمل المزيد من الخسائر خاصة بعد الزيادات الباهظة في أسعار مستلزمات الإنتاج مثل التقاوي والأسمدة والمازوت، فضلاً عن تخلي الحكومة عن دعم الزراعة والمزارعين.. وهنا يحق للفلاحين والخبراء وأنا معهم، أن يتساءلوا عن جدوي استصلاح مليون ونصف المليون فدان بكُلفة تزيد علي 12 مليار جنيه إذا كانت الزراعة تعاني من كل هذا الفشل والخسائر؟. وهنا نأتي إلي «مربط الفرس» ألا وهو الرؤية أو الإستراتيجية الاقتصادية للدولة.. والمؤسف أنه حتي الآن لم تقدم حكومات ما بعد 30 يونيو علي الإطلاق أي رؤية أو إستراتيجية في أي مجال.. ما زلنا نتخبط في الحلقة الجهنمية المفرغة التي حشرنا فيها نظام السادات/ مبارك عندما فتح الابواب علي مصاريعها ودون ضوابط لاقتصاد التبعية و»انفتاح السداح مداح» حيث ارتكبت جريمة تبديد وتدمير ممنهجة ومروعة لمقدرات الشعب المصري.. تم تخريب القطاع العام وبيع المصانع العملاقة بأبخس الأثمان.. إلي جانب تدمير الزراعة وتجاهل مطالب الفلاحين، ناهيك عن تبني خيار «الاقتصاد الريعي» الذي تسيطر عليه عصابة من السماسرة لا يهمها سوي تحقيق الربح من خلال إغراق البلاد بمنتجات رخيصة ورديئة علي حساب الإنتاج المحلي. مافيا الاستيراد تسيطر علي الاقتصاد الريعي وتديره بنظرية « شراء العبد ولا تربيته» وتلك «حِسبَة» غبية وخاسرة تماماً، ناهيك عن أنها مدمرة للاقتصاد والأمن القومي والسلام الاجتماعي، فالذين يجرون حساباتهم علي أساس أن طن السكر المستورد يكلفنا نحو 3800 جنيه مقابل 4200 للطن المحلي ينسون بل يتناسون أن هذا الفرق لا يساوي شيئاً مقابل تشغيل وتوفير سبل المعيشة ل 27 ألف عامل ومليون و200 الف فلاح يعملون في زراعة القصب وتصنيع السكر وسيتم تشريدهم وتحويلهم لطوابير البطالة حالَ استمرار استيراد السكر بالكميات الحالية، ولو أضفنا مخرجات صناعة السكر من المولاس والعطور والمواد الكحولية والعلف والعسل وغيرها سنفاجأ بان الحسبة ستكون في صالح السكر المحلي بما لا يقاس حتي لو أخذنا بالمنطق النفعي المتهافت لسماسرة الاستيراد.. علماً بأن من واجب الدولة دعم مزارعيها كما تفعل كُبري الدول الرأسمالية رغم أكذوبة «الجات»، والواقع أن الأزمة لا تخص القصب والقطن والقمح فقط وإنما كافة المحاصيل.. وأرجو أن نتحرك سريعاً لأن سفينة الزراعة المصرية توشك علي الغرق إن لم تكن قد بدأت الغرق بالفعل.