مازال الأمل في الله قائما أننا ندعوه سبحانه أن يعيدك إلينا سالما عافيا وألا نفقد أغلي ما نملك وتملك مصر التي أنت أحد كنوزها. لم أر إنسانا يحب مصر كما أحبها جمال الغيطاني، إنها بترابها وأزقتها وشوارعها وحواريها كل حياته يعرفها بدقة ويصفها بحب ويعشقها عشقه المتيم الفاهم لتاريخها الضارب في عمق الزمن منها عندما يحدثك عن آثارها بتفاصيلها وخفاياها تدرك أنك أمام عالم متخصص يعرف خبايا الأسرار منها تلك المئذنة بناها السلطان فلان وهذا الأثر يرجع إلي القائد الذي قاد جيوش مصر إلي النصر في المعركة ضد الأعداء يشرح لك علي الواقع أدق التفاصيل ليصل بك إلي أن تعايش المكان وكأنه عاد بشخوصه للحياة وعندما يبحر بك جمال الغيطاني في أعماق الأدب بكل فروعه تدرك أنك أمام فيلسوف يحمل عقله من كنوز وروافد المعرفة ما تحتويه عشرات الآلاف من رفوف المكتبات الكبري يحدثك عن الجمال ويبهرك بآرائه ورؤية عينيه لمصادر الجمال ومناظر وصور الطبيعة الخلابة وتعشق أن تنظر إلي ابتسامته ورائحة الكتب تدغدغ أنفاسه بما تضمه من عبق القدم في مأثورات التراث. جمال الغيطاني موسوعة كاملة في كل نواحي الفنون عندما كنت أسأله عن شيء في التاريخ أو الآثار تجد عنده الإجابة الشافية، يسرح قليلا ثم يجيب بلا تردد وبما يحتويه عقله الذي لم يهدأ يوما عن استقبال كل ما هو جديد من صنوف المعرفة والإجابة دائما ما تكون عن علم ومعرفة وخبرة سنين معجونة بوعي الأستاذ الدارس المتمكن. كل يوم كان لديه الجديد وكانت مدرسته التي لم تغلق أبوابها يوما في وجه أحد قصدها طالبا للعلم والمعرفة، بيت علم ومنبع لمعرفة الحياة بكل تفاصيلها. كان ولايزال أستاذا للجمال والأدب والفنون والتذوق والحس الرفيع وهي كلها أمور اجتمعت بفضل الله وكان جمال الغيطاني اسما علي مسمي ولم يختلف اثنان علي ذلك ممن عرف جمال واقترب منه. وأحلي ما في جمال أنه تعامل مع تلاميذه وكأنهم أساتذة فكبروا وكبر معهم ولذلك أحبوه وأحبهم وقدروه وقدرهم والآن يعيشون لحظات القلق بعد أن أصاب الجسد الضعف والوهن وضرب المرض الذاكرة التي حوت تاريخ الأمة بكل تفاصيله وأدقها مما كان يعرفها الأستاذ ولا يعرفها غيره. جمال الغيطاني ليس أديبا نابها فحسب ولكنه ذاكرة أمه بكل أحداثها، إنه موسوعة مصر بكل عصورها القديم والحديث عن جدارة واستحقاق. ذلك الذي قدم للمكتبة العربية والعالمية ثمانين كتابا ترجم أغلبها إلي اللغات العالمية وكما أكدت رفيقة عمره الزميلة القديرة ماجدة الجندي هناك ما يقارب الثلاثين كتابا أخري أعدها قبل الحالة المرضية الأخيرة ودونها بخط يده وكان يستعد لإصدارها. علمني الأستاذ كما علمني أبي الكثير من دروس الحياة وأسرارها ولكني كنت دائما ما أقف عند مقولته التي ظل يرددها مؤخرا أنا في سباق مع الزمن ما في رأسي يجب أن أخرجه للناس ماحدش ضامن عمره اللي بيبقي هو بالنسبه للي زينا التراث وكان دائما ما يعتب علي نفسه أضعت من عمري الكثير وكانت أمنيتي أن اتفرغ للانتاج الأدبي فقط والكتابة القصصية ولكن شغلني بعض الوقت رئاستي لمجله الأدب التي اعتز بها لأنها كانت فترة جيدة في حياتي سعدت بها وبالكتيبة التي كانت تعمل معي. لقد كان جمال الغيطاني كتلة مشاعر صادقة واعية تمشي علي الأرض وتعيش بيننا ولا أتخيل أن ذلك العقل الواعي المتدفق صار عاجزا عن أن يعود لوعيه ويبدع تماما كما كان وكما يؤكد الأطباء ويرقد تلك الرقدة التي لا يملك إلا الله سبحانه وتعالي أن يعيده منها بمعجزة ندعو الله أن تتحقق.