كان الغيطاني محظوظاً، عبر إلي هناك اقترب من نقطة العبور إلي الأبدية وعاد ليقص علينا دراما المصير أن ترقد كل هذه الحيوية وكل هذا العطاء وتغيب في سبات عميق وكأن العقل ناء وفاض بما يحمله من علم وثقافة وفلسفة وتأمل.. درس عميق الأثر في النفس التي شاء حظها الطيب أن تقترب من صاحبي هذه الصفات وأن تهنأ بفيض الأخوة الإنسانية والمحبة والرعاية التي منحاني إياها الأديب الجليل والمبدع جمال الغيطاني والطبيب العلامة محمود المناوي الذي انشغل في سنوات عطائه الأخيرة بالنضال حفاظاً علي اللغة العربية والتأريخ لأقدم مدرسة للطب في الشرق «قصر العيني». تجربة الرقود خاضها الغيطاني من قبل، وصفها بتجربة الوقوف قرب نقطة العبور إلي الأبدية، عاد منها ليسجلها في «كتاب الألم» وليقول فيها : « عندما يكون الإنسان أديباً، مبدعاً، مهموماً بالمصير، بالمبدأ والمعاد، فإن الموقف يكون أدق، كان الغيطاني محظوظاً، عبر إلي هناك وعاد ليقص علينا عبر هذه النصوص الفريدة دراما المصير، نصوص جديدة، ليست يوميات، أو سجلات مباشرة؛ لكنها تبدع اللحظات النادرة والحافلة بالرؤي لتضيف صفحات جديدة إلي كتاب الألم الإنساني. في هذا الكتاب سطر الغيطاني ثلاث مجموعات قصصية حملت عناوين «الخطوط الفاصلة»، «مقاربة الأبد»، و»أيام الحصر» تناول فيها عبر القصص الثلاث رحلة إجراء عملية القلب المفتوح ويومياته مع الألم وتوقف فيها كثيراً أمام الحياة بكل تفاصيلها من قوة وضعف وميلاد وموت وإقامة ورحيل، واللحظات المؤلمة في الحياة. لحظة العبور إلي الأبدية حفرت في وجدان الغيطاني أخاديد عميقة ساقته لاختيار اسم عموده اليومي بالأخبار «عبور». وهو تعبير شاسع متعدد الدلالة يتراوح بين الخاص والعام ويمازج بين تجاربه الشخصية في سطور الألم وتجاربه المهنية حينما عمل محرراً عسكرياً إيام معركة العبور في 1973. بكل ما حقنته به من ثراء التجربة وعنفوانها. يوميات الألم لم تكن تسجيلاً شخصياً لتجربة ذاتية وحسب، لكنها سبقتها بسنوات حين كان يتابع الحالة الصحية لأديب نوبل نجيب محفوظ في أخريات أيامه وشخصت عيناه علي الجسد المسجي أمامه معلقاً بين الحياة والموت عبر الأجهزة وخراطيم التنفس الصناعي وتأمل رحلة الحياة بكل حنينها وضنينها. كان آخر لقاء بي مع الغيطاني في اجتماع الجمعية العمومية للأخبار في الشهر الماضي مفعماً بالود والمرح والبهجة بعد أن كرمته الدولة بمنحه أعلي وسام فيها، افترقنا علي وعد بلقاء نجتمع فيه ثلة من الأصدقاء المشتركين الذين يتشاطرون محبته وتقديره احتفاء به، ولكن بعد تخفف الجو من حرارته الخانقة لكي يصمد قلبه أمام طبق شوربة الكوارع التي يعشقها لكنه لم يعد قادراً عليها بسبب تكرار وعكاته الصحية. قبل أسبوع من وعكته الأخيرة هاتفته لأذكره بوعده في إعارتي كتابا عن اليهود نصحني بقراءته وقال انه سيفيدني كثيراً اعتذر عن نسيانه ووعد بإرساله. د. محمود المناوي أستاذ النساء والتوليد الأشهر، والأب الروحي لآلاف من أبناء مصر من مختلف الأجيال، أخي الذي لم تلده أمي كما أحب أن أناديه. السكرتير العام للجمعية الطبية المصرية والحاصل علي جائزة الدولة التقديرية في العلوم وجائزة مبارك في العلوم الطبية، كرمته جامعة القاهرة بإطلاق اسمه علي دفعة 2012 من خريجي كلية طب « قصر العيني» الذي حرص علي توثيق ريادته وتراثه في بعض مؤلفاته. المناوي الذي لا يعرف الركون والسكون أو الاستسلام، البارع في تفجير كل الطاقات الإيجابية فيمن يقترب منه، استطاع تحويل سنوات تقاعده الوظيفي إلي رسالة تنويرية يسجل فيها التراث العلمي والطبي في مصر، يدافع فيها عن اللغة العربية ويحارب التغريب الذي طرأ علي العلوم الطبية ويؤسس لمتحف قصر العيني لتحتضنه أسوار جامعة القاهرة. هذا المقاتل الشرس يرقد الآن في تجربة جديدة عليه وعلينا.. تجربة سبات مقيت تربطه بالحياة أجهزة جامدة باردة تبث حياة مصنوعة لم نألفها معه. أخي د. محمود المناوي.. أخي جمال الغيطاني أفيقا بحق السماء عودا إلينا من هذه الرحلة الغامضة فالسبات لا يليق بكما، رفقاً بنا يا الله.