بعد افتتاحه رسميا.. نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد السيدة زينب رضي الله عنها    426 مليون جنيه إجمالي مبيعات مبادرة "سند الخير" منذ انطلاقها    رئيس اتحاد الجاليات الفلسطينية: إسرائيل لن تلتزم بقرارات العدل الدولية    فتح: نخشى أن يكون الميناء الأمريكي على شاطئ غزة منفذا لتهجير الفلسطينيين    روسيا: مستعدون لتوسيع تقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة    الخارجية الروسية: لا نخطط للتدخل في الانتخابات الأمريكية    كولر يعقد محاضرة فنية قبل مران اليوم استعدادا للترجي    بحوزته 166 قطعة.. ضبط عاطل يدير ورشة تصنيع أسلحة بيضاء في بنها    إعدام 6 أطنان أسماك غير صالحة للاستهلاك الآدمي بكفر الشيخ    "القاهرة الإخبارية" تحتفي بعيد ميلاد عادل إمام: حارب الفكر المتطرف بالفن    أحمد السقا عن أصعب مشهد بفيلم «السرب»: قنبلة انفجرت حولي وخرجت سليم    وزيرة التخطيط تشارك بافتتاح النسخة الحادية عشر لقمة رايز أب    مصر تشارك بأكبر معرض في العالم متخصص بتكنولوجيا المياه والصرف الصحي بألمانيا "IFAT 2024" (صور)    تضامن الدقهلية تنظم ورشة عمل للتعريف بقانون حقوق كبار السن    الحبس والغرامة.. تعرف على عقوبات تسريب أسئلة الامتحانات وأجوبتها    سعر الدولار فى البنوك المصرية صباح الجمعة 17 مايو 2024    الجزار: انتهاء القرعة العلنية لحاجزي وحدات المرحلة التكميلية ب4 مدن جديدة    مواعيد مباريات الجمعة 17 مايو.. القمة في كرة اليد ودربي الرياض    سيد عبد الحفيظ: مواجهة نهضة بركان ليست سهلة.. وأتمنى تتويج الزمالك بالكونفدرالية    بعد 3 أسابيع من إعلان استمراره.. برشلونة يرغب في إقالة تشافي    ليفربول يُعلن رحيل جويل ماتيب    مصر تفوز بحق تنظيم الاجتماعات السنوية للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في 2027    17 مايو 2024.. أسعار الحديد والأسمنت بالمصانع المحلية اليوم    مصرع ربة منزل ونجليها في حادث دهس أسفل سيارة بعين شمس    دون إصابات.. تفاصيل نشوب حريق بقطعة أرض فضاء في العمرانية    تجديد تكليف مي فريد مديرًا تنفيذيًا للتأمين الصحى الشامل    الخشت يستعرض دور جامعة القاهرة في نشر فكر ريادة الأعمال    برنامج للأنشطة الصيفية في متحف الطفل    وفاة أحمد نوير مراسل قنوات بين سبورت.. موعد ومكان الجنازة    طارق الشناوي ل «معكم منى الشاذلي»: جدي شيخ الأزهر الأسبق    الإثنين.. المركز القومي للسينما يقيم فعاليات نادي سينما المرأة    دعاء يوم الجمعة المستجاب.. «اللهمَّ اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها» ردده الآن    انطلاق قافلة جامعة المنصورة المتكاملة "جسور الخير-21" المتجهة لحلايب وشلاتين وأبو رماد    في 5 دقائق.. طريقة تحضير ساندويتش الجبنة الرومي    مرور مفاجئ لفريق التفتيش الصيدلي على الوحدات الصحية ببني سويف    طريقة عمل الهريسة، مذاقها مميز وأحلى من الجاهزة    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    خبير سياسات دولية: نتنياهو يتصرف بجنون لجر المنطقة لعدم استقرار    «الأوقاف» تعلن افتتاح 12 مسجدا منها 7 إحلالا وتجديدا و5 صيانة وتطويرا    أين وصلت جلسات محكمة العدل الدولية للنظر في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل؟    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 17 مايو 2024 والقنوات الناقلة    احذر.. قلق الامتحانات الشديد يؤدي إلى حالة نفسية تؤثر على التركيز والتحصيل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17-5-2024 في المنيا    سيولة مرورية وسط كثافات محدودة بشوارع القاهرة والجيزة    الاغتسال والتطيب الأبرز.. ما هي سنن يوم «الجمعة»؟    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لطلاب الشهادة الإعدادية بالجيزة.. غدا    جيش الاحتلال: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان وانفجار أخرى في الجليل الغربي    يوسف زيدان: «تكوين» امتداد لمسيرة الطهطاوي ومحفوظ في مواجهة «حراس التناحة»    النواب الأمريكي يقر مشروع قانون يجبر بايدن على إمداد إسرائيل بالأسلحة دون انقطاع    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    "كاميرا ترصد الجريمة".. تفاصيل تعدي شخص على آخرين بسلاح أبيض في الإسماعيلية    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [7]
نشر في الوطن يوم 18 - 10 - 2012

منذ عامين، مر الأديب جمال الغيطانى بأخطر لحظات واجهته فى حياته، رغم أنه عرف الأخطار كثيراً زمن الحرب، وفى ظروف أخرى، غير أن الفرق كبير بين خطر يأتى من الخارج، ومداهمة من الداخل، بدأت الأزمة على الهواء مباشرة فى برنامج تليفزيونى، وانتهت فى مستشفى كليفلاند. ذلك الوقوف قرب نقطة العبور إلى الأبدية، وعندما يكون الإنسان أديباً، مبدعاً، مهموماً بالمصير، بالمبدأ والمعاد، فإن الموقف يكون أدق، كان الغيطانى محظوظاً، عبر إلى هناك وعاد ليقص علينا عبر هذه النصوص الفريدة دراما المصير، نصوص جديدة، ليست يوميات، أو سجلات مباشرة؛ لكنها تبدع اللحظات النادرة والحافلة بالرؤى لتضيف صفحات جديدة إلى كتاب الألم الإنسانى.
عابرة
عصراً، يجتاز المدخل الفسيح، المنظم، إذا كان رحيم الباكستانى جالساً عند المدخل ينطق السلام بالعربية، أحياناً يقوم لوبيز الأرجنتينى ليفتح له الباب، أما آرتين الأرمنى فلم يتقن الإنجليزية بعد، لكن التفاهم معه ممكن، إنه يقوم بعمل أى شىء قد يطرأ عليه خلل عدا الأشياء التى تخرج عن إمكانياته مثل تعطل جهاز الثلج فى المبردة المثبتة فى الجدار، أو فى أجهزة التهوية، غير أنه الوحيد الذى يجب إبلاغه بما جرى لأنه يعرف كل وسائل الاتصال، يدور حول الناصية متجهاً إلى الشارع الرابع الذى يبدو من الطابق الثامن مستقيماً ممتداً حتى نهاية الحد الشرقى، الطريق السريع الذى يصل كوينز وبروكلين، يرى كل تقاطعاته خلال النهار الذى يقضيه جالساً إلى المكتب فى ركن الصالة، الجدران زجاجية، لم يتم تركيب الستائر بعد، يمكنه رؤية الحيوات فى المبنى المقابل؛ لكنه يأبى تدقيق الرؤية أو التلصص، شىء ما يمنعه هنا رغم أنه مارس ذلك فى الحارة التى أقام بها عمراً غير هين، كثيراً ما يبدو الطريق خالياً تماماً، أو يعبره رجل واحد، أما السيارات فلا تمكث فى مجال البصر، الشوارع العرضية تعرف بأسمائها، الرأسية بأرقامها، أول ما يجب أن يعبره شارع كنت، ممتداً إلى ما بعد الجسر، إلى يمينه مبانٍ ضخمة قديمة أحدها مصنع شهير للسكر، مغلق الآن، يطل على الريفر سايد مباشرة.
تجاوره مبانٍ أخرى، بعضها مخازن ومنها مجهول الهوية والاستخدام، لأنها خالية تجسد الفراغ وتبعث على الشجن مجهول المصدر، كأن حقبة من الوقت لا تزال ماثلة هنا رغم انقضائها، وما يستعاد فى غير أوانه جالب للأسى، مبانٍ مفقودة رغم قيامها، اتصالها بالجسر الضخم القائم منذ بداية القرن العشرين يحيل الوضع كله إلى عتاقة فى غير أوانها، عندما عبر المنطقة متمهلاً فى ظهيرة تالية أدركته خشية أن يفقد فى زمن غير زمانه، عندئذ لا يمكنه استئناف الوجود، يستغرقه العدم الذى أصبح متأهباً له أكثر من أى وقت مضى، هذا حاله بعد أن رآه وأدركه، ليس بالحواس، إنما بمصادر أخرى لا يدرى كنهها أو هويتها، مرة واحدة سرت الحياة فى المكان، كان يستعد للمشى موغلاً فى الرابع عندما ظهرت أمامه، اجتازته ناثرة أنوثتها على الفضاء والزمان، على وجوده، مهرجان عبر، كل ما يتعلق بها منه التمام، شعرها الناعم، الفاحم، المنسدل، صدرها المستفز المتسق مع ردفيها الناهضين، ثمة شىء فى خطوها يوحى بخيلاء الفرس، تبتعد عنه لتحاذى بداية المصنع المهجور، غير أن سريانها مفردة فى هذه اللحظات الغروبية بدد الوحشة وأسبغت على الوضع كله حياة ورضا! سيظل هذا الجزء مرتبطاً عنده بتلك المجهولة التى أقامت مشكورة له هذا العرض، لن يستعيده إلا وتظهر هذه الغادة، تماماً مثل الشرافة التى تستدعى ويليامزبرج كافة، فى المركز منها ذلك الزنجى بقلاداته وسلاسله وأدوات صيده ونطقه «السلام عليكم» مع لمسه موضع القلب براحة اليد، أما الشارع الرابع فسيمكث أبداً وفى القلب منه تلك اللحيظات وما حوت.
يوم وسط الأسبوع، قبل الخامسة تخلو الطرقات تقريباً، ثمة حياة ليلية لا تبدأ إلا بعد العاشرة، لا يعرف ملامحها لالتزامه النوم قبيل منتصف الليل بعد قراءة ثقيلة، أى مواصلة الاطلاع على النصوص العميقة التى تقتضى جهداً، قراءة الورقة والقلم كما يسميها، لا بد أن يدون الملاحظات والعلامات، ما يستوقفه وما يستغلق عليه، ينتبه إلى ما يبذله من جهد، خاصة عند جلوسه إلى المكتب، يسرى خيط من اللهب فجأة، يتخذ مساره داخل العمود الفقرى أو بمحاذاته، عندما شكا أمره إلى الطبيب اللبنانى فى كليفلاند، أجابه بضرورة التزام الحرص عند الجلوس والتمدد، لن يستقر وضع القفص الصدرى الذى شق للمرة الثانية إلا بعد ستة شهور، لم يمر على إجراء الجراحة إلا ثلاثة أسابيع، غير أن الزمن يضغط عليه، كلمات الطبيب ذلك العصر قبل توقيع كل منهما عقد القبول والتراضى، خاصة هو، أياً كانت النتيجة لا تزال تتردد عنده وستظل، قال الدكتور سبيك هادئ الملامح إن الصلاحية من عشر إلى اثنى عشر عاماً، يفكر فى هذين الرقمين، يعرف أنه سينتبه فجأة ليجد نفسه عند المشارف، كيف ستمضى الأمور عندئذ؟ لا يمكنه التنبؤ، لكن ما يعرفه أن وقتاً ثميناً ضاع منه فى مشاغل والتزامات كان يمكنه أن يتجنبها، لديه ما يلح عليه للتدوين، مشاريعه المؤجلة تفوق تلك المنجزة، عليه أن ينتبه، ألا يستسلم كما جرى أول مرة، عاد منذ أربعة عشر عاماً بعزم بالغ المدى، لكنه شيئاً فشيئاً راح ينزلق إلى ما حاول تجنبه ولهذا حديث يطول، أحياناً يقدم الإنسان بوعى كامل على ممارسة ما يضره، يذكر عندما كسر نظامه الغذائى، أيضاً رياضة المشى، كان يقدم بمفرده على التهام أنواع يقتضى تجنبها، يتورط فى انفعالات قصوى رداً على أمور صغرى، كيف استسلم لذلك؟ النتيجة بعد أربعة عشر عاماً، سدت الشرايين وتداعى الصمامان الرئيسيان، ماذا سيحدث بعد عشرة أعوام؟ عليه يعنى بالآن، ما لديه، ما يكمن فى رصيده بالفعل، هو الذى قطع عمره محاوراً الآن، فثمة ما يمضى وما سيأتى، لم يعترف بوجود حاضر، الآن يتطلع إلى الآنى قبل إفلاته، بالأمس انتبه إلى نفسه إذ يردد بحسرة: ضاع من عمرى خمس دقائق لو أنه مضى هكذا على امتداد الحقب المولية، يقول ذلك هو الذى أخذ نفسه بالشدة، لكنه أهمل كثيراً، هكذا يرى ما فات.
عليه أن يمشى حوالى ساعة، المكان مساعد، مساند للسعى، الأرصفة خالية، الأشجار تتأهب لخريف دانٍ، الشوارع المؤدية إلى بدفورد سواء عرضية أو طولية خالية تقريباً، فى أيام العمل يتكاتف الزحام مع وصول العاملين فى مانهاتن والضواحى عبر قطار الأنفاق، يتدفقون خارجين من المحطة التى توجد مخارجها فى الشارع السابع، السبت والأحد يبدأ الزحام بالمقاهى والمطاعم فى الحادية عشرة لتناول المشروبات ووجبة الطعام التى تعد وسطاً بين الإفطار والغداء - برانش- منذ وصوله لم يتخلف عن الطواف، يبدو المكان بسيطاً، خلواً من الأعماق، غير أنه شيئاً فشيئاً اكتشف خطأ ذلك كما سيأتى.
فى هذه الساعة يبدأ تغير الضوء، يقوى عليه حضور المحيط القريب، لا يقف على شاطئه كما لزم فى المغرب عندما مكث ساعات فى باب الوداية، وفى البرتغال شمال لشبونة حيث طاله الموج القادم من الأقاصى، المرتد من الصخور، لكنه نال منها، رغم بعد الشاطئ إلى حد ما يتدفق حوله بفراغه اللانهائى ومجهولية منافذه وعواصفه وتياراته وسائر أحواله.
توقف ليعبر شارع كنت، نظر يميناً ثم شمالاً، يخشى الدراجات، ثمة حارة تتدفق فيها، كذلك من يمارسون الركض، يضعون فى آذانهم سماعات صغيرة، يخشى اصطدام دراجة به، لن يحتمل ذلك، لا يعرف ما سيترتب، يتجنب الزحام، قبل الجراحة كان يمشى فى الشارع الخامس بعد أن أمضى ساعات فى متحف الفن الحديث -الموما- اتجه إلى السنترال بارك، ينفرد بخضرتها، بالموسيقى التى تعزفها الفرق الصغيرة، بعضها يضم مهارات فريدة، كان القوم يتدفقون فى تلك الخطوات النيويوركية السريعة، فجأة اصطدمت به سيدة ترتدى معطفاً خفيفاً، بمرفق ذراعها فى جنبه الأيسر، لا يدرى كيف طالت ضلوعه؟ لم تلمس ذراعه، نفذت إليه مباشرة، استمرت متدفقة عكس اتجاهه، لماذا؟ ضربة مسددة بإتقان وحرفية، لم يتعقبها، أطلق آهة ثم مشى متمهلاً، لم ينتبه، لم يتوقف أحد، تمهلت خطاه حتى أول دكة فى الحديقة، لو أن هذه الضربة طالته بعد الجراحة لفتت عظامه، عليه الحذر، فى زيارته الأولى لألمانيا عام ثمانية وثمانين، ياه.. اثنتان وعشرون سنة، لا يرد عليه يوم أو شهر أو سنة إلا ويحسب ويضيف، وغالباً ما يبدى الدهشة، يردد: ما أسرع ما مرت الأوقات!، كان ذلك فى مدينة آرلنجن، لم يعرف أن وسيلة الانتقال الرئيسية العجلة، وأن حارة مخصصة لها، نزل من الرصيف، لم يصغ إلى دقات الجرس، لم يعتده ولم يتوقعه، لولا أن قائدها على مهارة عالية، مر على ما لا يتجاوز سنتيمتراً، حاد فى اللحظة الأخيرة، لا يجب استعادة تلك اللحظة خشية احتمالاتها، السرعة تزيد حدة الاصطدام، أخشى ما يرهبه فى أسفاره أن يسقط، أن يصطدم به شىء مما يؤدى إلى رقاده، أن يجرى له مكروه وهو مجرد، بلا قدرة على المواجهة.
يميناً ويساراً، ثم يعبر شارع كنت، يمسك بالمسافة، الرصيف منطلق، الأشجار متتالية، إلى اليسار منزل قديم تعاد صياغته، يتبدل شكل جدرانه ونوافذه، كذلك لون الطلاء، يكتسب حداثة ليست من أصوله الأولى، يلحق ذلك بأقسامه الداخلية أيضاً، الغرفة تقسم إلى اثنتين أو ثلاث، الصالة المستطيلة تصبح مربعة، عرف مثل ذلك، أول مرة فى بولونيا الإيطالية، عندما بلغ الفندق رأى الواجهة القديمة والمضمون الحديث، من الخارج أربعة طوابق ومن الداخل ثمانية، كيف تتحقق المعادلة؟ عندما زار الفندق الذى اعتاد النزول فيه بشارع راسين، المكان الذى اعتاده تبدل تماماً، صعد إلى الطابق الأول، الغرفة التى كان سقفها مرتفعاً محرضاً على التأمل، انخفض حتى يمكن لليد أن تلامسه إذا مدها على أقصاها، صحيح أن الفراش أحدث، وسائل الراحة متوفرة، لكن المساحة تشبه صندوقاً محكماً، الفراغ ضرورى له رغم أنه أمضى أوقاتاً غير قليلة فى أماكن محكمة، قادر على التكيف، لكنه لا يعرف كيف.
ستمضى الفترة التالية، هذه السنوات العشر، إذا امتدت ستصبح اثنتى عشرة، يبدأ سيره بطيئاً، يسرع شيئاً فشيئاً، هكذا شرحت له الحكيمة المكلفة بشرح ما سيلى الجراحة.
قبل وصوله إلى الناصية التالية بدأ تغير طفيف عنده، كأن تياراً خفياً يهب أدركه، شمله، بدأ يتسرب إليه، ثمة وجود آخر، هنا بدأ يتخيل نفسه مرئياً من نقطة ما مرتفعة، يبدو صغير الحجم من بعيد، يميل إلى الأمام منحنياً، كأنه ينظر إلى الأرض، إلى الوقت الذى يولى، حوله المبانى التى انتظمت على الجانبين، رغم أن كلاً منها من طابقين أو ثلاثة، فإنها تبدو مرتفعة بالنسبة للمبانى الحديثة، الطابق منها يوازى طابقين، لكل منها سلم يؤدى إلى المدخل، شغله أمر هذه السلالم، فيما بعد عندما علم أن ويليامزبرج كانت مستقراً للمهاجرين البولنديين، بعضهم جاء وأقام، تاجر وصاحب من نفس جنسه وتعامل مع البنك البولندى القريب فى النقطة الخضراء، الحى المجاور، لم يدخل فى علاقة مع المختلفين عنه، وبعضهم لم يتكلم الإنجليزية، تماماً مثل بعض الصينيين الذين يعملون فى المدينة الصينية جنوب نيويورك، يولدون ويشبون ويعملون ولا يخرجون من المنطقة التى توجد فيها الصين أكثر مما توجد فى بكين أو شنغهاى، يرى من نقطة فى الفراغ توازى المسافة التى يمكن أن ترتفع إليها طائرة مروحية، يبدو نقطة صغيرة ربما تستمر ثابتة لحيظات قبل انتقالها، لا ملامح، لا يعرف الرائى إن كان ذكراً أم أنثى، آدمياً أم حيواناً أم كائناً لم تحدد هويته بعد، عند نقطة أعلى، أكثر ارتفاعاً يختفى مع أنه موجود، عندما يخلو الفضاء من السحب فوق المحيط يبدو السطح الأزرق مستوياً ممتداً، إذ تلوح تجاعيد خفيفة، فتلك نذر عاصفة، أمواج مرتفعة، هذا ما قاله أحد المجربين.
يكتمل إدراكه أن ثمة من يسعى فوق نفس الرصيف، بدأ دبيب الخطوات يصل إليه، لا يمكنه أن يخطئ سعى الأنثى، يرى نفسه بعينيها، رجل يمشى، واضح من خطوه أنه غريب، لا يتقدم بثقة، لكن هذا التعثر مصدره الأقوى تلك المحدودية التى تقيد حركته، يبدو أنه يجب الاعتياد على ذلك، إذا هم تخفق دقات قلبه عندئذ يهدئ، كما أنه يخشى السقوط فجأة أو الاصطدام بشخص يظهر بغتة، أو تتعثر قدماه لأى سبب، يرتفع صوت الخطوات، رغم وضوحها، فإنها تبدو بعيدة بدرجة ما، بل نائية، قصية، كان موقناً أنها ستدركه، ستتوازى معه خلال دقائق. لا.. بل ثوان، هل يمكن أن يتخذ الوقت صيغة مغايرة فى هذا الوقت الخريفى، فى ذلك الشارع الذى يألفه مع كل مشى يستغرق فيه، لكن رغم الألفة السريعة يظل ذلك التأكيد أنه عابر، مؤقت، غريب، مع أن الكل هنا غرباء، لكنْ ثمة غريب مقيم، وآخر عابر، يحدق أمامه مقطباً عينيه محاولاً النفاذ إلى صميم الطريق، إلى جوهره، مكان مألوف لكنه فى مكان أشمل غريب عنه، ألفة وغربة يستعصى عليه فهمها أو الوقوف من بعيد على كنهها.
تقترب الخطى منه.. خلفه تماماً، تمضى فى أثره تماماً، ماذا.. هل ستصطدم به أم تتجاوزه؟ يدركه حذر، إنه لا يحتمل دفعة، يلتفت، أنثى، تماماً كما توقع، لم يتمكن من ملامحها، غير أنها فارهة، تتجاوزه طولاً، قميص أبيض، قصير الكمين، بنطلون أسود طويل، مع اقترابها منه تبدو أسرع، رغم رسوخها فإنها تتقدم برشاقة، حتى كأنها لا تلمس الأرض، دقات كعبها تحفر آثاراً، كيف تتوافق المتناقضات؟ كيف سيتذكر هذه اللحظة؟ اليوم، غداً، بعد عودته إلى الديار، تلح عليه أماكن عاش فيها أو بلغها أثناء ترحاله، بعضها لم يتوقع أنه سيعلق بذاكرته، واجهة ما، مدخل، نافذة، منحنى، ناصية، لون معين، عندما خرج من مطار وارسو فى أول مرة يبلغ فيها القارة الأوروبية اتسعت حدقتاه ليستوعب درجة الخضرة المضيئة المنبعثة من الأشجار، رغم أنه تنقل كثيراً فيما تلى ذلك، أقلع وبلغ، جال ورأى، فإنه لم يقف على هذه الدرجة، لا يعرف إن كان سيتذكر ما يمضى عبره الآن، غير أنه يثق من استعادته مراراً، لن تنطوى تلك المسافات من وعيه، لكن ماذا سيبقى بالضبط؟ لا يدرى.
تحاذيه..
فى اللحظة المناسبة حادت، أطول منه، هكذا ظن وقت مجاورتها له مع الحركة، تمكن من ملامحها الجانبية، أنف مستقيم وذقن مشرع، رآها للمحة، إلى متى سيمضيان بجوار بعضهما، نفس الخطى، عين الإيقاع، لو رآهما أحد من الخلف أو من إحدى هذه النوافذ أو الشرفات لقدر أنهما صحبة، يخجل من ذلك، لو أنه وراءها لأسرع محاولاً تجاوزها حتى لا يظن راءٍ أو متعقب أنه يقتفى أثرها لسبب ما، هذا ما درج عليه منذ مشيه صبياً فى المدينة القديمة، رغم أنه موله برؤية الإناث يتموجن من الخلف، يبهره القوام المتناسق والأرداف المتميزة، المرسلة، المرأة المقبلة لا يدوم النظر إليها إلا لحيظات، أما المقتفاة فيطول تمعنها وتدقيق أنحائها، خطواتها نشطة ومتساوية، تضرب الأرض بثقة، فليلزمها، يقويه الحافز، وذلك الدبيب الخفى منذ عودته من كليفلاند، هل تسرى الرغبة أقوى مع تدفق الدم من الصمامين الجديدين، أنسجتهما من الحيوان، خنزير أو بقر؟ على الأرجح خنزير، رأى فيلماً فى قناة الجغرافيا الدولية عن مزارع متخصصة فى تربية الحيوانات التى يؤخذ منها الصمامات، ما زال يذكر تعليق المذيع، وتسهم هذه الحيوانات فى إنقاذ العديد من المرضى، غير أن ما لم يقله إنها تموت فور انتزاع صمامات القلب منها، هل يصنع الصمام من حيوان واحد أم من مجموعة؟ لا يعرف التفاصيل، لكنه تواق إلى رؤية هذا المخلوق الذى راح ليتجدد هو، ترى.. فى أى مكان عاش وسعى، تطالعه عينان مجهولتان من العدم، يتساءل: هل تنتقل إليه بعض خصائص هذا الحيوان. أو تلك الحيوانات؟ هل سيفقد بعضاً من مكوناته، من عالمه الداخلى الذى لا يعرف عنه شيئاً؟ يوقن أن كل جزء ينفصل عن صاحبه يأخذ معه شيئاً فماذا توارى مع الأورطى والميترالى، يرى الجراح يقلب قلبه ذات اليمين وذات الشمال، يشقه ويبتر الصمامين، أين مستقرهما الآن؟ إلى متى يصح وضع هذين الضيفين؟
يلتفت إليها. هل تدرك تلك التساؤلات التى تنصهر عليه، تروح وتجىء، لا تزال تمشى بموازاته، وما زال قادراً على مجاراته غير أنه قبل ناصية الشارع الثانى بدأ يتمهل، يرصد رجفات فى توالى دقات قلبه، يصغى عبر هذا العرض الذى يمثل فى أذنه اليسرى، قال الطبيب المصرى فى الضاحية مبتسماً عن قلة حيلة: يجب أن نتعايش معه، قال الطبيب فى كليفلاند بنفس اللهجة ولكن غير مبتسم: يجب أن تتعايش معه، أشد ما يخشاه هنا وقوع حدث مفاجئ فى مكان غريب عنه، يحرص قبل نزوله الطريق أن يحمل ورقة كتب عليها هاتف ابنه، أو ابنته، وزوجته، إضافة إلى الصفحتين الأولى والثانية من جواز سفره، صورة ضوئية منهما، يتذكر بعض المرضى أو المتخلفين عقلياً يسعون فى الشوارع المؤدية إلى ضريح سيدنا ومولانا الحسين، كتب على ظهورهم أسماؤهم والعناوين التى يمكن الاتصال بها عند وقوع خلل، يبتسم ويتطلع أمامه.
تجاوزته، فاتت بخطوتين، ضوء النهار المتبقى والمصابيح المتقاربة تمكن بصره منها، رهافة قميصها تبرز حمالتى المشد، قوام يؤثره، ممشوقة كغصن، بنطلون عملى، لا يلتصق فيبرز، إنما يفضفض فيريح، من قماش أسود غطيس، لعله من الصوف، غض، البنطلون لا يحدد معالم الردفين، إنهما عاملان، أرداف عاملة، لكنها غير مكدودة، يطلق أوصافاً على ما يرى، فتلك أثداء عابثة وهذه شاردة وتلك جسورة، هذه أرداف جسورة، وتلك موسيقية وهذه محاورة وتلك مستعصية، هذه ساعية والأخرى دانية، لكم تحاور مع أجساد لا يعرف صاحباتها، ينم مع نفسه، يقول ما لا ينطقه، يمد الخطى، يحاول الاحتفاظ بالمسافة الفاصلة، رغم أنها دقيقة فى الحفاظ على سرعتها، على المسافات الفاصلة لا يقدر على المحافظة، التقصير منه هو، مهما قال الطبيب عن استعادته الإمكانية، عن قلب الطفل الذى سيعود به، لكن يظل شىء يستعصى على الفهم، يفاجأ به، يخذله فجأة وهو فى الأوج، يلتفت خلفه، إنهما بمفردهما، فوق الرصيف الممتد، كأن الشارع كله ديكور فى مسرحية لم تبدأ بعد، خال تماماً، يتقوى عزمه بالفراغ، لا بد أن يقترب منها إلى أقصى حد، ثمة ما يحضه، لكم يبدو هذا القوام دانياً منه، حاضاً له، هشهاشاً تتمكن منه رغبة مشحونة، يذكر هبوبه منذ أربعة وثلاثين عاماً فى مطار بودابست عندما رأى فارهة مثلها، ترتدى بنطلوناً أزرق، فتحته من الخلف على امتداد مفرق الكرتين المضبوطتين بإحكام، لا تعلو إحداهما عن الأخرى مثل تساوى الحاجبين تستكين السوستة، لا يذكر الآن تفاصيل وجهها، لكنه يكاد يرى شعرها الهفهاف الطويل، وقوامها السرح، يطول الحديث عما صارا إليه، لكنه يتجاوز إلى انفرادهما، مفاجأته بردفيها المكتملين، أخفاهما البنطلون تماماً، ليس شرطاً ما رآه، ربما يبدو عاملاً وعند المواجهة يجده لعوباً مستقلاً عن الصرح بتكوينه ونفرته، الليل والفراغ يضفى بعداً ينتبه إليه الآن، رغم أنه فى حركة، فإنهما بمفردهما حتى الآن فى الشارع كله. يهم، يتقدم، لا يأبه لهذا الخفقان، سيهدأ عندما يقترب منها، فاته أن يتمكن ويتملى عند مرورها إلى جواره، لعن الله خجله الذى أفقده الفرص، وتسبب فى توريطه وإقحامه فى أمور صعبة يطول الحديث فيها أو عنها، يكاد يتعثر، منخفض من الأرض لم ينتبه إليه، غير أنه يواصل مبدياً دهشته لنفسه، يوقن من بذله المجهود، من مد خطوه، لكن المسافة لا تتناقص، بل تزداد اتساعاً مع أنه لم يلمح أى تغيير على سرعتها، قوامها مثل الصارى كاشف - منبئ بحركتها، أى ميل إلى الأمام، الخلف يمكنه رصده، لم يعد منتبهاً إلى مداخل البيوت، ولا الشجر المنضبط، المتراص، والطريق الذى يبدو ماثلاً فى الواقع والوهم بدرجة ما، كأنه يمتد فى الذاكرة.
تجتاز منطقة معتمة، أحد البيوت لا يضىء مصباحاً، يسرع حتى ليكاد يعدو غير أنه يبطئ مع ظهورها، عند هذا الحد تبدو بعيدة، نائية، لا يمكنه الإسراع أكثر من ذلك، يستعيد تحذير الطبيب لبنانى الأصل الذى ترفق به وهش له وبش وأبدى العناية القصوى، طلب منه الاعتدال، كلما زاد انضباطاً طال عمر الصمامين، قال بصيغ الجمع: كلما كسبنا وقتاً أكثر هنا مع عبوره الطريق العرضى، الممتد قبل شارع بدفورد الرئيسى، يقع تناقض بين ما أبداه من همة وما ينطوى عليه من إمكانية، يضطر إلى التمهل مع ظهور العلامة المقضة، ذلك الألم فى الناحية اليسرى الملازم لتلاحق النبض فى أذنه، مرصد ما يجرى فى قلبه، لا.. حتى الزحف لا يقدر عليه، يستند إلى الشجرة القريبة، رغم انتباهه إلى ما يجرى داخله فإنه لم يحد ببصره عنها، تنأى بثبات لا يتأثر بأى سبب، ظهر رجل وامرأة بالقرب منها، كلما اقتربت من بدفورد تتزايد الحركة، فى لحظة بحينها تتوه بين العابرين، لماذا لم ينطق عندما حاذته، لماذا لم يحيها؟ لماذا لم يقل كلمة واحدة تنبئ بوده، لكن.. هل من المعقول أن يتحدث إلى من لا يعرفها؟ هنا يحذر القوم من محادثات الطريق، يخشونها، للتقارب والتعارف أماكن وأيضاً أصول، لو أنه نطق ربما مضت بدون أن تلتفت، وربما جاوبته غير أنه لزم الصمت فمرّت، مع غيابها عن بصره، مع انتفاء قدرته على اللحاق بها، يبدو ما كان مستحيلاً ممكناً، لكن.. ألا يبالغ فى التوهم؟ مجرد عابرة يدور حولها هذا كله؟ يتعلق بوهم، يشرع إلى داخله ولا يجرؤ على خطوة خارجه، ألم يحاذها لثوانٍ، ألم تمتد بينهما صلة غامضة، لا بد أنها فكرت بهذا الرجل غريب الملامح، الممسك بعصا مقبضها قناع مكسيكى، ذلك الوقت من النهار، الضوء الغامق الآخذ فى الانحسار، صمت الطريق، كلها عوالم تؤدى إلى التباعد إلى الحذر من الآخرين، لكن.. هذا كله لا يبرر صمته، لو أنه نطق تجاهها.
يمسك بصدره، يتوقف، لن يتحرك إلا إذا هدأ ذاك الألم، يتطلع فى اتجاهها، أهى تلك المولية؟ لا يمكنه القطع، المسافة بعيدة، والضوء خافت، منى نفسه أثناء محاولته إدراكها، توازى سعيه مع خطواتها، يستند بيده اليمنى إلى الشجرة واليسرى إلى العصا، يتطلع، فقط، لو أن بصره وقع عليها، إلى هذا الحد تبلغ الرغبة الغامضة، التعلق بمن يجهلها تماماً.
الشارع ممتد، حركة الناس فى بدفورد العرضى بادية، غير أنها اختفت تماماً، نأت عن مجال بصره، يكف، لم تعد. تجاوزته، يبطئ، يتمهل محاولاً لملمة حاله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.