رهاننا علي استعادة الدور المصري مازال قائماً، تدعمه ثقتنا في وعي القيادة المصرية ووطنيتها وقدرتها علي استيعاب كل المتغيرات الإقليمية والدولية والموازنة بين موجبات ومحددات الأمن القومي المصري وضرورات الأمن القومي العربي. لعلي لا أتجاوز الحقائق إذا ماقررت أن قوة مصر وقدرتها مرهونة بفهم أبنائها لخصوصيتها الجيواستراتيجية. وهي مرشحة دوماً بخصوصية الجغرافيا وتراكم التاريخ لأن تكون قوة فاعلة في إقليمها وفي نظام عالمي جديد تتشكل محاوره، ولايمكن لها بحكم مشاكل الاقتصاد أن تتحول تابعاً، أو رقماً في معادلة الإقليم يحدد دلالته فاعلون آخرون ومهما كان قربهم من مصر أو دورهم الداعم لها. ولعل ماأثير مؤخراً في محيطنا العام من لغط حول الدور المصري في عاصفة الحزم، أو تردد سياساتها الخارجية في التوجه شرقاً نحو روسياوالصين، والعودة للخلف در في رهان معاد علي سياسات الاحتواء الأمريكية التي تعيد توظيف الدور المصري لتحقيق مخططاتها للمنطقة، إنما هو قراءة متعجلة للشواهد والمواقف المصرية تتناقض مع ماخطته مصر لنفسها بعد 30 يونيو من استقلالية القرار المصري وانفتاحها علي كل الاتجاهات وعدم رهن قرارها للتردد الأمريكي الذي يعلن خلاف مايضمر ويقول خلاف مايفعل. ورغم ماتبدي في الأفق من تباطؤ طارئ في العلاقات المصرية الروسية بعد مشاركة مصر العسكرية في اليمن وعدم وضوح محاور تحركها السياسي لاحتواء مشكلته بالانفتاح علي إيرانوروسيا الداعمين الأساسيين للحوثيين واختيار مسار السعودية - الولاياتالمتحدة، فإن رهاننا علي استعادة الدور المصري مازال قائماً، تدعمه ثقتنا في وعي القيادة المصرية ووطنيتها وقدرتها علي استيعاب كل المتغيرات الإقليمية والدولية والموازنة بين موجبات ومحددات الأمن القومي المصري وضرورات الأمن القومي العربي. وليس صحيحاً في مجمله مايقال عن تفرد الرئيس السيسي وأجهزة معلوماته بالقرار الذي يفتقد للمؤسسية والرؤية السياسية الشاملة، وأن مصر تفتقد لرجال الدولة الذين يتم تغييبهم عمداً بادعاء تجريف القيادات، ولذلك تتردد كل من الصينوروسيا في عقد شراكة استراتيجية مع مصر. ورهاننا هنا أيضاً علي القيادة وقدرتها علي تصحيح كل المواقف بما يحقق الصالح الوطني للبلاد. وأحسب أن معظم مايثار في هذا الإطار إنما يستهدف مصر ودورها وثورتها ومستقبلها في عالم تتزايد فيه تفاعلات مخاض تخلق نظام عالمي جديد يحاول الأمريكان كل جهدهم استبعاد مصر من التأثير الفاعل في مكوناته ومحاوره. لذا فإن مصر بخصوصية الجغرافيا وفاعلية الدور وتراكم الخبرة مؤهلة للاستهداف ومرشحة له. ولقد تحدث الدكتور جمال حمدان عن شخصية مصر وعبقرية المكان وأسهب في شرح دلالات الموقع وشواهد الموضع ومؤهلات مصر كقوة إقليمية فاعلة ومشاركة في صنع تاريخ العالم وحضارته وملهمة للجوار المحلي والعربي بما تقدمه من نموذج ومثال ومرجع. ولعلي كتبت لك في هذا المكان من قبل عن «استهداف ملكة الحد الأوسط» مانصه: قد يري البعض أن مصر أرض المتناقضات Land of paradox ربما بسبب التباين الشديد بين الطبقات والفروق الاجتماعية الصارخة من ناحية، أو بما تمثله المفارقة بين خلود الآثار القديمة وتفاهة المسكن القروي، أوبين الوادي والصحراء حيث يتجاوران جنباً إلي جنب كما تتجاور الحياة والموت، إلا أن في كتابه «شخصية مصر» يري الدكتور جمال حمدان أن ملامح شخصية مصر تجعل منها مخلوقاً فريداً فذا، فهي بطريقة ما تكاد تنتمي إلي كل مكان دون أن تكون هناك تماماً. فهي بالجغرافيا تقع في أفريقيا، ولكنها تمت أيضاً لآسيا بالتاريخ. هي في الصحراء وليست منها. فرعونية هي بالجد، ولكنها عربية بالأب. ثم إنها بجسمها النهري قوة بر، ولكنها بسواحلها قوة بحر، وتضع بذلك قدماً في الأرض وقدماً في الماء. وهي بجسمها النحيل تبدو مخلوقاً أقل من قوي، ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأساً أكثر من ضخم. وهي بموقعها علي خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب تقع في الأول ولكنها تواجه الثاني وتكاد تراه عبر المتوسط، كما تمد يداً نحو الشمال وأخري نحو الجنوب. وهي توشك بعد هذا كله أن تكون مركزاً مشتركاً لثلاث دوائر مختلفة بحيث صارت مجمعاً لعوالم شتي، فهي قلب العالم العربي، وواسطة العالم الاسلامي، وحجر الزاوية في العالم الافريقي.يستطرد فيقول: وإذا كان لهذا مغزي،فهو ليس أنها تجمع بين الأضداد والمتناقضات، وإنما تجمع بين أطراف متعددة غنية وجوانب كثيرة خصبة وثرية، بين أبعاد وآفاق واسعة، بصورة تؤكد فيها «ملكة الحد الاوسط» وتجعلها «سيدة الحلول الوسطي»،وسط في الموقع والدور الحضاري والتاريخي، في الموارد والطاقة، في السياسة والحرب، في النظرة والتفكير. ولعل في هذه الموهبة الطبيعية سر بقائها وحيويتها عبر العصور ورغمها.انتهي الاقتباس،ولعل في هذا كله ما يوغر صدور الحاقدين ويؤجج نيران الحاسدين ويشحذ همم الطامعين. إن مصر التي مثلت وعلي مر العصور حكمة التاريخ وعمق الحضارة ووسطية الدين واعتدال السياسة، لهي المستهدفة اليوم بالإرهاب علي حدودها وداخلها، لما يمكن أن تقدمه من رؤية عصرية حول النموذج والإطار لقوة إقليمية فاعلة في شرق أوسط جديد تمثل للعالم العربي فيه النواة والمحور. ولمصر في ذلك سابق الخبرة وعميق التجربة، فقد قادت في هذه المنطقة ومنذ القرن التاسع عشر فكر التنوير والتحديث والإصلاح والنهضة. وتواصل دورها في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين لتقود حركة التحرر العربية والإفريقية، وامتد دورها فاعلاً نشطاً كلاعب مؤثر في السياسة العالمية، وهي التي قدمت رؤية السلام ومبادراته، وعملت له بحكمة واقتدار وقادت المنطقة لمفاهيم جديدة تؤسس للتفاهم والتعاون والحوار وهي اليوم مطالبة أن تقود المنطقة من جديد لإصلاح سياسي شامل وتحديث ديمقراطي عريض نحو مجتمع المعرفة وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة. ذلك دورها وهي قادرة عليه وهو ما يقلق البعض فيتحسبون له بالكيد والتآمر وسوء المنافسة. إن السياسات المصرية الفاعلة في القضايا الإقليمية التي مازالت ساخنة إنما تمثل خبرة مؤسسية هائلة بما يجعلها تستعصي علي المنافسة أومحاولة تحجيم دورها لصالح قوي إقليمية أخري لها مطامعها في المنطقة ولها كفلاؤها من قوي الإمبريالية العالمية، التي تحاول زعزعة استقرار مصر وإضعاف دورها وقدراتها. وربما لهذا تدعم الولاياتالمتحدةالأمريكية قوي الإرهاب في القاعدة والنصرة وداعش وفجر ليبيا وأنصار وأكناف بيت المقدس وغيرهم. وهكذا يتبين لنا وكما قلت في البداية أن مصر بخصوصية الجغرافيا وفاعلية الدور وتراكم الخبرة مؤهلة للاستهداف ومرشحة له. وينسي من يستهدفون مصر ودورها ألا أحد في مقدوره تغيير الجغرافيا أو تحييد التاريخ. نعم يمكن إعادة رسم خرائط المنطقة للتأثير علي القوي الجيواستراتيجية فيها سواء بالتواجد المباشر للقوات الأمريكية، أوبفعل سياساتها لكن يظل حلم إلغائها وتسطيح دورها مستحيلاً. إن الخصوصية الثقافية لمصر وثراءها التاريخي والحضاري وتنوع محتواها السكاني وقدراتها البشرية المتعددة تجعل من الصعوبة أن يرث دورها وفاعليته قوة إقليمية أخري، ومهما توافر لها من قدرات عسكرية وتكنولوجية، ومهما روج له صقور البيت الأبيض والمحافظين الجدد عن نظرية الفوضي الخلاقة Constructive chaos، لكن هيهات أن ينال ذلك من ملكة الحد الاوسط، وسيدة الحلول الوسطي.