دون إنجازات مؤثرة ملحوظة علي الصعيدين الخارجي والداخلي, انقضي العام 2009 في تركيا, ليظل الباب مفتوحا علي مصراعيه أمام تحديات يتوجب التعامل معها. عام2008 منحها فرصة الخلاص من عقبات داخلية لم تستثمرها لتحقيق انطلاقاتها دوليا وإقليميا, وظلت رهينة لتداعيات مشكلتي العلمنة والأسلمة فيما يعرف باسم أزمة الهوية وفشلها في التعامل مع عقبة الأكراد, مما جعلها لم تراوح مكانها لعدم امتلاكها الوقت الكافي لإيجاد حلول واقعية للأزمة القبرصية وتطبيق جميع معايير كوبنهاجن, التي أقرت في عام1933 لتحقيق حلمها في الانضمام الي الاتحاد الأوروبي. غير أن تركيا حققت إنجازا قد يبدو حقيقيا في عام2009 متمثلا في قدرتها الفائقة في إعادة صياغة علاقاتها الإقليمية بالمنطقة بصورة عظمت من دورها وزادت من حضورها وتأثيرها في القضايا المهمة بمنطقة الشرق الأوسط, باعتمادها تنفيذ نظرية الداهية السياسية أحمد داود أوغلو وزير الخارجية الحالي وصاحب النظرية التي تتحرك بها السياسة التركية والتي أحدثت تحولات ذات مغزي كبير جدا وهي النظرية المعروفة باسم العمق الاستراتيجي والمكانة الدولية لتركيا, الساعية لإيجاد دور إقليمي أكبر لأنقرة في الشرق الأوسط والبلقان ومنطقة القوقاز. وبدأت محددات النظرية تظهر بوضوح مع العدوان الإسرائيلي الأخير علي غزة في الأيام الأخيرة من عام2008, حيث بدت تصرفات رئيس الوزراء أردوغان وكأنها دفاع عن كرامة تركيا, الأمر الذي دفع المعسكر العلماني( ؟) التأييد الشعبي الذي حظي به في أعقاب المشادة التي نشبت بينه وبين الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في منتدي دافوس ومنذ هذا التاريخ وأردوغان يتخذ المزيد من الإجراءات باتجاه استعادة تركيا دورها الخارجي في العالم الإسلامي, خاصة بعد زيارة أوباما لأنقرة في ابريل الماضي ومطالبته إياها بدور أكبر في تقريب وجهات النظر بين الغرب والعالم الإسلامي. ولم يكن هناك من هو أفضل من أوغلو ليعتمد عليه أردوغان الذي يعرف عنه أنه ذو نزعة عثمانية كما يعرف عنه الهدوء والذكاء والسرعة في امتصاص غضب العلمانيين, أيضا فإن أوغلو الذي قام بدور نشط في جهود الوساطة التي قامت بها تركيا في الشرق الأوسط بين إسرائيل وسوريا هو الوحيد القادر علي توسيع مجال السياسة الخارجية لتركيا وتحسين الأمن الإقليمي من أرمينيا الي العراق وإيران ولعل حنكته كانت حاسمة في إنهاء أزمة مذابح الأرمن التي كانت دوما وسيلة ابتزاز من جانب الغرب لتركيا وذلك بعد توقيع وزيري خارجيتي تركيا وأرمينيا في10 اكتوبر الماضي اتفاقا تاريخيا لتطبيع العلاقات بين البلدين بعد نحو قرن من العداء بينهما. ولعل التصريحات التي أدلي بها أوغلو في3 مايو الماضي بعد توليه منصب وزير الخارجية تؤكد تصميمه علي التنفيذ الحرفي لنظرية العمق الاستراتيجي والمكانة الدولية لتركيا والتي كشف خلالها النقاب عن تصميمه وسعيه لإيجاد دور إقليمي أكبر لبلاده في الشرق الأوسط, حيث قال حينها إن تركيا تمتلك رؤية سياسية خارجية قوية نحو الشرق الأوسط والبلقان ومنطقة القوقاز وتسعي لدور يرسي النظام في تلك المناطق, مشيرا الي أن تركيا لم تعد البلد الذي تصدر عنه ردود أفعال إزاء الأزمات وانما يتابعها قبل ظهورها ويتدخل في الأزمات بفاعلية ويعطي شكلا لنظام المنطقة المحيطة به. وبرغم إشارته في نفس التصريحات الي أن علاقات أنقرة مع الغرب ستستمر محورا رئيسيا للسياسة الخارجية, وهي محاولة منه لإيجاد توازن بين علاقات مع العالم الإسلامي من ناحية وعلاقاتها مع الغرب من ناحية أخري, فإنها في حقيقة الأمر تؤكد أن حكومة حزب العدالة برئاسة أردوغان تسير بخطي ثابتة وواثقة علي طريق الاتجاه شرقا وهو ما ظهر واضحا في إشارة أوغلو أولا للدور الإقليمي وهكذا يتضح أن عودة تركيا لمحيطها الإقليمي بقوة ابان العدوان الإسرائيلي علي غزة, لم يكن مجرد تطور طاريء وانما هو سياسة مرسومة بدقة وذكاء كبيرين لاستعادة مكانة تركيا التاريخية إسلاميا وعربيا ودوليا. ولعل التقارب التركي السوري والتحول من العداء السافر الي التحالف الوثيق أفضل برهان علي أن أنقرة باتت تعطي العالم العربي أهمية قصوي بسبب حقائق التاريخ والجغرافيا وفي نفس الوقت لم تنس أو تتجاهل العالم الإسلامي فوثقت علاقاتها مع طهران ودول آسيا الوسطي ولعل تصريحات أردوغان المتتابعة للدفاع عن البرنامج النووي الإيراني السلمي, انما تؤكد أن هذا التقارب مع إيران ليس علي حساب العرب بل هو في مصلحتهم لمواجهة عربدة اسرائيل في المنطقة. وباختصار فإن عام2009 يمثل البداية لعودة تركيا الي محيطها الإقليمي لتبزغ كقوة إقليمية فاعلة في المنطقة, غير أنها في حاجة ماسة اليوم أو بالأحري في عام2010 الي تحقيق قاعدة صفر المشاكل, سواء المشاكل التاريخية أو المستحدثة وفي مقدمتها علي الصعيد الداخلي أزمة الأكراد التي ما لبثت حكومة العدالة في انهائها عبر مبادرة الانفتاح الديمقراطي حتي اعاقتها محكمة الدستور بحظر حزب المجتمع الديمقراطي( الكردي) لتعيد الأزمة من جديد الي نقطة الصفر. وعلي الصعيد الخارجي, فبرغم نجاحها في إنهاء أزمة الأرمن الي حد بعيد إلا أن المشكلة القبرصية مازالت تراوح مكانها بسبب التعنت التركي حيال هذا الملف وعليها البحث عن حلول إيجابية وفقا لأجندة الاتحاد الأوروبي حتي تتمكن من النفوذ الإقليمي ومن ثم فإن الرهان في عام2010 وفقا لوجهة نظر العديد من المراقبين, تشير الي أنه سيكون عام حسم الأزمة القبرصية.