افاقت قرية ميانة من نومها منذ أيام علي صراخ المئات من الأهالي وعويل النساء, هرول الجميع يمينا ويسارا إثر سماعهم خبر وفاة تسعة دفعة واحدة من شباب القري, في حادث سيارة. قصدوا الرزق في القاهرة الخلطة التي تتألف منها القرية, جعلت للكل قريبا أو شقيقا في الحادث المروع. ذهب الرجال بالالاف, ولم ينتظروا قدوم جثث ذويهم من مستشفي قصر العيني, واتشحت النساء باللون الاسود, دموع الأطفال وشهقاتهم في كل مكان, وخرج الجميع علي رأس مدخل ميانة ينتظرون قدوم شهدائهم لساعات وساعات.. وما ان وصل اول نعش حتي تعالت الصرخات, وغطي التراب رؤوس الجميع, بسبب التدافع لاستقبال النعش بالاكتاف, وتكرر المنظر حتي دخول اخر نعش مسجد القرية الذي اختفت معالمه من آلاف المصلين والمشيعين. توافدت قاطرات الرجال التي تقف خارج المسجد للقري المجاورة يقرأون ويدعون ما تعلموا ليتقبل الله شهداءهم في جناته, ويلهمهم الصبر علي المصيبة, ولم يلبث شيخ القرية في الانتهاء من صلاته الجنائزية, حتي فرغت القرية واصبحت خاوية علي عروشها, بعد ان حمل الجميع المشاعل, واتجهوا للمقابر ليودعوا شهداءهم التسعة داخل مثواهم الأخير, وقام شيوخ القرية باعتلاء احدي الصخور بالمقابر واخذوا يهدئون من روع النساء الامهات منهن والزوجات والأبناء والجدات, فقضاء الله نافذ.. واستمروا لساعات حتي التزمت النساء السكينة, وبدأ الرضا بقضاء الله يدخل القلوب. حاول الأهرام المسائي مقابلة اسر الشهداء, إلا ان الوقت والأسي حالا دون ذلك ولكن حرصا منا علي تقديم واجب العزاء والوقوف علي احتياجات اسر الشهداء بعد ان سمعنا عن ضيق حالهم, قمنا بزيارة القرية مرة أخري, وتقابلنا مع احد افراد اسر شهداء الرزق بالقرية هو صلاح رجب عبدالفضيل, حيث تحدث إلينا والده قائلا ونجله الصغير محمد ممسكا بيديه ليرشده للطريق بعد ان اصبح فاقدا للرؤية بعد المه لفراق نجلة الأكبر, لقد ترك لنا ولدي صلاح4 من ابنائه اري بداخل كل عين واحد منهم ابني الذي ربيته وتسعة من اشقائه وشقيقاته بعرق العافية. وتابع قبل وفاته بايام, كنت اشعر بان مكروها سيصيبه, لانه كان يقوم بتوديع الجميع والذهاب لبعض الأهالي من الذين لم يعتد المرور عليهم, ليراهم ويسأل عن احوالهم قبل سفره للقاهرة, بحثا عن أكل العيش.. وبعد ان علمنا بالحادث, قمت بالاتصال علي هاتفه المحمول للاطمئنان عليه, وعندما رد وقال الو رجعت لي الحياة مرة أخري, واخذت نفسي, ولكن سرعان ما وقع الهاتف من يدي, بعد ان علمت بان الذي اجابني, هو مسئول حفظ الموتي بالمستشفي. وأكمل شقيق الشهيد الاصغر محمد قائلا: استعنا بثلاثة من مشايخ القرية, لتهدئة روع زوجته فمصيبتها جاءت في اثنين, فقد فقدت في الحادث زوجها وشقيقها عادل, وباتت علي شفا حفرة من الموت هي الأخري, فقريتنا متشابكة في النسب والقرابة.. وقاطعه الطفل محمود نجل الشهيد قائلا: بابا في الجنة ان شاء الله.. بابا كان بيصلي بينا في البيت, وكان يذهب بي للكتاب ايضا, وكان لما بينام في حضني بحس ان الدنيا كلها معايا, واحتضن الجد الطفل بين ذراعيه واكمل قائلا: انا رجل مسن واحصل علي140 جنيها من ضمان مبارك, والآن اصبحت اسرة ولدي مسئولة مني, وانا أعلم بان اشقاءه سيتكلفون بنفقات اسرته, اما انا فاحتاج لعملية في عيني, لاستطيع ان اري جيدا مرة اخري بعد ان فقدت الابصار من شدة الحزن علي وفاة الغالي. وفي احد الشوارع المجاورة لمنزل الشهيد صلاح قابلنا طفلا لم يتجاوز ربيعه الثاني وقال لي انت جاي من عند بابا؟! فأدركت حينها انه من احد ابناء الشهداء التسعة, فجاذبته اللعب والحديث حتي جاء جد الصغير عبدالتواب عبدالعليم من صلاة المغرب الذي استقبلنا قائلا: كامل ابني الوحيد ذهب, وترك لي ولديه بلال وكريم, وعوضني الله عنه باثنين من الملائكة. وأكمل قائلا: حسبي الله في سائق النقل المهمل الذي تسبب في مصرعه ومن معه, فقد كان ابني العائل الوحيد للأسرة, وكان يعمل ليل نهار في القاهرة, يلبي متطلبات والده وأمه وشقيقته وابنائه وابنة خالته التي تزوجها منذ عدة سنوات, وكان يرفض عملي بعد ان حل بي الهرم بعد ان كنت اعمل علي باب الله, وبعد ان علمت بوفاته اصابتني صدمة وحالة هستيرية من البكاء وصرخت في وجوه الجميع محدش يبكي علي ابني انا طماع وسأبكي علي ولدي وحدي ومن وقتها وانا أعمل في مشروع توزيع الخبز بالقرية, لكي اطعم الأسرة التي اتمني ان يشملها المسئولون بمعاش يقتاتون منه بعد وفاة عائلهم الوحيد. لاتمشي يا ولدي من السكة اللي انت رايحها, فقال لي مفيش بعد ربنا حاجة يا أمي.. بهذه الكلمات بدأت والدة الشهيد الثالث خلف شعبان خليل حديثها معنا بعد ان أصرت علي دخولنا لنجلس في حجرة فقيدها التي امتلأت بصوره, محتضنا ابناءه الاربعة محمد وأحمد وشعبان وشاهيناز, وأكملت والدته قائلة: انا عندي أكثر من90 سنة وربنا مخليني اشعر واشوف بقلبي حاجات كبيرة عليكم, لذا عندما قام خلف بتقبيل قدمي ويدي ودور الحب فيه, ادركت بمصيبتي وتوسلت إليه بعدم السفر ولكنه ابي وقال لي يا أمي الولاد محتاجين الأكل والشرب وخلاص دول علي باب مدارس. وقاطعها نجلها الأكبر شقيق الشهيد متحدثا بان الله حرمه من الخلفة واصبح لديه4 اطفال مرة واحدة بعد وفاة شقيقه, وتجمع بعدها الأطفال من حولنا متسائلين بابا غايب كل دا ليه؟ احنا مش عاوزين فلوس لكن نحتاج بابا معانا, يلاعبنا ويأخذنا بين يديه زي زمان.. وقتها انخرطت زوجته في البكاء وتساءلت: من سيصرف عليهم في ظل ضيق الحال بعد وفاة والدهم؟! واثناء قيامنا بالتوجه لبيت آخر من بيوت الشهداء سمعنا عن معجزة الطفل مصطفي الذي نجا من الحادث المروع, من دون ان يصيبه اي مكروه, بعد ان احاطته والدته ووالده بجسديهما للحفاظ علي روحه وذهبت الام فداء له, ونقل الاب للعناية المركزة في حالة خطيرة, حتي وقت النشر, فتوجهنا لمنزل هذا الطفل, وتقابلنا مع ابراهيم سعيد شقيق الشهيدة مني والذي قال: جاءت شقيقتي مشتاقة من القاهرة بعد غياب دام6 أشهر عنا للقاء والدتها واسرتها, حيث انها متزوجة هناك, وكأنها كانت تأبي ان تسلم روحها, قبل ان تسلم علي اصول ارحامها, وفي رحلة عودتها تعرضت للحادث الذي راحت ضحيته حيث كانت بصحبة زوجها, الذي يرقد بين الحياة والموت داخل المستشفي و8 شهداء اخرين من القرية. واستطرد قائلا: بعد ان ابلغونا بوفاتها ذهبنا لاستقبال جثمانها هو ورضيعها مصطفي, وكانت المفاجأة حينما قام مستشفي قصر العيني بتسليمنا الطفل من دون ان يمسه اي اذي وقالوا لنا: لقد تم استخراج جثة امه من السيارة, وهي منكبة علي رضيعها لحمايته من الاصابة وبات بكاؤه وابتساماته هي ما تعين الأسرة علي الصبر لفراق الحبيبة. وكانت نزلة الطريق الدائري المؤدية للمنيب قد شهدت حادثا مروعا حيث كانت سيارة نقل محملة بالزلط تسير عكس الاتجاه حاول قائدها النزول من طريق مخصص لصعود السيارات إلي الطريق الدائري بمنطقة الطالبية, فاصطدمت بسيارة ميكروباص نتج عنها وفاة9 من الركاب هم: صلاح رجب عبدالفضيل42 سنة عامل, وخلف شعبان خليل45 سنة سائق, ومرزوق محمد عويس63 سنة سائق, وحسن ابوحامد فلاح, وعادل احمد عامل, ومني سعيد عبدالسلام62 سنة ربة منزل, وكامل عبدالتواب عبدالعليم92 سنة عامل, وأحمد علي متولي عامل, وسلامة حسين سلامة عامل, وكما نتج عن الحادث ايضا اصابة5 اخرين ونجاة رضيع, من الحادث. وقد تم القبض علي سائق النقل وتحرير محضر بالواقعة, وتم نقل الوفيات والمصابين لمستشفي قصر العيني, وتولت النيابة التحقيقات حيث وجهت للمتهم تهمة القتل والاصابة الخطأ, ومخالفة السير عكس الاتجاه, وتعريض حياة مواطنين للخطر, وامرت بالتحفظ علي السيارتين, وانتدبت النيابة المعمل الجنائي لمعاينة مسرح الواقعة.