وضعت يديها البريئة علي كتفي, ونظرات عينيها تتلألأ كالنجوم.. قالت لي: انت جاي من عند بابا؟! لم أعرف بماذا أجيبها.. وبينما أنا في حيرة من أمري, وجدت الجميع يهزون الرأس ويلقننوني الإجابة بنعم فاستسلمت وقلت للصغيرة نعم. فأوصتني بان أبلغه السلام وأن أقول له: مريم بتدعيلك.. وربنا يشفيك يا بابا. وهمست لي في أذني بأن بابا خالد كان يحضر لها كل ما تتمناه, وكان يجعلني أحب الكلام بتاع ربنا. أما شقيقها عمرو فكان يقف خلفها ليقول لي: أنا كبير وعارف ان بابا راح عند ربنا وأنا هطلع ضابط في الجيش زي ما كان بابا عاوز.. بس أنا محتاج أنام في حضنه مرة واحدة بس زي زمان.. بهذه الكلمات وصف الصغيران شعورهما نحو شهيد مدينة الواسطي التي استقبلت خبر استشهاد خالد صلاح الذي ضحي بحياته من أجل إنقاذ زملائه وجيرانه من النيران, بالحزن والأسي. اصطف الجيمع صغيرا وكبيرا لاستقباله, تتصارع عليه الاكتاف لحمله, وتتساقط الدموع علي الأرض في زخات, لتهدئ من روعة التراب الثائر, وامتلأت شرفات البيوت بالسيدات المنتحبات, وتتخلل المشهد المهيب كلمات الرثاء.. صلي عليه الجميع, وخرجت الجنازة لتعبر النيل لينقل خالد إلي مثواه الأخير الذي رفض النهر إلا وأن يودعه فارسل قطراته الندية المتطايرة لتلامس نعشه وثيابه البيضاء فوق معدية المدينة. عاد حمدي وأحمد شقيقا الشهيد إلي بيتهما منكسري الهامة فهما علي موعد كل عام لتقديم ثمرة من أسرتهما لمقابر العائلة, التي يقبع بها أربعة من الأشقاء الشهداء بجوار الأم والأب.. وقد شاء الله أن يكتبهم عنده شهداء, ويستقبل في جناته واحدا منهم كل عام. يتحدث حمدي الشقيق الأصغر لخالد والعائل الثاني لأسر الشهداء وابنائهم قائلا: ذهب شقيقي إلي عمله في احد مصانع الأفران بالواسطي, ومر علينا في الصباح ليتقصي الحال, ويستفسر عن احتياجات زوجات وابناء أشقائه المتوفين, ترك لي ابناءه الثلاثة قائلا لي: ضعهم في عينك.. شعرت وقتها بان روحي خرجت عن جسدي فهذه الكلمة عندما أسمعها تعني غياب أحد أشقائي من دون عودة. وأضاف حمدي: بعدما أخذ نفسا عميقا وتأمل في السماء بقوله: يعرف الجميع عن خالد أنه صاحب شهامة ومروءة, ودائما يؤثر الغير علي نفسه.. فعندما اندلعت النيران بأحد المنازل المتاخمة للمصنع الذي كان مسئولا عن الأمن به, هب مسرعا من دون انتظار لقدوم المطافئ, وكان يخشي أيضا وصول النيران لمحل أكل عيشه المليء بالغاز والمزدحم بأقاربه وأصدقائه فتلقي أول حرق بقدميه وبالرغم من ذلك قام وعاد من جديد ليشارك قوات الاطفاء عملهم.. قاوم التراب والمياه وبودرة الاطفاء التي كان الأهالي يلقون بها لاخماد النار, وكان يدخل المنزل الذي تحول لجمرة من لهب, ليبحث عن أصحاب البيت حاملا بين يديه البطاطين للاطفاء والإنقاذ, ولم يكن يعلم أن تجارة السوق السوداء وتخزين الوقود بهذا المنزل هو ما سينهي حياته ويصيب العشرات من الأهالي ربما عقاب لهم علي شهامتهم. خرج أخي مصابا بحرق شديد في وجهه وأغشي عليه وقتها, فقام صاحب المصنع الذي كان يعمل فيه بنقله إلي أحد المستشفيات بالقاهرة نظرا لخطورة حالته غير أنه لم يلبث في المستشفي سوي عدة أيام, حتي صعدت روحه الطاهرة إلي بارئها, تاركا خلفه زهراته الثلاث: عمرو بالصف الثاني الابتدائي ومريم ذات الخمس سنوات والرضيعة ملك. وأكمل أحمد الشقيق الأكبر قائلا: إن الله ابتلي أسرتنا بلاء حسنا.. فكل عام يموت منا شقيق ونحسبه عند الله شهيدا, فمنذ ما يقرب من خمس سنوات لقي شقيقنا الأكبر محمد ربه بعد تعرضه لحادث وهو في طريقه لأحد أصدقائه, هب مسرعا لنجدته بعد اصابة والدته في حادث آخر فكانت الشهامة عنوانه وترك لنا ثلاثة أبناء هم: سامح وعبير وأميرة وعقب ذلك بفترة قصيرة, أصيب شقيقنا الخامس البدري بالسكر ومات بعد تعرضه لبتر إحدي ساقيه, وترك لنا أيضا ابنته هدير بعد أن رحلت زوجته التي أبت ان تفارقه في محياه ومماته. وبعد مرور ما يقرب من العام, لقي شقيقنا الرابع أيمن ربه بعد صراعه مع المرض طيلة حياته ومات مبطونا بثقب في القلب. وكنا جميعا نعيش في بيت واحد وبعد فراق الأحبة, رفضت زوجات الشهداء مفارقة البيت أو الزواج وممارسة حقوقهن وأقسمن جميعا علي تربية الأبناء تربية واحدة, حيث يأكل الكل من طبق واحد, وأصبحت نقود أولادي هي نقود أبناء أشقائي وخصصنا الدور الأرضي بالمنزل لتحفيظ أطفال الأسرة القرآن الكريم. وتجاذب معي أطراف الحديث مرة أخري الشقيق الأصغر حمدي قائلا لي: أصبحت زوجة أخي بعد وفاته تعاني الأمرين, فهي تعمل بمدرسة في قرية ابويط وهي تبعد45 كم عن المنزل ولا تستطيع أن تترك العمل بسبب احتياجها للمال بعد وفاة الزوج, ولا تستطيع مراعاة الأبناء بسبب بعد المسافة, لذا فهي تطلب من محافظ بني سويف أن يرأف بحال ابنائها ويوافق علي نقلها لتعمل في نفس المدينة التي نسكنها, لتكون قريبة من أطفالها الصغار وأن يوفر وظيفة لي لكي تساعدنا في تربية أطفال أسرتنا, بعد أن اختار آباؤهم الشهامة وذهبوا فداء لحب مصر. دلت تحريات المقدم محمد البرنس رئيس مباحث الواسطي باشراف اللواء رضا طبلية مدير البحث الجنائي علي أن الحريق نشب في منزل ملك شعبان عبدالعال ويقوم بتأجيره لأولاد( ع.أ) والذين يستخدمونه كمخزن لبيع الوقود في السوداء, وقد نشب الحريق بالمخزن بعد قيام سيارة نصف نقل بتفريغ حمولتها وهي7 آلاف لتر سولار داخل المنزل وقبل مغادرة السيارة لموقع الحادث اشتعلت النيران بالمخزن بسبب إلقاء عقب سيجارة كما دلت التحريات علي وفاة خالد صلاح محمد39 سنة وتفحم سيارة اطفاء واصابة9 من الأهالي. تم تحرير محضر بالواقعة وتولي محمد فؤاد مدير نيابة الواسطي التحقيقات باشراف المستشار حمدي فاروق المحامي العام الأول لنيابات بني سويف.