*أتقلقل فوق المقعد, أهتز كالبندول, غبار الضجيج يطير في الهواء, يصدم أذني في توال, لا أغمض جفني, فما فائدة الإغماض؟ *كل الأشياء منذ زمن بعيد سوداء, ولكن ما الأشياء وما السواد؟ قسرا أنغمس في عجين الحيرة, يتعارك الأولاد في الغرفة المجاورة, أزعق, لعلهم يسكتون, أحذرهم بقطع المصروف, لا يأبهون, أنده أم العيال, أيضا لا تجيب, تتخلل أناملي اليسري, يتعالي صراخهم, ألتمس الطريق اليهم, أحفظ الشقة, كرسي علي اليمين وكنبة علي اليسار, أنكب علي وجهي, كومة خشب تعترضني ما بال الخشب ينبت فجأة أزيحها, أهتدي بالحائط الي مدخل الغرفة,, عم السكون, ولكن حركات أقدامهم لم تهدأ بعد, أتوعدهم, تتشتت كلمات الوعيد, لا أسمع إلا توتر الأنفس, أعود الي الكنبة بخطوات وئيدة, أستند علي الجدران, ماكدت أجلس حتي هاجمتني الوخزات أري.. هأ.. هأ, من السخف ادعاء الرؤية لكنني علي أي حال أضمد جروح الذكريات, ولكن قطرات من الذكريات تسيل: *الأرض متجمرة, فالشمس تخبط وتزرع الأرض, أسفل شجرة الجميز العتيقة قعدنا نستظل, جلبابي متنسل ولكنه لايلسبني الشعور بتفردي, القرية مختبئة في البيوت وأسفل الاشجار الوارفة الظلال, حتي الأوز والبط يحفرون القاع بحثا عن رطوبة الجوف, الدور مسنكرة وحوائطها الكالحة ملتهبة, الجاموس والأبقار تركن في زوايا الزرائب المظللة, مع هذه الحرارة نتخانق علي اختيار لعبة نتسلي بها, أنلعب سيجة؟ يرفض بقية الأولاد.. فلنجرب الاستغماية, بعضهم يقترح: فلنلعب عسكر ومطاريد. لكل فرد منا رأي, وكعادتنا نختلف أكثر مما نتفق وفي النهاية نحتكم الي القرعة أوكلوا بامية, كل واحد يمثل لعبة ومن يفوز بالقرعة نلعب لعبته, أخيرا تكسب مسابقة الجري أسجن ذيل الجلباب في سروالي, ننخلع من الأرض قبل انتهاء العد, أطير, أبتلع الأرض دون مضغ, يكويني صهد الأرض, لاشيء يلهيني عن السبق أركب الجسر الترابي, الاحجار المسنونة مولعة نار, تماما كالسكين الموضوعة علي المسن, تعبرني الحمير العائدة الكسلانة, أبرق كالدبور, أحتضن شجرة الجميز, ألهث, عرقي غزير ولساني جاف, نبضاتي لها صوت مسموع, ألتقط الأنفاس, لا أحد يأتي بعد, أدعك ثمار الجميز, تدبقني ألبانها, أفك أسر ذيل جلبابي بقبقت بطنا قدمي, ريالتي الجافة لاتبردهما, أعوز جردل مياه, عندما يعود الأولاد, ويقرون بفوزي سأغطس قدمي في حوض البهائم, هل بقية الأولاد تباعا, الصدور تعلو تهبط كبالون تتصل فتحته بمكبس هواء خربان, ابن العمدة يقضم الجمار, أقول: *أنا الفائز: *يضحكون, يتغامزون, تنهال علي العصي وفين يوجعك, أنهار, يمضغ الأولاد رقائق الجمار, تغيب الدنيا, تشرق كومضة, تأفل وفي حوزتها عيناي, الخضراء يحملونني الي المستشفي, أمي تولول, تشهق وتزفر الحزن, وكأنه مكتوب عليها الغم, والدي يتوه في دهاليز التحقيقات, مخبر وضابط ووكيل نيابة وأوراق تروح وتعود, وهو عنهم لاه, قالوا لي: إنني ظللت طريح الفراش أكثر من ثلاثة أسابيع, أذناي تلتقطان الغمغات, تشم أنفي روائح البرتقال والموز والكحول والضمادات, أفتح عيني, مازال الظلام يسيطر, انتفت الهيئات, صداع قاتل يكبلني, أحرك ذراعي في الفراغ باحثا عن الوجوه كل الوجوه انسحبت مبتعدة إلا نحيب أمي و( عديدها) أبي يعجز عن الحركة, فاليد قصيرة والعين بصيرة. العمدة يربت كتفه, يلعن شقاوة العيال, يعاتب القدر, يدس في جيب أبي رزمة بنكنوت. *الباب يدق, يتذمر محمد البكري ذو الأعوام الثمانية بعنف: *وهو في طريقه لفتح الباب, يدخل عم أحمد السائق, يسبقه التبرم, أمرته بالنزول ثانية, قمت صلبا وكأن قوي العالم جميعها انصهرت داخلي, حاول أن يسندني ولكنني رفضت, فكلما انهطلت من درجة سلم أختبرت الأخري, ارتكنت فوق مقعد السيارة الخلفي, دار محرك السيارة, يذبل ويئن, تطارحني التوجعات: *ما أقسي الصقيع في دروب الوحدة, ربما يزيح السفر الهموم, فما أجمل استنشاق هواء الحقول الآن!, ولكن تنقلي أعالني بالكروب, فالمرشدة منشغلة بوهم اسمه الوقت, أستاجرها بنصف قروش البعثة لتغادرني في الجامعة كصندوق البضاعة المستوردة من الشرق المتخلف, ثم آه من ثم هذه تعود لتجرني الي المكتبة, ما بال الطقس اليوم رطبا!! تأسرني المعاني بين صفوف الحروف, أري من خلالها أول مرة أقول أري ولا أنقضها العوالم المسحورة, تعبث يداي بالحروف البارزة, تهدأ المكتبة تماما يهمس أمين المكتبة في أذني معلنا أن وقت الرحيل قد أزف, تأتي مهرولة لتقودني الي الغرفة الثلجية, صوتها حاد ينم عن تكوينها الآلي, وكثيرا ما أغفلت تشغيل جهاز التدفئة, في بداية الأمر لم أفكر في البحث عن( زر) التشغيل واكتفيت بالبطاطين و( القرفصة) أسفلها, الي أن عهدت قدماي الطريق الي مفتاح التشغيل, عبرتني السنون سنون طويلة كليالي المظلوم ولاشيء في يدي سوي شهادة ثلجية. *تتوقف السيارة, صوت انفتاح الباب يدفعني الي الحركة, أمسك يده القابضة علي يدي, وبيدي الثانية العصا المتذبذبة, أصف له البيت: *أكبر بيت علي يميني. *تنبح الكلاب, أحسن بحركة السائق المترددة, لا حس ولانفس, ابتلعت الكلاب صلصلتها, رياح الشتاء تصفعني, تباعدت خطوات غاب طويلا سطح المصطبة يزداد برودة, لا أستطيع رؤية البيوت حتي بيتي الذي ورثته عن أبي تاه منذ زمن بعيد عن ذاكرتي, مع ذلك اشتريت عشرة أفدنة وبنيت فيها منزلا قالوا لي: إنه جميل الهندسة, حتي لاتطير جذوري مع من طاروا, أحاديث هامسة تتضح نبراتها, العمدة يسدني الي أحضانه, أتماسك فصدره منتفش, لسانه يتهدج. *أهلا بالدكتور. *بصوت يحاول أن يبدو هادئا أسأل: *كيف حالك يا عمدة؟؟ *زين. *كلمات يمين وكلمات شمال والحوار لاينضب, خلص كلام فقلت له: *بص ياعمدة: أنا رجل كبر وشاخ وأنت عارف إن الاولاد لم يروا الأرض, يعني لا رابط يشدهم الي الأرض, وأقترح عليك أن أتنازل عنها لك. *يحك ذقنه, يتعجل القول: *والله يا أستاذنا طلبات الناس تخلخل أعتي تل. *أجهزة عليه قائلا: *عاذرك.. ولكن لإقناع زوجتي فأعرض عليك التسابق وللفائز أرض غريمه, وطبعا لن أسبقك لظروفي, وبذلك تكسب الأرض وأم العيال لاتعترض. *يسخر, يصرح بعجزي, يدير الأمر في ذهنه, يكتشف غبائي, أهالي القرية يتجمهرون, يسر لي السائق بوصول أجولة الدقيق الي عتبات الدور, يقفون, حفيف تزاحمهم لايقلقني, يصفرون معلنين البدء, يطير بانتهاء العد, تتراشق التعليقات, يشق أسيجة الهواء بسرعة مطردة, تخطئه أنظار السابلة, ألف خلف الجدر, لا حاجة للف, ولكن للعيون المشرئبة حاجة الي الغشاوة, أعود ثانية, ذهب الصباح وخلفه المساء ولم يعد. أو هكذا أتخيل! عصام الدين محمد أحمد بولاق الدكرور