مصطفى بكري: اتحاد القبائل العربية جمعية أهلية وسيكون لنا مقرات في كل المحافظات    كنيسة روما تحتفل بيوم الصداقة بين الأرثوذكس والكاثوليكية    رئيس جامعة العريش: لا حرمان لأي طالب من دخول الامتحانات لعدم دفعه المصروفات    جامعة الإسكندرية تستقبل 3 فرق من الهيئة القومية لضمان جودة التعليم.. للتأكد من تطبيق المعايير    «الهجرة» تستعرض جهودها في رعاية المصريين بالخارج    سعر الدولار يتراجع لأقل من 47 جنيها للشراء بالمركزي اليوم الاثنين    رئيس المجلس التصديري للحاصلات الزراعية يزور ميناء دمياط    وزير الصحة يبحث مع نظيره اليوناني فرص التعاون في تطوير وإنشاء مرافق الرعاية الصحية والسياحة العلاجية    طريقة حجز الوحدات السكنية للمصريين في الخارج.. الخطوات والأوراق المطلوبة    اشتعال النيران في مبنى الهلال الأحمر شمالي رفح الفلسطينية    حماس: ندين تصريحات السيناتور الأمريكي بشأن ضرب الاحتلال غزة بقنبلة نووية    قديروف يعلن مشاركة قوات شيشانية في تحرير منطقة "أغورتسوفو" في مقاطعة خاركوف    "قد لا يكون بالمنتخب".. عمر مرموش يصدم حسام حسن    "مع ميسي" .. جيرو يعلن رحيله عن الميلان    حكم القمة سابقا.. فينتشيتش حكما لنهائي دوري أبطال أوروبا بين ريال مدريد ودورتموند    بعد تراجعه عن الاستقالة.. طارق العشري يُعلن قائمة الاتحاد لمواجهة سموحة    نشاط للرياح وشبورة مائية.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس الثلاثاء بدرجات الحرارة    "هشَّم رأسه ببلاطة سيراميك".. تفاصيل مقتل عجوز على يد شقيقه الأصغر بالجيزة    أشرف زكي عن مشكلته مع طارق الشناوي: بيتهمني في شرفي    الفيلم القصير سن الغزال يشارك في مهرجان كان السينمائي    القاهرة الإخبارية: آليات إسرائيلية تتقدم تجاه مخيم جباليا شمال غزة    الكشف على 165 حالة في قافلة كلية طب الوادى بقرى بولاق    استشاري يحذر من الملح الطبي «الهيمالايا»: خطر جدًا (فيديو)    10 يونيو.. النطق بالحكم على المتهمين بقتل عامل بالتجمع الخامس    مدرب توتنهام: 99% من جماهيرنا تريد الخسارة أمام مانشستر سيتي    السجن المؤبد للمتهم بقتل زوجته لتقديمها قربانا لفتح مقبرة أثرية بالفيوم    وزير التعليم يحضر مناقشة رسالة دكتوراه لمدير مدرسة في جنوب سيناء لتعميم المدارس التكنولوجية    كروس يتخذ قراره النهائي حول مصيره مع ريال مدريد    سيارات بايك الصينية تعود إلى مصر عبر بوابة وكيل جديد    برلماني: السياسات المالية والضريبية تُسهم في تعزيز التنمية الاقتصادية وجذب الاستثمارات الأجنبية    المفتي للحجاج: ادعو لمصر وأولياء أمر البلاد ليعم الخير    سفير واشنطن لدى إسرائيل ينفي تغير العلاقة بين الجانبين    «عباس»: الهيئة تتخذ استراتيجية مستدامة لميكنة دورة العمل بالنيابة الإدارية    مدير التأمين الصحي بالشرقية يعقد اجتماعا لمكافحة العدوى    لماذا سميت الأشهر الحرم بهذا الاسم؟.. الأزهر للفتوى يوضح    «التعليم» تنبه على الطلاب المصريين في الخارج بسرعة تحميل ملفات التقييم    افتتاح أول فرع دائم لإصدارات الأزهر العلمية بمقر الجامع الأزهر    تنطلق السبت المقبل.. قصر ثقافة قنا يشهد 16 عرضا مسرحيا لمحافظات الصعيد    لافروف: مؤتمر سويسرا حول أوكرانيا يهدف إلى إصدار إنذار نهائي لروسيا    ما هو موعد عيد الاضحى 2024 في الجزائر؟    مناظرة بين إسلام بحيري وعبد الله رشدي يديرها عمرو أديب.. قريبا    ما حكم عدم الوفاء بالنذر؟.. الإفتاء توضح    وزير الرى: احتياجات مصر المائية تبلغ 114 مليار متر مكعب سنويا    محافظ سوهاج ورئيس هيئة النيابة الإدارية يوقعان بروتوكول تعاون    وزيرة التضامن تشارك في أعمال المنتدى الدولي لريادة الأعمال ومبادرة العيش باستقلالية بالبحرين    خلال 12 يوم عرض بالسينمات.. فيلم السرب يتجاوز ال24 مليون جنيه    توقعات برج العقرب من يوم 13 إلى 18 مايو 2024: أرباح مالية غير متوقعة    الرئيس السيسي: الدولار كان وما زال تحديا.. وتجاوز المشكلة عبر زيادة الإنتاج    بدءا من 10 يونيو.. السكة الحديد تشغل قطارات إضافية استعدادا لعيد الأضحى    معهد الاقتصاد الزراعي ينظم ورشة للتعريف بمفهوم "الزراعة بدون تربة"    شعبة الأدوية توجه نداء عاجلا لمجلس الوزراء: نقص غير مسبوق في الأدوية وزيادة المهربة    رئيس الغرفة التجارية: سوق ليبيا واعد ونسعى لتسهيل حركة الاستثمار    وزير الإسكان يتفقد سير العمل بمشروع سد «جوليوس نيريري» الكهرومائية بتنزانيا    اليوم.. «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية في ديرمواس ضمن «حياة كريمة»    فضل الأشهر الحرم في الإسلام: مواسم العبادة والتقرب إلى الله    أرتيتا يثني على لاعبي أرسنال    الأقصر تتسلم شارة وعلم عاصمة الثقافة الرياضية العربية للعام 2024    "أوتشا": مقتل 27 مدنيًا وإصابة 130 في إقليم دارفور بغربي السودان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة قمم عليا

عثرت أخيرا علي وظيفة مساعد باحث في الجامعة الأمريكية بالقاهرة‏.‏ الصبر مفتاح الفرج‏.‏ بعيد ذلك‏,‏ بدأت في مراسلة مطبوعات عربية عديدة مقابل مبلغ جيد من الدولارات والدراهم أحيانا‏
التعقيد‏,‏ دهاليز الغموض المعتمة‏,‏ تضمين أسماء أجنبية في سياق كتاباتي تلك وشيء من الحذلقة اللفظية‏,‏ كل ذلك بدا لي بمثابة جواز مرور لا غبار عليه إلي عالم الصحافة الساحر‏.‏
حسب استعارة لويس ألتوسير بالغة الدلالة‏,‏ كالبط يحاول الركض حتي بعد قطع رأسه‏.‏ يعلق وليم كوستنر علي مثل هذه المفصلات حين غزا الجيش الأحمر براغ قائلا‏:‏ الاتحاد السوفيتي جبار‏,‏ ليس صراخه إلا تغطية لفقدان ذكورته‏.‏ نسبر جدلية هذا النص وفق مقولة رولان بارت‏:‏ الإيحاء هو نمو نظام ثان من المعاني‏.‏ ذلك أمر بدهي نجده في سياق بنيوية جولدمان لحظة أن ألمح بالقول‏:‏ كلما زاد العمق أتسع السطح‏.‏
كان لمثل هذا النهج في الكتابة وقع السحر علي نفوس أولئك القائمين علي أمر تلك المطبوعات‏.‏ الأدهي من كل ذلك لحظة أن ألجأ إلي مقتطفات من ميشيل فوكو قام بنقلها إلي اللغة العربية مترجم رديء‏.‏
حين نجح الأمر هناك‏,‏ ولمع اسمي وسط أسماء عظيمة أخري‏,‏ بدأت أمشي وسط أولئك المنفيين الغرباء بعبارات بدت لهم دائما كما لو أنها قدت من طلاسم ديانة سرية‏.‏
كنت استفيد من هذا الابهار لتغطية قصوري أمام مخضرمين ولدوا وترعرعوا في مستنقع المناورات السياسية وحيلها التي لا تنتهي‏.‏ أقابل مثلا قائدا نقابيا سابقا‏.‏ أتصيد حديثه بدقة لأضع في أعقابه بمهارة مثل هذه المقولة لكولون ولسن لقد تحول كل من فان جوخ ونيتشة إلي شعلة متوهجة من اللا انتمائية‏,‏ ولكن أكثر اللا منتمين لا يتحولون إلي أكثر من جمرة خابية‏,‏ فلا ينتجون إلا بعض الدخان الأسود يلطخهم ويلطخ كل من حولهم‏.‏ كنت أشعر بعدها وفي كل مرة كما لو أنني أكبر في المقام صاعدا علي أنقاض حسرات جهلهم الكظيم‏.‏
ولو أن أحدهم تجاوز معي وقتها حدود تلك العبارات‏,‏ لتهدم معبد المعرفة الزائف علي رأسي بلا شفقة‏,‏ لكنه ذلك الخوف الكامن في دواخلنا من السؤال عما لا نعرفه خشية أن يكتشف ذلك الخواء ويفضح وجودهم عن جهل بذلوا ما في وسعهم لإخفائه عبر مدارات الصمت البائسة‏.‏
في اليوم الأول‏,‏ أجلسني الدكتور ريسان الكوفي علي مكتبي داخل إحدي تلك البنايات التابعة للجامعة الأمريكية فيما يشبه الطقس الاحتفالي‏.‏ حدد لي مهامي أثناء فترة الحصار علي نظام البعث بالبحث في تاريخ الحركة الشيوعية في العراق منذ بداياتها وحتي مآلها الماثل مثل بيت علي وشك السقوط‏.‏
هكذا بدأت تدريجيا أتعرف علي فهد‏,‏ مؤسس الحزب الشيوعي العراقي الفعلي‏,‏ ذلك القائل لحظة اعدامه الشيوعية أقوي من الموت وأعلي من أعواد المشانق‏,‏ وعزيز الحاج علي حيدر‏,‏ ذلك الذي برر حبه للحياة في كتابه ذاكرة النخيل صفحات من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي‏,‏ كمن يعتذر عن ضعف إنساني ألم به‏.‏ اعتقله صدام حسين وقيادته المركزية أواخر الستينات‏,‏ رأي أن من العبث أن يغادر العالم علي نحو درامي كما فعل أسلافه الحمقي أمثال سلام عارف‏,‏ وقد أفضي بكل ما عنده‏,‏ ثم تمت مكافأته ممثلا للعراق في مكتب اليونسكو في باريس مثل فتي طيب‏.‏ وذلك صوت السياب نفسه وإن يخن الإنسان معني أن يكون فكيف يمكن أن يكون‏.‏ أجل‏,‏ الشعارات تفقد موقع صدارتها‏.‏ وهؤلاء قوم خالهم أن العشب علي الجانب الآخر من النهر أكثر نضرة‏.‏
بعد ذلك الاستسلام الكامل‏,‏ لم يترك عزيز الحاج مناسبة تمر إلا برر موقفه‏,‏ استخدم كل معارفه‏,‏ لم يتورع حتي عن اللجوء إلي سلاح النكات‏,‏ يحكي أن شيوعيا عراقيا‏,‏ أيام المد الثوري‏,‏ ظل يمشي في شوارع بغداد‏,‏ رافعا فوق رأسه مظلة‏,‏ مع أن الجو صحو وجميل‏.‏ وحين سئل لماذا تفعل ذلك‏,‏ أجابهم قائلا‏:‏ إنها تمطر الآن في موسكو‏,‏ يا رفاق‏.‏ ذلك إذن عالم رصد حنا بطاطو تداعياته بدقة‏.‏ أما تلك التضحيات الرعناء فأحزان كثيرة لا مبرر لها‏.‏ أجل‏,‏ قررت وقتها بيني وبين نفسي أن أخلص للدكتور ريسان في عملي‏.‏ أنا سوداني وهو كندي من أصول عراقية‏.‏ فليكن إذن فيما أقوم به نفع لصانع قرار يقبع بعيدا وراء المحيط متأهبا لسحق قوم الي الشرق بيني وبينهم آلاف الأميال‏.‏
ولست أبالي طالما أن تلك الجنازة المحمولة علي أكتاف أولئك الرجال المتعبين البؤساء ليست في نهاية المطاف جنازتي‏.‏
كان ريسان قد جاء الي الجامعة الأمريكية أستاذا زائرا من احدي تلك الجامعات المرموقة في غربي كندا‏.‏
قال لي وهو يتفقد ملابسي الرثة إنه سيهبني منحة للدراسة في كندا ولو شئت أمريكا أولندن قال خذ هذا المبلغ لتعتني بهيئتك العامة أكثر‏.‏
وكدت أبكي كان ذلك أمرا يقع خارج مستوي طموحاتي السابقة تماما‏.‏
والمنفيون الغرباء في القاهرة تجذبهم أشياء صغيرة مثل رائحة شواء تتسلل من مطعم في الجوار بطن ساق أنثي يرتفع عنها حافة الفستان قليلا بينما تهم بالركوب الي متن مركبة عامة‏,‏ وهذا الرجل بدا لي منذ الوهلة الأولي كما لو أنه يضع في يدي مفاتيح الكون برمته‏.‏
لدي خطط عظيمة بشأنك‏,‏ يا حامد أنت شاب ذكي بعد سنوات‏,‏ سأدرك بشيء من المرارة أنه ظل يستخدم معي سلاحا لنعومته لم يخطر من قبل علي ذهني مطلقا‏:‏ سيف الوعد الباتر‏.‏
كان علي أن أطرق فترة شائكة من تاريخ الحركة اليسارية في العراق أيام عبد الكريم قاسم فترة حبلي بآمال تمخضت عن أحداث جسام وغير متوقعة‏.‏
ما ان فتحت باب مكتبي الفخم في ذلك الصباح حتي زكمت أنفي رائحة قوية كادت تصيبني بإغماءة‏.‏ كانت أشبه برائحة جثة تركت في العراء ذات صيف حارق لمدي يومين أويزيد فجأة ندت عني ضحكة صاخبة مجلجلة أجل أعرف تلك الجثة جيدا‏.‏
أكاد ألمح الدود وهو يصدر صليلا هائلا بينما يتوالد من امعائها في جلبة كونية مروعة‏.‏
إنها جثة فقري‏,‏ فاقتي‏,‏ وسعيي لاهثا منذ أن تفتحت عيناي علي الحياة وراء ضرورات العيش وأبجدياته‏.‏
وليس علي بعد كل هذا أن أمسح مرة أخري تلك الشوارع الجانبية بناظري بحثا عن أعقاب سجائر لا أدري أي فم مريض أو معافي لفظ بها هنا أو هناك‏.‏
أجل كانت لدي أحلام كثيرة مؤجلة لضيق ذات اليد نفسه‏.‏ لقد حلمت طويلا أن أجلس الي دجاجة مشوية لايشاركني فيها أحد‏.‏
أجلس إليها لحظة خصوصية‏.‏
أمرر يدي علي ساقيها المشرعتين‏.‏ أدغدغ صدرها قليلا أضع أصابعي علي بطنها كما يفعل العاشقون فترتجف أنثاهم علي بوابة اللقاء ذائبة من نشوة أجردها من زيها المدهون ببطء لكن الحلم حين صارت الدجاجات يحضرن الي شقتي تباعا بدا أكثر جمالا وجاذبية من درجات تحققه‏.‏ كان لابد لي اذن قبل أن أتتطلع الي الأمام أن أقتل فقري العتيق بشوق بارد ورباطة جأش أو اري جثته في متع الحياة الكثيرة‏,‏ ثم أقف علي قبره الحجري المصمت قائلا لست نادما‏,‏ يا غريم سنوات العمر الماضية‏,‏ لقد قاتلت ضدي ببسالة فائقة‏,‏ وبروح فارس مغوار‏,‏ لم أهزم واليأس قط لم يتسلل الي عزيمتي ورغبتي لا نهائية في تدميرك وسحقك ثم سحلك عبر شوارع النعمة الواعدة بلا هوادة‏,‏ نم في قبرك الجحيمي الآن كما يحلو لك النوم‏,‏ لكنني لن أسمح ببعثك مرة أخري‏,‏ البتة‏.‏
هكذا غادرت تلك الشقة الأرضية الضيقة في حي عين شمس الشرقية‏.‏
لم أحمل معي من هناك سوي دفتر يومياتي والكتب وأشياء أشبه بقطع تذكارية كملامح وجه بطاطس المكتنز‏.‏
حتي مشاعر الغل الكظيمة التي ظللت أحملها في داخلي لسنوات تجاه الحاج إبراهيم العربي مالك العقار بدا وكأنها مياه صرف صحي تسربت من احدي المواسير فجاء عليها نهار قائظ وتبخرت‏.‏
كنت قد حفرت في داخلي قبرا جماعيا هائلا خلال ماتبقي لي من أيام قليلة داخل تلك الشقة‏.‏
وضعت فيه بلا ترتيب أشياء كثيرة‏:‏ طيبتي لاءات الحاج إبراهيم العربي الثلاث‏,‏ مبادئي العليا‏,‏ بقايا تأنيب ضمير حاد‏,‏ رسائل من زمن له وجه عانس نقية الدواخل‏,‏ وجبات طعام رخيص‏,‏ وكل مايمكن أن يجذبني نحو مواقع الضحايا في هذا العالم‏.‏ لم يطرف لي جفن أثناء المجزرة‏.‏
والخبرة أخذت تعلمني شيئا بعد شيء أن الحديث عن الفقراء من علي المنابر يجلب للعقل كما للبطن متعا عديدة‏.‏
كيف لا وأنا أنتمي الي هذه الصفوة العريقة نفسها‏.‏ عنيف في أقوالي ومسالم في أفعالي‏.‏ هكذا هكذا هكذا‏,‏ بدا التراب يتساقط فوق أعينهم الشاخصة‏,‏ داخل أفواههم الفاغرة‏,‏ وعلي جلودهم المتيبسة‏,‏ مثل ستار كثيف من النسيان أو العدم‏,‏ ولا حنين‏.‏
في نهاية المطاف‏,‏ جلست ألتقط أنفاسي‏,‏ أجفف قطرات العرق وخيوطه المتسخة تنحدر من أعلي جبيني قبل أن اضع شاهدا حجريا علي رأس ذلك القبر‏.‏
شاهد نقشت عليه بروية تامة هذه العبارة الأكثر شاعرية من نوعها في العالم قاطبة هنا المقر الأبدي الدائم للملعونة سيئة الذكر المرحومة أحزان لا مبرر لها‏.‏
كنت قد بدأت العمل مع مها الخاتم داخل خلية واحدة قوامها ستة أشخاص خمسة رجال وأنثي واحدة بدا لي في كثير من الأحيان أنها تسلك خلال مجريات تلك الاجتماعات مثلما تسلك بعض الأرواح الجريحة تثور بغتة لأدني بادرة قد يفهم منها بأقل الدرجات أنها تسعي نحو المساس بكرامتها‏.‏
لاجال البتة لنوايا حسنة في عالم شديد القسوة‏,‏ وقد منحتها تلك المأساة قرون استشعار دقيقة تلتقط أدني همس من علي بعد آلاف الأميال‏,‏ في مثل تلك الحال‏,‏ كنت أقدم لها بدهاء شيطان الشيء الوحيد الذي أخذ يتسرب منها في عالم اولئك المنفيين الغرباء مثلما يتسرب سطل الماء المسكوب عبر غربال واسعة احزامه الاحترام‏.‏
علي جرعات متزايدة‏,‏ ولكن ببطء وحرص بالغين‏,‏ بدأت انسج سلاسل ثقة لا مرئية علي امتداد تلك المسافة الفاصلة بيني وبينها‏,‏ وقد رسخ في وعيها مع طول بقائنا معا داخل تلك الخلية او رؤية القلاع الآدمية من الداخل ليست كما تبدو لنا علي الدوام من الخارج‏,‏ الوغد‏,‏ عادل سحلب‏,‏ فكرت أنه ولا ريب قد سبقني لعزف هذه المقطوعة الغنائية بأصابع كادر خطابي متمرس‏,‏ حيث أخذ يعمل مثل فأر قارض علي اجتثاث جذور نشأتها التقليدية المتخفية مثل غيرها وراء حجاب خادع مما يدعونه حرية المرأة وثوريتها لقد كانت مبهورة وقتها وهي تتجول معه داخل قلعته بجاذبية ديكورات عصرية علي جدران عتيقة ايلة للسقوط في أية لحظة‏.‏
كانت اجتماعات الخلية لمبررات أمنية تجري بالتناوب داخل ثلاث شقق مختلفة من ضاحية مدينة نصر لم يكن من بينها شقتي ذات الغرفتين الواقعة في الطابق العاشر من عمارة سكنية جميلة تطل علي تقاطع شارعي مصطفي النحاس وعباس العقاد وتقع علي مرمي حجر من بنزينة كالتكس ومطاعم فخمة ومحلات تجارية اخري عديدة مترعة بأسباب البقاء في هذا العالم‏.‏
كنت قد قررت أن ابني حول نفسي حائط صد لا يتسلل اليه ذلك القطيع من بين اولئك المنفيين الغرباء وقد ساقته الحيرة في أنصاف الليالي بمعدة خاوية ورأس ناقل للأحزان الصغيرة في عالم لا يحدث فيه عادة شيء ذو بال‏,‏ كان نجاحي المادي بمثابة مبعث هموم جديدة مختلفة تماما‏,‏ لقد خشيت ان يبدو ذلك النجاح الماثل مثل طفرة وراثية في نظر هؤلاء بمثابة مرآة مصقولة لا تذكرهم في كل مرة سوي بفشلهم وعجزهم وضياعهم المزمن في مدينة كبيرة مثل القاهرة فيسعون جاهدين لرشقها ولتشيمها إلي شظايا صغيرة ليعود اليهم في نهاية المطاف تفوقهم الوهمي وزيف الصور السعيدة المتكونة في مخيلتهم عن انفسهم ومعني الحياة التي يعيشونها‏,‏ ففي عالم المنفيين الغرباء توجد حجارة حادة كثيرة ومتنوعة‏:‏ امنجي‏,‏ عاهرة‏,‏ مثلي‏,‏ سحاقية‏,‏ برجوازي متعفن‏,‏ اصولي متسلق‏,‏ انقسامي‏,‏ والقائمة تطول‏,‏ أجل كان مجتمع المنفيين الغرباء مع تقادم عهده بالقاهرة في حاجة دائمة إلي تقديم اضحية من حين لآخر‏,‏ تذبح علي أقدام معبودات الملل‏,‏ تقدم لحومها علي آنية اليأس الخالية ويشرب من دمائها لتهدئة عنف داخلي موار ظل حبيسا لفترة طويلة داخل قواقعه ربما لقلة الحيلة ولربما لضعف الخيال وقد بدا الا سبيل إلي توجيهه صوب اهدافه المحددة في الخارج بوضوح لولا العماء‏.‏
قلت لمها الخاتم مدير التليفزيون لا يصنع من شقيقه مطربا فالفن لا تحمله إلي قلوب الناس سلطة‏,‏ الفن يحمل سلطته داخله‏,‏ حين يفعل يكون بحاجة إلي فن آخر ليزيحه‏,‏ لكل مرحلة قضاياها وتساؤلاتها‏,‏ نظرت إلي كعادتها بدهشة وحيرة‏,‏ كانت تشكو قبلها من معاملة متدنية من رفيق يدعي جيفارا شقيق أحد القادة الكبار‏,‏ كان قد ظفر ببعثة دراسية إلي المجر قبل ثلاثة عقود او يزيد‏,‏ ظل يملأ مخيلة اولئك المنفيين الغرباء علي هامش تلك الأحداث السياسية الفاترة مثل ضرطة اصدرها جسد واهن بقصص بدت لهم في واقع عمادة الحرمان مستقاة من كتاب ألف ليلة وليلة كما لو أنه يقوم بحملة منظمة بدهاء للتنفيث‏,‏ فتيات المجر حين يقبل الصيف يمشين بصدور تحدث اصواتا وراء بلوزاتهن الشفافة جبغ جبغ جبغ كانوا يقومون في بودابيست بتوزيع البيرة من خلال حاويات كبيرة تجوب الشوارع خلال أيام الصيف الحارقة‏.‏
كان من الصعوبة العثور علي نبع المتعة خلف شعر أسفل البطن الناعم الطويل‏,‏ كان لابد أن تملأ فمك بالهواء وتنفخ كيما تعثر علي الطريق إلي ما لم تسمع اذن ولا رأت عين ولا خطر من قبل علي قلب بشر‏,‏ ومدير التليفزيون لا يصنع من شقيقه مطربا‏,‏ اجل كنت أجيبها في العادة بعبارات رنانة عامة متجنبا الوقوع بذلك في مستنقع القاموس المدقع لأحاديث المنفيين الغرباء ما أمكن‏,‏ كنت أرغب فيها واخاف بأسها في آن‏,‏ الارواح الجريحة لها أحيانا رغبة مدمرة في إلحاق الأذي بالعالم من حولها‏,‏ كنا نتبادل هذا الحديث داخل مركبة عامة صغيرة في طريقنا إلي أتيليه القاهرة في شارع كريم الدولة لمشاهدة معرض تشكيلي كان قد اقامه فنان مصري شاب لا اتذكر اسمه الآن وقد جذبنا عنوانه ذو الطبيعة الشاعرية الحالمة الأحباء عبر العصور‏.‏
آنذاك كنا بمثابة زوجين يمارسان الغرام بصورة محمومة لا تكاد تتوقف ويلتقيان داخل الاجتماع الحزبي مثل غريبين تنهض بينهما آلاف الحوائط اللامرئية‏,‏ سلفادور دالي وجالا‏,‏ روميو وجوليت‏,‏ رمسيس الثاني ونيفرتاري‏,‏ قيس وليلي‏,‏ سارتر وسيمون‏,‏ أحمد رامي وأم كلثوم‏,‏ جميل وبثينة‏,‏ عنتر وعبلة‏,‏ عايدة ورادميس‏.‏ كانت خامات المعرض زيتا علي توال وزيتا علي خشب‏.‏ كان اللون الأزرق يسيطر علي أغلب المساحات سواء علي مستوي الخلفية أو التفاصيل الداخلية للوحات‏.‏ ربما لأن اللون الأزرق بدرجاته المختلفة يضفي لمسة عالية من شفافية ورومانسية علي نحو يناسب قصة حب ولا أروع‏.‏
القبور ثاوية في داخلي‏.‏ وثمة خيال أسود لا يتسرب إليه يأس ظل ينهمر من بين شواهدها مواصلا نسج تلك الشراك لأنثي جربت شراك الخديعة ولم تفق من آثار توابعها بعد‏.‏ إن الأكثر رعبا من الزلزال توابعه‏.‏ وذلك أمر عايشته من قبل في القاهرة‏.‏ كما لو أن شيئا عظيما مثل الأرض مال فجأة قبل أن يعود علي دفعات متتالية أو متباعدة إلي سيرته الأولي‏.‏ وما حدث لها لم يكن مجرد كبوة‏.‏ كان شرخا هائلا في جدار الروح لا سبيل إلي رأبه إلا بمعجزة‏.‏ والانثي شرسة لحظة أن تصيبها الطعنة في مقتل‏.‏ لم يكن أمامي إذن من سبيل للوصول إليها‏,‏ سوي تمثيل دور الضحية‏.‏ ذلك أن الجراح منذ قديم الأزل روابط وشيجة بين الجرحي
هاتفتني في أحد أيام الخميس قائلة إنها تقيم غدا في شقتها حفل شاي بعيدا عن أجواء تلك الاجتماعات الكئيبة للمزيد من التفاهم بين أعضاء تلك الخلية‏.‏ كنت مترقبا لمثل تلك اللحظة‏.‏ وقد بدا كل شيء منذ مدة معدا ورهن العمل به عند أدني بادرة‏.‏ اعتذرت لها بكلمات مقتضبة‏.‏ كان الصمت محورا أساسيا والغموض يغري بمحاولة الإكتشاف‏.‏ جاءني صوتها أخيرا متلبسا بشيء من الحيرة لماذا‏.‏ قلت بنبرة حزن أدهشني صدقها إن علي أن أزور المقابر في ذلك اليوم‏.‏ قالت لم أفهم‏.‏ كما لو أنني أتلو علي مسامعها شيئا من كتاب الأسرار‏.‏ وأخبرتها‏.‏ أجل‏,‏ ثمة موتي قمت بدفنهم تباعا بيدي هاتين وعلي أن أصب لعناتي عليهم في مثل هذا اليوم من كل أسبوع‏.‏ شرعت تضحك بغتة لو لا أنني بكيت عبر الهاتف بحرقة‏.‏
بعد مرور أشهر من استقراري داخل تلك الوظيفة‏,‏ شرعت أتجرع في السر شيئا من قارورة ظللت أجلبها من إحدي شقق العرقي علي أطراف مدينة نصر كيما تخف وطأة الأشياء علي عتبات روحي‏,‏ وحين رن جرس هاتفي المحمول في حوالي العاشرة من ذلك الصباح‏,‏ كنت لا أزال منهمكا في مكتبي بالجامعة الأمريكية أتابع مسار بحث حول انشقاق الحزب الشيوعي العراقي إلي جناحي القيادة المركزية واللجنة المركزية‏.‏ أذكر أن عصفور الفرح أخذ يدق بمنقاره داخل صدري بشدة‏.‏ كانت مها الخاتم علي الجانب الآخر تطلب مقابلتي في مسألة خاصة‏,‏ قلت في سري وهي لاتزال علي الخط لعل بذرة الفضول التي رميتها قبل أيام علي تربة بستانها قد نمت الآن‏.‏ ولم يخب حدسي‏.‏ رجوت منها أن تحضر إلي مكتبي‏.‏ قالت هل تمزح؟‏.‏
عندها فقط أدركت أنه لم يسبق لي وأن أخبرت أحدا من بين أولئك المنفيين الغرباء طبيعة عملي ومكانه‏.‏
آنذاك وقد أوضحت لها كل شيء بعجالة ودقة طلبت منها ألا تخبر أحدا من بين أولئك القوم بوظيفتي‏.‏
كنت بذلك أضع أولي تلك اللبنات في هيكل الأسرار الأبدي بيني وبينها‏.‏ أذكر أنها أبدت دهشة أخري سرعان ما دفعتني إلي القول بنبرة من تواضع أدركت لحظتها أنه سيلامس جراحها الخفية بشيء من الرأفة إنني فقط أحمي نفسي في عالم محاط بالفشل‏,‏ يا مها‏.‏ ودهشت بدوري لحظة أن فطنت فجأة إلي أنني أواصل الحديث إليها بلغة عربية فصحي‏.‏ اعتذرت لها موضحا علي الفور أنني خرجت للتو من سياق بحث شائك‏.‏ ثم أطلقت ضحكة قصيرة لم تكن مثل ضحكاتها في الفترة الأخيرة‏.‏ ضحكة ذكرتني برؤيتها لأول مرة وهي تدلف عبر بوابة مكتب الأمم المتحدة بكل ذلك البهاء الكوني المطلق‏.‏ قالت فور وصولها إنها لم تكف من يومها عن التفكير في مغزي زيارتي للمقابر نهار كل جمعة‏.‏ كان علي أن أبذل جهدا واضحا لتوضيح الوجود المجازي لتلك المقابر‏.‏ فالمنفي‏,‏ يا مها‏,‏ مثل حيوان خرافي لا مرئي يكبر كلما طال أمده وتكبر معه حاجته التي لا تنتهي من أجساد المنفيين الغرباء وأرواحهم‏.‏ إنه يحصد أجمل ما فيهم‏.‏ ولا يتركهم في نهاية المطاف سوي جثث تسعي هائمة علي قدمين‏.‏ المنفي سرطان الحواس‏..‏ يبدأ بالعين وينتهي بحاسة اللمس‏.‏ فإذا العالم يخف حتي يبدو وكأن لا وجود له‏.‏ عندها تغيب الفواصل‏,‏ تتداخل الحدود يختل سلم الاولويات‏,‏ وتندثر القضايا الكبري تحت ركام كثيف من الحروبات الداخلية الصغيرة‏.‏
المنفي حين يطول أمد بقائه يتحول تدريجيا إلي مسرح تنسج حكاياته أيدي أرباب النميمة البارعة‏:‏ السلطة المخولة ضمنيا لقتل الأذكياء وصناعة أبطال من ورق يخالها الساذج جميلة حين تطل من خيلائها من علي عرش الفراغ المكتظ بروائح المقاهي ومجالس الحجرات المؤجرة كمصانع خفية لالحاق الأذي بمن لا يزالون يمتلكون عقولا حية وسط سهول ذلك الموات المتراكي كألاسي‏.‏ أعجبها حديثي‏.‏ وقد بدا كما لو أنها شرعت لفورها تستعير طريقتي في حفر القبور ودفن الموتي‏.‏ لعل من بينهم ولا مراء ذلك المدعو عادل سحلب‏.‏ ثم بدأ الصمت يخيم داخل المكتب‏.‏ لعلها كانت هائمة في أوليات دفن تلك الجثث الغارقة في قعر أحزانها الخفية‏.‏ وثمة شيء بخالجني‏,‏ شيء أشبه بشعور صياد‏,‏ جلس علي حافة شاطئ نهر معتكر‏.‏
رمي بسنارته بمهارة ودراية‏,‏ فإذا بالخيط يهتز فجأة‏.‏ أجل‏.‏ الضحية في طريقها الآن لابتلاع الطعم‏,‏ لا محالة‏,‏ هكذا باكرا‏,‏ اخذت تتراجع من ذهنها قضايا الحرية‏,‏ والهوية وتحرر المرأة والتنمية والمتوازنة والمساواة والحرب والسلام‏,‏ ولم يعد يشغلها في هذه اللحظة سوي أحد اسراري الصغيرة‏:‏ طريقة حفر القبور ودفن الجثث المترسبة داخل تلك الأعماق السحيقة ولم تكن تدرك وقتها انها بتلك الزيارة‏,‏ وهذا العالم وا أسفاه غابة مليئة بالثعالب‏,‏ كانت ترتقي سلمة أخري نحو نقطة انتحارها المأساوي من أعلي تلك العمارة السكنية الضخمة‏.‏
في حوالي الواحدة والنصف بعد منتصف ذلك النهار‏,‏ طرقت باب مكتبي الموارب‏,‏ للمكان تأثيره علي مشاعر الناس وأفكارهم‏,‏ ولعل الوضع يختلف إذا جاءت لزيارتي قبل أشهر في تلك الشقة الأرضية الضيقة كقبر‏,‏ كنت قد آثرت السكني في أحد تلك الادوار العليا‏,‏ كان بوسعي ان أري من كل ذلك البعد العلو المهيب لكتلة جبل المقطم وهي تشرئب وسط المساكن الآدمية المتناثرة اسفل قدميها الجيريتين لقد مر من هنا ولا ريب‏,‏ فراعنة‏,‏ انبياء‏,‏ صحابة‏,‏ فاطميون‏,‏ اتراك‏,‏ مماليك‏,‏ جيوش نابليون‏,‏ انجليز وغيرهم الكثير‏,‏ لكن تلك الكتلة التي يدعونها جبل المقطم لاتزال قائمة كشاهد علي سير القوافل البشرية عبر التاريخ‏,‏ لعل صمتها المطبق عما رأت وسمعت هو ما ظل يكفل لها الحق في البقاء حتي الآن‏,‏ هناك بين جدران تلك الشقة الأرضية الضيقة كقبر‏,‏ أنفقت حياتي سجينا لتلك الهموم اليومية الصغيرة‏,‏ لا أنظر عادة إلي أعلي مما اضع عليه اقدامي‏,‏ اقل همسة تزعجني‏,‏ أدني إيماءة من عابر سبيل تثير الهواجس في نفسي‏,‏ كنت في سبيلي لوضع نهاية مأساوية لحياتي‏,‏ لو لا الكتب‏,‏ عادة دفن الموتي وزيارتهم من حين لحين‏.‏
كانت تجلس قبالتي‏,‏ بمحاذاة الجانب الآخر من المكتب الخشبي المصقول‏,‏ وقد انتعشت قليلا بهواء المكيف البارد وبروعة اكاذيبي كثيرا ولا شك‏,‏ وقد بدا علي صفحة وجهها اثار بثور سوداء متفرقة هنا وهناك‏.,‏ لا بد أن جدار روحها قد اخذ يتآكل في غضون تلك السنوات قليلة‏,‏ هي إذن التجربة‏,‏ اللعنة‏,‏ مقياس انسانيتنا‏,‏ وترمومتر ضعفنا البشري العظيم‏,‏ البعض يخرج منها قويا مثل طائر الفينيق يهب من رماد حرائقه‏,‏ والبعض الآخر يخرج منها قنطرة لا تغري سوي وقع الأحذية ووطأة الأجساد الثقيلة بالمزيد من الدروس‏,‏ لكن جسدها بدا ممتلئا قليلا‏.‏ جسد يشع منه نداء غامض‏,‏ نداء رغبة من عرف وخوف من لا يزال يدفع ثمن رغبة لا ثمن لها سوي العار او الضياع‏,‏ لقد بدا لي في احيان كثيرة ان ثمة علاقة عكسية بين الروح والجسد‏,‏ كلما زاد وهج الروح زادت عتمة الجسد‏.‏ كنت أتابع حياكة الشراك في حضورها هذه المرة‏,‏ راسما علامات الحزن والأسي والحسرة علي رحيل عشق وهمي ضيعه موت مختلق‏,‏ كان دمع الحنين إلي التوغل داخل بستانها يسعفني اختلاج جسدي ذعرا من فكرة السقوط في براثن الفقر في مدينة كبيرة مثل القاهرة مرة أخري يضفي علي نبرتي مسحة صدق‏,‏ والمصائب يجمعن المصابين‏.‏
اثناء حديثي‏,‏ لاحظت انها اخذت تتوغل بعيدا داخل عيني‏,‏ لا يكاد يطرف لها جفن‏,‏ لا عن حياء غادرها‏,‏ بل كذلك عن محاولات خفية للبحث بين مكنوناتي القصية عن نثار ما قد يشبه نثار حكاياتها القديمة مع عادل سحلب‏,‏ وهذا ما قدرته في سري‏,‏ ولكنني مع مرور الوقت وأنا اري دمعة تعاطف عميق مع مأساتي تسيل فجأة من عينها اليسري ادركت ان الضحية لا محالة واقعة‏,‏ آنذاك وقد ألمتها حالي‏,‏ طلبت مني أن نكون علي تواصل أكثر في الأيام القادمة‏,‏ وقد كان‏.‏
‏*‏ كاتب سوادني‏:‏ تخرج في جامعة الزقازيق‏,‏ ويعيش بين كندا واستراليا ومصر‏,‏ وصدرت له مجموعات قصصية منها تداعيات البلاد العربية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.