عندما هبت نسائم الربيع العربي علي مصر والمنطقة وأعلنت بداية التغيير كان مفهوم العدالة الاجتماعية حاضرا بكل قوة بل كان المطلب الرئيسي لملايين المتظاهرين الذين خرجوا احتجاجا علي مظالم اجتماعية واقتصادية عمقت الفجوة بين الاغنياء والفقراء. فهل تحقق زيادة الأجور في بلد كمصر حلا لإشكالية العدالة الاجتماعية ام يتعين علي اي حكومة انقاذ وطني البحث عن خيارات وبدائل اخري تتجنب شراء ود ورضا الشارع الغاضب ثم لايلبث الوضع ان يعود للانفجار مجددا؟؟ وتتسم قضية الأجور في مصر بمشكلة مزدوجة تتمثل في انها بالاساس متدنية وبأنها ايضا متفاوتة بدرجة صارخة تتسبب في تمايز لافت يتبعه احتقان اجتماعي وسياسي وصل بالفعل إلي حد الانفجار. وإذا كانت المظالم من هذا النوع لافتة في القطاع الخاص لكونها تخضع نظريا لاعتبارات كثيرة مثل الكفاءة والمنافسة والملكية الخاصة فان الأمر في اي قطاع حكومي يفترض ان يخضع لمعايير واضحة تطبق علي الجميع ولايكون تفاوت الأجور بالقدر الذي وصل إلي حد الانفجار في مصر وتونس علي سبيل المثال. لقد وصل تفاوت الأجور في بلد كمصر مثلا خلال السنوات الثلاثين الماضية إلي حد الفضيحة التي اعتبرها البعض مدبرة وتهدف إلي افقار متعمد لطبقات بعينها لصالح طبقات أخري. وقد بدا الأمر وكأنه صناعة بشرية متعمدة نجمت في كثير من الاحيان عن فشل سياسات التنمية خلال السنوات الثلاثين الماضية والتي ادت في النهاية إلي نتائج كارثية فاقمت معاناة الفقراء. هذا الأمر احدث بالفعل شروخا في مكونات الطبقة الوسطي التي عادة ماتقود التغيير في المجتمع لكن الرياح جاءت بما لاتشتهي الحكومات فانقلب السحر علي الساحر وانفجر بركان الغضب بعد ان فاق قدرة قوي الظلم والفساد والاستبداد علي السيطرة. وهناك عدة أوجه للفقر لعل ابرزها عدم كفاية الدخل وتفاوت مستوي الاجور إلي الدرجة التي ترسخ الظلم الاجتماعي. في هذا السياق كشفت تداعيات الثورة في مصر عن جانب مما كان يتقاضاه كبار المسئولين علي شكل رواتب ومزايا تجاوزت قدرة البعض علي التخيل. اما المستشارون ومن يعينون بعد بلوغ سن الاحالة للمعاش ويتقاضون رواتب فلكية فيمثلا فضيحة اخري كشف عنها مؤخرا حيث ملايين الجنيهات تذهب لاشخاص بلا عمل بينما الغالبية العظمي تتقاضي بضع مئات من الجنيهات لاتكفي اي اسرة عادية بضعة ايام من الشهر. وتعد مصر واحدة من الدول العربية الأكثر معاناة من الفقر حيث تشير تقديرات المجالس القومية المتخصصة إلي ان46% من المصريين خاصة النساء والأطفال لايحصلون علي الطعام الكافي ويعانون سوء التغذية. حلول مقترحة: وتدور الحلول المقترحة حول وضع حد ادني للأجور وهو ما اقره القضاء أخيرا وحدده ب1200 جنيه شهريا, في مقابل ذلك يجب في الوقت نفسه وضع حد اقصي للأجور وانهاء حالة الانفلات في أجور بعض المسئولين ورؤساء القطاعات والمستشارين ووضع ضوابط للتعيين علي ما يسمي الكوادر والدرجات الخاصة. ويمكن توجيه جزء من مخصصات الدعم للشريحة الأكثر فقرا لضمان وصول الدعم لمستحقيه بدلا من دعم السلع والخدمات بصفة عامة فيستفيد منه الغني والفقير بنفس الدرجة رغم تفاوت الدخل بينهما. ويدعو الخبراء إلي حلول اقتصادية اخري من قبيل وضع ضوابط لعمل البورصة حتي لايقتصر نشاطها علي المقامرات, كما يطالب اخرون بفرض ضريبة علي تلك الانشطة لتصب في صالح الميزانية العامة للدولة وتمويل الزيادة المطلوبة في الأجور. لهذا بات ضروريا الاعتماد علي زيادة الانتاج بشكل اساسي من أجل زيادة حقيقية في الأجور وعدم الاستجابة بدون ضوابط للمطالب الفئوية رغم انها تعبر عن مظالم حقيقية في كثير من الاحيان. مخاوف وهنا يتعاظم الخوف من التضخم في حالة رضوخ الحكومات وتحركها لشراء ود ورضا مواطنيها فتزيد من الأجور بغض النظر عن الانتاج وهو الأمر الذي يسبب التضخم وزيادة الاسعار وتراجع القدرة الشرائية للعملة الوطنية. وفي مصر علي سبيل المثال من المنتظر ان تبلغ التكلفة المبدئية لزيادة قدرها59% للحد الادني لاجور موظفي الحكومة1.5 مليار دولار وهو مبلغ ليس بمقدور الحكومة ان تتحمله بينما تعاني عجزا في الميزانية يعادل نحو10% من الناتج الاقتصادي. لهذا يتعين علي الحكومات البحث عن وسائل اخري لتحقيق مفهوم العدالة الذي رفعته ثورات الربيع العربي لاتكون فيها زيادة الأجور هي الحل الوحيد, فيمكن مثلا تعديل النظام الضريبي للتخفيف عن كاهل محدودي الدخل وإعادة النظر في نظام الدعم ليصل إلي مستحقيه من الفقراء وأصحاب الأجور المتدنية ومن ثم تتم زيادة دخل الفرد دون ضخ اموال بصفة مباشرة إلي جيبه, كما يمكن ترشيد وتوجيه الانفاق علي الخدمات الاجتماعية التي يستفيد منها صاحب الأجر المحدود بشكل مباشر ايضا. اذن تبدو الأجور في مصر قضية محفوفة بالمخاطر قبل الثورة وبعدها, وكما ادي تراجع الأجور وسحق حقوق العمال إلي انفجار ثورات الربيع العربي, فان التحرك لتصحيح المسار يبدو صعبا ومحفوفا بمخاطر التضخم, وقد يقبل الشارع بعض المسكنات في البداية لكنه قد يعود للانفجار مجددا مالم تكن الحلول واقعية ومستندة إلي زيادة حقيقية في الانتاج مع اعتماد آليات وخيارات اخري تخفف معاناة محدودي الدخل ليس النقد هو سبيلها الوحيد.