لم تأت المظاهرات التي خرجت في شوارع القاهرة والتي ضمت أعدادا كبيرة من العاملين بالدولة وأعضاء النقابات المهنية والموظفين بقطاع الأعمال العام من فراغ ولكن للمعاناة التي عاناها هؤلاء العالمون علي مدي عقود طويلة في صراعهم الدائم مع غلاء الأسعار وارتفاع معدلات التضخم وتأثيره السلبي علي رواتب هؤلاء العاملين لاسيما أن الحكومات السابقة أهملت هذا الجانب وهو الربط مابين الأجور والأسعار واتجهت إلي دراسات شكلية لتطوير الاقتصاد المصري لم تحقق شيئا في الوقت الذي كانت هناك دراسات اقتصادية فعالة لإصلاح هيكل الأجور المصري المهلهل وربطه بالأسعار إلا أنه لم يؤخذ بها ولم تعرها أي حكومة سابقة أي اهتمام. في البداية تقول الدكتورة أماني مصطفي أستاذة ادارة الخطر والتأمين بكلية التجارة جامعة المنصورة: ان مصر أتجهت منذ الربع الأخير من القرن العشرين إلي تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي وتثبيت العمالة والتكييف الهيكلي للأجور بمعرفة فرق بحثية مستندة إلي المنظمات الدولية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي وعدد من البنوك العالمية والإقليمية والمحلية وغيرها في الوقت الذي كانت فيه المشاركة المحلية محدودة من قبل العاملين والباحثين المصريين مما أدي إلي فشل تطبيق برامج الإصلاح وقد وضح ذلك جليا في تقلص برامج الدعم التي كانت تقدمها الدولة سواء كان دعما مباشرا أو غير مباشر وقد صاحب ذلك انخفاض في الأنفاق الحكومي علي الخدمات الاجتماعية الأساسية كالصحة والتعليم والمرافق العامة ومحاولات مايسمي استردادا بسعر التكلفة. وأضافت أن عملية التسعير في ظل هذه البرامج الفاشلة كانت تأتي مصحوبة بارتفاعات في الأسعار العالمية في حين أن دخول معظم الأفراد خاصة الموظفين ظلت ثابتة أو تشهد معدلات ارتفاع طفيفة لاتتناسب مع الزيادة في أسعار السلع والخدمات. وقالت الدكتورة أماني إن مصر خلال هذه الفترة لم تكن تعرف طريقا لإصلاح القطاع العام سوي التخلص منه بالبيع فيما يسمي بالخصخصة مما أوجد حالة من الاحتكار من جانب القطاع الخاص فضلا عن تراجع دور قطاع التصنيع في التاريخ المحلي لحساب زيادة إسهام قطاعي التجارة والخدمات وبصفة خاصة الحضارية التي شملت العقارات والبورصة والعملات الأجنبية. وأضافت أنه من الأسباب المهمة لوجود خلل في تركيبة الدخل القومي والفجوة بينه وبين ارتفاعات الأسعار عالميا ومحليا أن البنية الاقتصادية لمصر تعتمد علي مصدر أساسي واحد للإيرادات من العملة الأجنبية وهو السياحة وهي دائما ما يتأثر وضعها الاقتصادي إلي حد كبير بعدم الاستقرار السياسي في المنطقة وقد ساعد هذا الأمر علي تراجع قيمة العملة المحلية وبدوره أدي إلي استمرار ظاهرة ارتفاع الأسعار حيث ارتفع معدل التضخم من4,2% في ميزانية عام2006/2005 إلي11% في ميزانية عام2007/2006 وذلك وفقا للتقرير الحالي الشهري عن يناير2008 الصادر عن وزارة المالية وقد شهدت تلك النسب في السنوات التالية زيادة مستمرة وذلك بسبب تخلي الدولة عن دورها التقليدي في دعم الشرائح السكانية الفقيرة ممن يعانون من رباعي التخلف الفقر والمرض والجهل والبطالة واتجهت التفاوتات الطبقية والفوارق في توزيع الدخل والثروة علي الشرائح السكانية وفيما بين الريف والحضر إلي الاتساع مما أدي إلي ازدياد نسبة الفقر خاصة في الريف المصري. هياكل أجور سيئة ويقول الدكتور عبد الرحمن العليان أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس إن هيكل الأجور المصري ليس له مثيل في السوء علي مستوي العالم لأن أبسط قواعد العدالة الاجتماعية تقتضي أن يكون هيكل الأجور مرتبطا بمستوي الأسعار ومعدلات الارتفاع المستمرة فيها والتي تمثل معدلات التضخم خاصة وأن جدول المرتبات في مصر ثابت منذ أكثر من50 سنة ولم يطرأ عليه أي تغير أو تطور أما التغيير غير الفعال والذي يتمثل في العلاوات الدورية والاضافية فليست له قيمة لأنه لايرقي لكي يكون معادلا بين الأجور وارتفاع الأسعار ولكي نعمل علي إصلاح البنية الاقتصادية لمصر لابد أن نربط معدلات الأجر بالأسعار في ظل عدالة توزيع عوائد التنمية بين رأس المال والعمل والجهد المبذول. وأضاف عليان أن الوضع في مصر عادة مايستأثر بالجانب الأعظم من عائد التنمية لحساب أصحاب رأس المال والإدارة ويجحف نصيب العمال وهذا يتمثل في التفاوت الكبير في المرتبات بين العاملين في المؤسسة أو الشركة أو قطاعات الحكومة من جانب والرؤساء والقيادات من جانب آخر ولكن إذا وزعنا عائد التنمية بين3 فئات هم رأس المال والإدارة والعاملين بشكل فيه عدالة يترتب علي ذلك إحداث نوع من التوازن بين الأجور والأسعار ومعدلات التضخم في المجتمع, مشيرا إلي أن الفترة الزمنية التي يترتب عليها تفعيل ذلك قد لاتتجاوز عاما لو كانت هناك رغبة جدية في اصلاح الاقتصاد المصري وإرادة قوية لتطويره, خاصة وأن هياكل الأجور في مصر قامت علي اقتصاد حكومي تمثيل القطاع الخاص فيه كان ضعيفا ولذلك فمن المفترض تطوير جدول الأجور وفق الوضع الاقتصادي الحالي والذي يشارك فيه القطاع الخاص بنسبة كبيرة وتحديد صيغة للعمل وفئته والقيمة الايجارية له ومعدل العدالة لتوزيع الأجر فيه بالتماثل في أي مكان يؤدي فيه ذات العمل والتوازن بينه وبين فئات العمل الأعلي بحيث يكون هناك حد أدني للأجور يتناسب مع مقتضيات المعيشة وحد أقصي للأجور يتناسب مع قيمة العمل نفسه ويمكن أن نلخص هذه النقاط في ثلاثة جداول, الأول لتحقيق العدالة والثاني يتمثل في الشفافية في تحقيق ذلك والثالث في تحديد صيغة لكل عمل. وأضاف عليان أن هناك مشكلة أخري تتمثل فيما يسمي بالكادر الخاص وهذا النظام الحالي في تحديد أجر العمل يتم تطبيقه في مصر بشكل خاطئ لتمييز شخص علي آخر في ذات مكان وفئة العمل وفي هذا ظلم, أما فكرة الكادر الخاص المعمول بها عالميا فتقوم علي تمييز طبيعة عمل معينة مثل قطاعات الشرطة والجيش والقضاء وغيرها لأن هذه القطاعات تمتلك مقومات خاصة تستوجب هذا الكادر وليس شخص بعينه. وأضاف أن في مصر الكادر يمثل شخصية للوظائف وليس لطبيعة العمل. وأعرب الدكتور عبد الرحمن عليان عن تفاؤله بتعافي الاقتصاد المصري رغم الخسائر الكبيرة التي تكبدها خلال الفترة الأخيرة ونتيجة الأحداث التي تمر بها مصر حاليا. وقال إن إنقاذ اقتصاد مصر يستوجب وضع ضوابط شديدة في العمل والتحكم في الطلبات الفئوية التي تنادي بها التظاهرات العمالية ولكن بعد شهرين من الآن حتي تسنح الفرصة لترتيب الأوراق بشكل جيد وبعد ذلك يمكن تحقيق طموحات الناس بالحصول علي حقوقهم المالية. وقال إن الاقتصاد المصري قادر علي تجاوز الأزمة بموارده الحالية خاصة أن هناك مليارات الجنيهات في دخل الدولة يتم تخصيصها في مجالات ليست لها علاقة بالمواطن المصري منها40 مليار جنيه يتم ضخها لدعم الطاقة ولايستفيد منها المواطن البسيط بقدر مايستفيد منها رجال الأعمال والأثرياء أيضا40% من دخل قناة السويس يتم تخصيصه لمؤسسة الرئاسة تقوم بالتصرف فيه بمعرفتها ولايعلم أحد أوجه انفاقها. كذلك في مجال البترول هناك منح ومكافآت بالمليارات يتم منحها لبعض المسئولين عند توقيع عقود الصفقات والمشاريع ولانعلم لماذا. ايضا50% من دخل البترول يخصص لمؤسسة الرئاسة تتصرف فيه كيفما تشاء دون حساب! كل هذه الأموال لو تم تخصيصها لصالح الشعب المصري سوف تساعد الدولة علي تجاوز أزمتها الاقتصادية وتتضاعف مرتبات العاملين فيها. وأضاف أن هناك قيادات في القطاع الحكومي وقطاع الأعمال العام والخاص تحصل علي مرتبات تتجاوز المليون جنيه شهريا في الوقت الذي يصل الحد الأدني للأجور في قطاعاتهم إلي300 جنيه وفي الوقت الذي يحدث ذلك في مصر نجد أن رئيس وزراء بريطانيا مثلا يحصل حاليا علي12 ألف جنيه إسترليني لايتجاوزها ولو ثبت حصوله علي هدايا أثناء وجوده في منصبه يحاسب عليها. دراسة ويقول الدكتور عبد المطلب عبد الحميد عميد مركز البحوث الاقتصادية إنه قام بإجراء دراسة منذ عشرين عاما وقام بنشرها في مؤتمر بجامعة المنصورة بعنوان( خلل العلاقة بين الأجور والأسعار وآثارها علي كاسبي الأجور), مشيرا إلي أن هذه الدراسة لم تر النور حتي الآن. وقال إن الرسالة التي أعدها عام88 لنيل درجة الدكتوراه كانت حول هيكل الأجور والأسعار وآثارها علي الأقتصاد المصري وخلال كل هذه السنوات كنت ومعي كثير من الاقتصاديين ندرس ونبحث في هذا المجال وبالتالي فإن الدراسات موجودة وتنتظر التطبيق. وأضاف ان مايطالب به أصحاب الأعمال من النقابات الفئوية هي مطالب مشروعة تستهدف وضع أجور تتكيف مع الأسعار خاصة أن الوضع الحالي يجعل الجهاز الحكومي عاجزا عن وضع توازن بين الأجور والأسعار ويليه في المرتبة قطاع الأعمال العام ثم يأتي دور القطاع الخاص وهو الأكثر مرونة في تكييف التوازن بين الأجور والأسعار وإن لم يكن الأمثل. وأشار إلي أنه إن لم تكن هناك حلول لمطالب النقابات الفئوية سوف يتحولون إلي قنبلة موقوتة خاصة أن الحكومات السابقة عمقت هذا الخلل وهذا مادفع الناس للخروج مطالبين بحقوقهم. وقال نحن نطالب منذ ربع قرن بتعديل هيكل الأجور فالهيكل الحالي يحمل علاوة تتراوح مابين الجنيهين و6,25 جنيه وال10 جنيهات وكل هذا يجب أن يعاد النظر فيه وقد عرضنا كاقتصاديين دراسات كثيرة لتطوير هيكل الأجور وعلي الحكومات السابقة ولكنها ضربت بها عرض الحائط. وأضاف: بعد تعديل هيكل الأجور تأتي مرحلة وضع سلم متدرج للأجور يتوافق مع معدلات التضخم بما يحقق تحسنا في مستوي المعيشة للناس وهذا يجب أن يكون معلنا للناس حتي يطمئنوا ويكفوا عن الخروج مطالبين بحقوقهم. ربط الأجور ويقول الدكتور حمدي عبد العظيم أستاذ الأقتصاد ورئيس أكاديمية السادات سابقا: هناك أساسيات لايمكن غض الطرف عنها متعلقة بربط الأجور بالأسعار وانتاجية العامل أو الموظف وطبيعة مهنته كل هذا بالتوازي مع الارتفاع المستمر للأسعار عالميا ومحليا وعدم الالتزام فقط بالعلاوات الدورية لأنها لم تكن كافية ولم تسد عجز التوازن بين مايصرف وماينفق خاصة أن المادة23 من الدستور تنص علي العدالة في توزيع الدخول في المؤسسة الواحدة أو الوزارة الواحدة أو طبيعة العمل الواحدة وهذا علي خلاف الواقع الحالي لمصر فهيكل الأجور فيه مشوه فأحيانا تجد موظف يتقاضي مرتبا أضعاف مايتقاضاه موظف آخر في ذات الفئة وليس هناك أي فوارق مهنية بينهما ولذلك يجب وضع معايير موضوعية لتحديد الأجور تعتمد علي عدالة التوزيع كذلك تطوير فاعلية الدعم لتتوازي مع ارتفاع الأسعار وحركة تطور الأجور مع تحديد حد أقصي لتكلفة السلع وهامش الربح ووجود رقابة علي ذلك تحقيقا للعدالة. وأضاف الدكتور حمدي أن هناك صناديق حكومية بها رؤوس أموال لايعلم عنها أحد شيئا ومنها تم وضع صندوق به5 مليارات جنيه للتعويضات, كما أعلن وزير المالية كل هذه الأموال كفيلة بوضع توازن لتطوير هيكل الأجور.