جاءت صيحة فولتير الأشهر' اسحقوا العار' بعدما هاله الصراع الديني الذي احتدمت أواصره بين الأغلبية الكاثوليكية والاقلية البروتستانتية في تولوز ودعا إلي التخلص من الخرافات والتقاليد البالية التي تؤدي إلي التعصب الأعمي. إن الفرنسيين يأتون متأخرين جدا دائما لكنهم يأتون في النهاية, تري هل تنطبق مقولة فولتير هذه علي المصريين في ثورتهم التي يحلو للبعض أن يصفها بأنها بلا عقل أو رأس, إن كانوا قصدوا بهذا أنها ثورة بلا تميد, فقد جانبهم الصواب, وإن كان التنظير هو مقصدهم فقد أصابوا. انها بالتأكيد ثورة بلا فولتير وبلا روسو, وهما لم يدركا قيام الثورة في فرنسا, لكن أثرهما قد امتد إلي ما بعدها بكثير إلي الحد الذي دفع اللبعض إلي القول باننا لم نتجاوز بعد الآثار الفكرية والفلسفية لتلك الثورة العظيمة في منطلقاتها وسلبياتها في آن واحد. والثورة المصرية مرشحة بقوة لأن تمتلك تلك العظمة, لأن شرارتها التي كانت علي نقيض سابقتها في سلميتها قد ألهمت العالم كله, فقد أتي المصريون في النهاية بما لم يأت به العالم من قبل, بثورة تغني وترقص وتضحك وتستمر وهي تناضل ويستشهد أبناؤها من أجل الحرية لكنها الآن قد بدأت من حيث لا تدري ربما لأنها بلا تنظير في الانزلاق إلي صراع بين العقل وبين الغريزة بين الحرية وبين المساواة بين فولتير وروسو. إن الغريزة والمشاعر جديرة بالثقة أكثر من العقل.. لاشك أن مقولة روسو الشاعرية هذه ونزعته إلي العودة إلي الطبيعة قد لاقت هوي من كثيرين فالارتكان إلي المشاعر والغريزة يبدو رومانسيا وثوريا في آن واحد, ومن الحب ما قتل, لأن غياب العقل أو تحييده يقود إلي أحد أمرين اما إلي النقل بلا تدبر أو الارتجال بلا خبرة وكلاهما يفضي إلي التجبر والاستبداد, بل والإرهاب, وبعض التنظيمات دينية الطابع ذات الطبيعة النقلية التي ظهرت إلي السطح بعد ثورة يناير لا تختلف كثيرا عن بعض الاندية راديكالية الطابع التي بدأت في التشرذم والتشكل بدعوي حماية الثورة وإقامة دولة الحق, فلا فرق هناك في الحقيقة بين التعذير بالتجريس والتخزيم وخلافه, وبين عقد الحاكمات الشعبية والإعلامية لمن هم قيد التحقيق حتي تثبت ادانتهم ولا فرق ايضا بين التصنيف علي أساس ديني برموزه الظاهرية وبين التصنيف علي أساس' تحريري' نسبة إلي ميدان التحرير, فكلا التيارين لا يفرق بين النظام الذي اسقط وبين الدولة التي يجب ألا تسقط ولابين الثأر وبين القانون. ولو عاش روسو لهاله ما رأي من شك غريزي وسفك للدماء واستملاح السواد الأعظم من الفرنسيين بعد خمود جذوة الحماس الأولي لأن يتركوا لإدارة شئونهم كل علي طريقته الخاصة قانعين بأن يتركوا الأمور السياسية لرجال أندية باريس ليعتليها اليعاقبة أمثال مارا ودانتون وروبسبيير الذين فاقت حماستهم الثورية كل حد وتصور في اندفاع ثوري محموم نحو تحقيق سلطة الشعب بقوة الاستبداد والإرهاب فأرسلوا إلي المقصلة كل من خالفهم في الرأي وقضوا علي الجيرونديين والمعتدلين الأكثر تمثيلا في الجمعية الوطنية الذين علي بلاغتهم وعمق ثقافتهم عجزوا عن توحيد صفوفهم وخططهم وآثروا السلامة امام المد الثوري الباريسي وجاروه إلي أن ابتلعهم في نهاية المطاف ثم ابتلع اليعاقبة أنفسهم ومهدوا جميعا الطريق للقائد الكورسيكي الشاب نابليون لأن يعتلي عرش فرنسا. وعلي النقيض من هذا جاءت صيحة فولتير الأشهر' اسحقوا العار' بعدما هاله الصراع الديني الذي احتدمت أواصره بين الأغلبية الكاثوليكية والاقلية البروتستانتية في تولوز ودعا إلي التخلص من الخرافات والتقاليد البالية التي تؤدي إلي التعصب الأعمي, وفي حين هاجم روسو القوانين والمدنية بحجة العودة إلي الطبيعة جنح فولتير إلي العقل والعلم ودعا الجميع إلي الوقوف بكل جدية وحزم امام المؤسسة الدينية وقهرها والقضاء علي خطبها المضللة وسفسطتها المخزية وتاريخها الكاذب ونادي بأن الجيل الجديد في فرنسا سيدين لنا بعقله وحريته ان لم نترك العلم فريسة للجهل. ما أشبه اليوم بالبارحة نكاد نراه يناضل بيننا اليوم ليوقف صيحات الفتنة والتعصب التي تطل علينا من كل حدب وصوب ممن يدعون امتلاك الحقيقة ويشهرون في أوجهنا المصاحف علي ألسنة السيوف والحدود, مستغلين المشاعر الدينية للبعض, ومهادنة البعض والصمت تقية للبعض الآخر, لتمرير مشروعهم للدولة الدينية التي طال انتظارها التي يلخصها فولتير أجمل تلخيص في تلك العبارة إن الإنسان الذي يقول لي آمن كما أومن وإلا فإن الله سيعقابك.. سيقول لي آمن كما أومن وإلا سأغتالك, والمشروع يبدأ باتهام البعض منا بالحساسية تجاه النصوص, ثم الرمي بالدعوة إلي إبطال حدود الله, فالحسبة, فالتكفير فإقامة الحد علينا في ميدان عام وهو ذات حال الراديكاليين الذين بدأوا في إقصاء وتخوين كل من اختلف معهم بحجة حماية الثورة وفرض الوصاية علي الشعب وكأنها ثورتهم هم فقط لا ثورة شعب بأكمله. لقد أخطأ كل من روسو وفولتير.. أخطأ روسو بأن آمن بالغريزة وحدها واعتبر التفكير مناقضا للطبيعة الإنسانية فأفسح المجال أمام الإرهاب ليعصف بالثورة الفرنسية, وأخطأ فولتير بشكه في قدرة الشعب علي حكم نفسه, كما أخطأ في هجومه السافر علي رجال الدين بدلا من الدعوة للإصلاح الديني, فنزع عن الفرنسيين في ثورتهم فضيلة التدين الرشيد الذي كان هو ذاته يأمله, فسقطت المؤسسة الدينية في وقت كان الفرنسيون في أشد الحاجة إلي تنظيماتها للحد من موجات الفوضي والإرهاب التي اجتاحت فرنسا. ونخطئ نحن ايضا ان استدعينا نموذج الثورة الفرنسية كدليل استرشادي, فالثورة المصرية مصرية, والتنظير لها وإن تأخر يجب أن يبقي مصريا صميما ايضا, فربما قدر لنا أن نتجاوز تلك الثورة الفرنسية العظيمة ونؤسس لثورة مصرية أعظم في عالميتها ودوام أثرها الحضاري من الثورة الفرنسية.