التوقيت الصيفي في مصر.. اعرف مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 26 - 4 - 2024    أسعار النفط تتجه لإنهاء سلسلة خسائر استمرت أسبوعين بعد تصريح وزيرة الخزانة الأمريكية    أسعار الذهب اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتحدة (فيديو وصور)    استقالة المتحدثة الناطقة بالعربية في الخارجية الأمريكية احتجاجا على حرب غزة    فرنسا تهدد بعقوبات ضد المستوطنين المذنبين بارتكاب عنف في الضفة الغربية    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 26- 4- 2024 والقنوات الناقلة    حالة الطرق اليوم، النشرة المرورية بشوارع القاهرة والجيزة في أول أيام التوقيت الصيفي    حكاية الإنتربول مع القضية 1820.. مأساة طفل شبرا وجريمة سرقة الأعضاء بتخطيط من مراهق    صحة القليوبية تنظم قافلة طبية بقرية الجبل الأصفر بالخانكة    "تايمز أوف إسرائيل": تل أبيب مستعدة لتغيير مطلبها للإفراج عن 40 رهينة    سعر الدولار في السوق السوداء والبنوك اليوم    أول تعليق من رمضان صبحي بعد أزمة المنشطات    166.7 مليار جنيه فاتورة السلع والخدمات في العام المالي الجديد    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    أبناء أشرف عبدالغفور الثلاثة يوجهون رسالة لوالدهم في تكريمه    أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية جديدة بمليارات الدولارات إلى كييف    وزير الخارجية الصيني يلتقي بلينكن في العاصمة بكين    قوات الاحتلال تعتقل شقيقين فلسطينيين بعد اقتحام منزلهما في المنطقة الجنوبية بالخليل    الأسعار كلها ارتفعت إلا المخدرات.. أستاذ سموم يحذر من مخدر الأيس: يدمر 10 أسر    أعضاء من مجلس الشيوخ صوتوا لحظر «تيك توك» ولديهم حسابات عليه    القومي للأجور: جميع شركات القطاع الخاص ملزمة بتطبيق الحد الأدنى    أبرزهم رانيا يوسف وحمزة العيلي وياسمينا العبد.. نجوم الفن في حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير (صور)    بعد سد النهضة.. أستاذ موارد مائية يكشف حجم الأمطار المتدفقة على منابع النيل    أحشاء طفل و5 ملايين جنيه وتجارة أعضاء بشرية.. ماذا حدث داخل إحدى الشقق السكنية بشبرا الخيمة؟    أنغام تبدع في غنائها "أكتبلك تعهد" باحتفالية عيد تحرير سيناء بالعاصمة الإدارية (فيديو)    عاجل - حزب الله يعلن استهداف قافلة تابعة للعدو قرب موقع رويسات العلم.. وهذه خسائر قوات الاحتلال    احذر هذا التصرف عند ضبط التوقيت الصيفي على هاتفك.. «هيقدم ساعتين»    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    أذكار وأدعية ليلة الجمعة.. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 26 أبريل 2024    مع بداية التوقيت الصيفي.. الصحة توجه منشور توعوي للمواطنين    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    خالد جلال يكشف تشكيل الأهلي المثالي أمام مازيمبي    إعلان نتيجة مسابقة المعلمة القدوة بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    أبرزها الاغتسال والتطيب.. سنن مستحبة يوم الجمعة (تعرف عليها)    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الجمعة 26/4/2024 على الصعيد المهني والعاطفي والصحي    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميًّا    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    سيد معوض يكشف عن مفاجأة في تشكيل الأهلي أمام مازيمبي    "مواجهات مصرية".. ملوك اللعبة يسيطرون على نهائي بطولة الجونة للاسكواش رجال وسيدات    يونيو المقبل.. 21364 دارسًا يؤدون اختبارات نهاية المستوى برواق العلوم الشرعية والعربية بالجامع الأزهر    «زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    سيد معوض يكشف عن رؤيته لمباراة الأهلي ومازيمبي الكونغولي.. ويتوقع تشكيلة كولر    ذكري تحرير سيناء..برلماني : بطولات سطرها شهدائنا وإعمار بإرادة المصريين    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    تامر حسني باحتفالية مجلس القبائل: شرف عظيم لي إحياء حفل عيد تحرير سيناء    فيديو جراف| 42 عامًا على تحرير سيناء.. ملحمة العبور والتنمية على أرض الفيروز    مسجل خطر يطلق النار على 4 أشخاص في جلسة صلح على قطعة أرض ب أسيوط    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    خالد جادالله: الأهلي سيتخطى عقبة مازيمبي واستبعاد طاهر منطقي.. وكريستو هو المسؤول عن استبعاده الدائم    حظك اليوم.. توقعات برج الميزان 26 ابريل 2024    طارق السيد: ملف خالد بوطيب «كارثة داخل الزمالك»    هل تتغير مواعيد تناول الأدوية مع تطبيق التوقيت الصيفي؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد صلي الله عليه وسلم (2)

شهادة مؤلفة مسيحية بريطانية عن سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتأثيره رداً على كراهية الغرب للإسلام
في هذا العدد نواصل نشر الجزء الثاني من الفصل الأول من كتاب «سيرة النبي وتأثيره» للمؤلفة البريطانية المسيحية «كارين أرمسترونج»، والتي ترد فيه علي موجات الكراهية ضد الإسلام.. في هذا الجزء تواصل «كارين» تفنيد الأساطير التي لفقها الغرب ضد الإسلام، وتوارثتها الأجيال وسهلة التحريك في اتجاهات عنيفة، بمجرد ظهور داع جديد لهذه الأساطير الملفقة.
وهكذا، فما إن حل منتصف القرن الثاني عشر، حتي بدأ انتشار نظرة أدق للإسلام، وإن كان ازدياد الموضوعية لم يبلغ القوة الكفيلة بتبديد الأساطير المعادية للإسلام، بل استمرت الحقائق والأوهام في امتزاجها وتوافقها بحيث ظلت الأحقاد القديمة تطل برأسها في بعض الأحيان، حتي أثناء المحاولات الصادقة التي بذلها البعض لتوخي العدل والإنصاف، إذ ظلت صورة محمد صورة دجال منشق، مهما يكن من أمر المؤرخ أوتو الذي وضع تصوراً أقرب إلي العقل لدين النبي محمد .
وكانت أهم محاولات وضع تصور موضوعي للإسلام في القرن الثاني عشر هي المحاولة التي قام بها «بيتر المبجل» الذي كان يشغل منصب رئيس دير «كلوني»، وعرف بمشاعره الإنسانية الرقيقة، إذ قام في عام 1141 بجولة في أديرة القديس بنيدكت في إسبانيا المسيحية، وتكليف فريق من العلماء المسيحيين والمسلمين، برئاسة رجل إنجليزي يدعي روبرت كيتون، بترجمة بعض النصوص الإسلامية، ومن ثم اكتمل ذلك المشروع في عام 1143.
وكان من ثماره أول ترجمة لاتينية للقرآن، ومجموعة من الأساطير الإسلامية، وتاريخ إسلامي للعالم، وشرح للتعاليم الإسلامية، ورسالة حوارية عنوانها «دفاع الكندي»، وكان ذلك إنجازاً رائعاً، إذ أتاح لأبناء الغرب أول فرصة لدراسة الإسلام دراسة جادة، ولكن نتائجه كانت محدودة، إذ كان المسيحيون في تلك الآونة وقد بدأوا يتعرضون لهزائم عسكرية كبري في الدول الصليبية في الشرق الأدني، وارتفعت موجة جديدة من مشاعر العداء للإسلام، يعمل علي تنظيمها الأسقف برنارد، رئيس دير كليرفوكس، مما جعل الوقت غير مناسب للشروع في دراسة موضوعية للقرآن، وكان الأسقف بيتر قد كتب دراسة خاصة يتوجه فيها بالخطاب إلي العالم الإسلامي بنبرات رقيقة يغمرها الحب، فكتب يقول: «إنني أتوجه إليكم بالكلمة، لا بالسيف كما يتوجه غيري من الرجال، في معظم الأحوال: وها أنا أتوسل بالعقل لا بالقوة، وبالحب لا بالكراهية.. إنني أحبكم، ويدفعني حبي إلي الكتابة إليكم، وكتابتي تدعوكم إلي الخلاص»، ولكن عنوان هذه الدراسة كان «ملخص البدعة الكاملة التي أتت بها طائفة الشرقيين الشيطانية»، ومن ثم لم يكن من المحتمل أن يجد الكثير من المسلمين الصادقين أي لون من التعاطف في مثل هذا المنهج، حتي لو تمكنوا من قراءة النص اللاتيني الذي كتبه رئيس دير كلوني، بل إن هذا الأسقف الطيب الذي أظهر معارضته لتعصب أبناء زمانه في مناسبات أخري، يدل في كتاباته علي الانفصام الذي كان العقل الأوروبي يعاني منه في نظرته للإسلام، وعندما قام الملك لويس السابع، ملك فرنسا، بقيادة الحملة الصليبية الثانية إلي الشرق الأوسط عام 1147 كتب الأسقف بيتر إليه يقول أنه يتمني أن يقتل عدداً كبيراً من المسلمين، عدداً يوازي من قتلهم موسي «هكذا» ويوشع «يشوع» من الأموريين والكنعانيين.
شهداء قرطبة
وفي أوائل القرن الثالث عشر، حاول مسيحي آخر يتصف بالقداسة أن يخاطب العالم الإسلامي في سياق حملة عسكرية صليبية، إذ حدث أثناء القتال في الحملة الصليبية الخامسة التي باءت بالفشل (1218-1219) أن جاء «القديس» فرانسيس أسيسي إلي المعسكر المسيحي في دلتا نهر النيل، ثم عبر خطوط الأعداء وطلب السماح له بمقابلة السلطان الكامل، وقيل أنه قضي ثلاثة أيام مع السلطان، يشرح رسالة الإنجيل، ويحث السلطان علي التحول إلي المسيحية، وقد حرص فرانسيس علي عدم المساس بذكري النبي محمد ، مما شجع المسلمين علي الاستماع إليه، ويبدو أنهم أعجبوا بذلك الأشعث الأغبر، وعندما آن له أن يرحل قال السلطان الكامل: «ادع الله لي، وابتهل إليه أن يهديني إلي ما يحبه ويرضاه من شرع وإيمان»، ومن ثم أعاد فرانسيس إلي المعسكر المسيحي «معززاً مكرماً سالماً آمناً».
وكان فرانسيس قد أرسل - قبل رحيله إلي الشرق - فريقاً من صغار القسس للدعوة بين المسلمين في إسبانيا وإفريقيا، ولكن المنهج الذي اتبعوه في مخاطبة العالم الإسلامي كان يختلف في روحه اختلافاً شاسعاً، فعندما وصلوا إلي إشبيلية لجأوا إلي أساليب شهداء قرطبة، فحاولوا أولاً اقتحام المسجد أثناء صلاة الجمعة، وعندما قام المصلون بتفريقهم، اتجهوا إلي قصر الأمير، وشرعوا يسبون النبي محمداً بصوت عال خارج القصر، وهكذا كانت هذه البعثة التبشيرية، وهي أول بعثة كبري إلي أبناء الشرق، لا تتسم بأي تعاطف أو حب، لأن أتباع فرانسيس «الفرنسيسكان» لم يكونوا يرمون إلي «هداية» المسلمين إلي المسيحية، بل كانوا يحاولون استغلال الموقف للظفر بإكليل الشهادة، ولما علت أصواتهم وازدادت جلبتهم اضطرت السلطات إلي حبسهم، إذ تسببت الحادثة في حرج شديد لهم، كما حاولت السلطات تجنب ذيوع أمرهم فدأبت علي نقلهم من سجن إلي سجن، ورفضت الحكم عليهم بالإعدام، ولكن المسيحيين المستعربين في إشبيلية كانوا يخشون أن يتسبب هؤلاء المتعصبون في تعريض موقفهم للخطر، وطلبوا من السلطات التخلص منهم، وانتهي الأمر بترحيل الفرنسيسكان إلي مدينة «سبته» في المغرب، ولكنهم ما إن وصلوها حتي اتجهوا إلي المسجد أثناء صلاة الجمعة، وشرعوا من جديد في سب النبي محمد ، ولم تجد السلطات بداً، آخر الأمر، من إعدامهم، وعندما وصلت الأنباء إلي «القديس» فرانسيس، قيل أنه صاح في ابتهاج «أعلم الآن أنني ظفرت بخمسة قسس صغار يخلصون لي».
ويبدو أن تلك النزعة قد غلبت علي بعثات التبشير الفرنسيسكانية التالية، ففي عام 1227 أعدم فريق آخر من القسس في سبته، وكانوا قد أرسلوا خطابات إلي بلدهم يقولون فيها إن هدف البعثة هو «الموت والهلاك للكفار»، واتجه فريق آخر إلي الأراضي المقدسة، ولكن أساليبهم لم يرض عنها جيمس فيتري، أسقف عكا، فكتب يقول:
إن المسلمين لا يترددون في الإصغاء للقسس الصغار عندما يتحدثون عن إيمان المسيح وتعاليم الأناجيل، ولكنهم عندما يتعرضون في حديثهم إلي إنكار ما جاء به محمد ، إذ يصورونه في خطبهم الدينية في صورة الكاذب الخائن، فإن المسلمين يضربونهم دون احترام لبعثتهم، ولولا لطف الله الذي يحفظهم بما يشبه المعجزة، لكان مصيرهم القتل أو الطرد من مدن المسلمين» .
اتحاد إلهي
وهكذا كان الحال إبان العصور الوسطي، فحتي عندما كان البعض يحاول التزام الإنصاف والموضوعية، أو الدعوة لرسالة المسيحية بين المسلمين، كان العداء يتفجر، وكان أحياناً ما يتخذ طابع العنف الشديد، ففي نهاية القرن الثالث عشر، قام العلامة الدومينيك «ريكولدو دا مونتي كروتشي» بجولة في البلدان الإسلامية، وأعرب عن انبهاره بمستوي التقوي والورع الذي صادفه، فكتب يقول: «إن علي المسيحيين أن يخجلوا من ورع المسلمين»، ولكنه عندما عاد إلي وطنه ليكتب عن «إقامة الحجة علي المسلمين والقرآن» لم يزد علي تكرار الأساطير القديمة، كانت الصورة الغربية للإسلام قد بدأت تتخذ من القوة ما يكفل دحض آثار أي احتكاك مع المسلمين الحقيقيين، مهما تكن الآثار إيجابية، إذ وجد الغرب روحه في أيام الحروب الصليبية، ويستطيع الباحث أن يرجع معظم ما نتميز به عن غيرنا من المشاعر الفياضة، وضروب الحماس إلي تلك الفترة، وهذا هو ما ألمح إليه «أومبرتو إيكو» في مقال عنوانه: «أحلام القرون الوسطي»، إذ يقول:
الواقع أن الأمريكيين والأوروبيين قد ورثوا التركة الغربية، فمعظم مشاكل العالم الغربي قد ظهرت في القرون الوسطي، لأن المجتمع القروسطي هو الذي ابتدع اللغات الحديثة، والمدن التجارية، والاقتصاد الرأسمالي (إلي جانب البنوك والشيكات، وأسعار الفائدة علي الودائع)، ونحن نشهد في القرون الوسطي نشأة الجيوش الحديثة، والمفهوم الحديث للدولة القومية، وكذلك فكرة الاتحاد الإلهي (تحت راية إمبراطور ألماني يختاره مجلس نيابي يقوم بمهمة المؤتمر الانتخابي)، والصراع بين الأغنياء والفقراء، ومفهوم البدعة أو الانحراف الأيديولوجي، بل حتي فكرتنا المعاصرة عن الحب باعتباره سعادة مدمرة تجلب الشقاء، ويمكنني أن أضيف إلي القائمة الصراع بين الكنيسة والدولة، والنقابات العمالية، (وإن كانت في صورة الشركات) والتحولات التكنولوجية لعمل العمال.
وكان يمكنه أن يضيف أيضاً مشكلة الإسلام، فانتهاء القرون الوسطي لم يؤذن بانتهاء الأساطير القروسطية القديمة، فعلي كثرة المحاولات التي بذلت لوضع منظور يتميز بالمزيد من الموضوعية والإيجابية، وعلي تنامي الاتفاق في آراء العلماء علي أن الإسلام ونبي الإسلام لا يمثلان الظواهر المخيفة التي توهمها الناس، ظل التعصب القديم قائماً.
وقد استمرت صورة الإسلام الموهومة التي روجها شهداء قرطبة إبان فترة الحملات الصليبية، وإن لم تكن تمثل موضوعا من الموضوعات الرئيسية، إذ حدث في عام 1191 أثناء رحلة الملك ريتشارد قلب الأسد إلي الأرض المقدسة، في إطار الحملة الصليبية الثالثة، أن التقي بأحد المتصوفة الإيطاليين المشهورين في مدينة ميسينا، في جزيرة صقلية، وهو يواقيم فيوري، الذي أخبره أنه سوف ينتصر حتماً علي صلاح الدين الأيوبي، وإذا كان يواقيم قد أخطأ في ذلك، فأنه أبدي بعض الملاحظات الطريفة، والجديرة بالذكر، إذ قال إن نهاية العالم وشيكة، وإن نشأة الإسلام تمثل إحدي الوسائل الرئيسية التي يستعين بها المسيح الدجال، أما المسيح الدجال نفسه فهو حي يرزق في روما، وقد كتب له أن يشغل كرسي البابوية في روما، والواقع أن زيادة انتقاد الأوروبيين لمجتمعهم ووعيهم بنقائصه جعلتهم يربطون بين الإسلام وبين العدو الذي يعيش بين ظهرانيهم، وهكذا كان المصلحون كذلك يوازون بين البابوية التي تفتقر إلي الإخلاص «عدوهم اللدود» وبين الإسلام، فنجد أن المصلح الإنجليزي ابن القرن الرابع عشر، جون ويكليف، يرمي الإسلام في كتاباته الأخيرة بالنقائص الكبري التي كان يراها في الكنيسة الغربية المعاصرة له وهي الكبرياء، والجشع والعنف، وشهوة السلطة والامتلاك، فكتب يقول «إننا نحن المحمديين الغربيين» وكان يعني بذلك الكنيسة الغربية بصفة عامة، «علي قلة عددنا بين أبناء الكنيسة كلهم، نتصور أن العالم بأسره سوف يبني نظمه علي أساس أحكامنا ويرتعد فرقاً من أوامرنا».
ومضي يقول أنه لو لم تعد الكنيسة إلي الروح الحقيقية للأناجيل، وللزهد الذي يدعو الدين إليه، فإن هذه الروح «الإسلامية» سوف تستفحل في الغرب مثلما استفحلت في الشرق، وكانت أقواله تدل علي تحول دقيق في الفكرة التي اعتادها من سبقه وهي اعتبار الإسلام ونبي الإسلام نقيضاً لكل شيء «نتمني» أن نكونه أو نخشي أن نصير إليه.
القربان المقدس
لم يكن أمام ويكليف إلا الاستناد إلي معلومات غير موثوق بها إلي حد بعيد، ولكنه قرأ ترجمة القرآن وظن أنه عثر علي نقاط مهمة تسمح بالموازنة بين محمد وكنيسة روما، وكانت حجته تقول إن محمداً كان يشبه الكنيسة في عدم المبالاة بالكتاب المقدس، فكان يأخذ منه ما يناسب دعواه ويطرح سائره، وإن محمداً كان يشبه أصحاب الطوائف الدينية في ابتداع تجديدات تثقل كواهل المؤمنين بأعباء جديدة، وأهم من ذلك كله، أن محمداً يحذو حذو الكنيسة في حظر المناقشة الحرة للدين، والواقع أن ويكليف فسر بعض الآيات القرآنية تفسيرا يشي بالتعصب القروسطي القديم، ولكن هذه الفقرات لا تحظر المناقشة الدينية في ذاتها، بل هي تقول إن بعض ضروب الجدل الديني قد أدت إلي الانشقاق في أديان التوحيد القديمة، ونشوء الشيع والطوائف المتناحرة، فبعض الأفكار المتعلقة بالذات الإلهية من المحال أن تتعدي الحدس والتخمين، فلا يمكن لأحد، علي سبيل المثال، أن يثبت صحة مبدأ التجسد، وهو الذي يقول محمد أنه من المبادئ التي أضافها بعض المسيحيين فيما يبدو إلي الرسالة الأصلية للنبي عيسي، ومع ذلك فإن ويكليف عقد مقارنة بين هذا التعصب الإسلامي المزعوم وبين موقف الكنيسة إزاء بعض المبادئ التي تكتنفها المشاكل مثل مبدأ القربان المقدس، إذ تأمر المسيحيين بالإيمان الأعمي بالأشياء التي لا يستطيعون فهمها.
ولم يقلع لوثر وغيره من المصلحين البروتستانت عن هذه العادة، ففي أواخر أيامه، وجد أنه يواجه الغزوات المخيفة التي كان الأتراك العثمانيون يشنونها علي أوروبا، ومن ثم تملكه كابوس شهداء قرطبة، وأصبح يعتقد أن الإسلام قد يكتسح الممالك المسيحية اكتساحاً كاملاً، وفي عام 1542 نشر ترجمته الخاصة للدراسة التي كتبها ريكولدو دامونتي كروتشي بعنوان إقامة الحجة (المشار إليها آنفاً) وقال في التصدير أنه كان قرأها قبل ذلك بسنوات ووجد من المحال عليه أن يقبل أن الناس يمكن أن يؤمنوا بمثل تلك الأكاذيب الواضحة الجلية، وأنه كان يريد قراءة القرآن ولكنه لم يعثر علي ترجمة لاتينية له - وذلك، كما يبين ر.و. ساذرن، دليل ساطع علي التخلف الشديد للدراسات الإسلامية في القرن السادس عشر - وقال أنه استطاع أن يحصل أخيراً علي نسخة منه وعندها أدرك أن ريكولدو لم يكن كاذباً بل كان محقاً فيما قاله، وتساءل عما إذا كان محمد والمسلمون يمثلون المسيح الدجال، ثم أجاب علي التساؤل قائلاً إن «الإسلام» دين ساذج لا يقدر علي أن يهوي بالبشرية إلي ذلك المصير الرهيب، أما العدو الحقيقي فهو البابا والكنيسة الكاثوليكية، ومادامت أوروبا تتمسك بهذا العدو الداخلي فسوف تعرض نفسها لخطر الهزيمة علي أيدي «المحمديين»، وقد طرح زوينجلي وبعض المصلحين الآخرين أفكاراً مماثلة، إذ كانوا يعتبرون روما «رأس» المسيح الدجال و«المحمدية» جسده، ويدل هذا التطور في تفكير البروتستانت علي أن الكثيرين قد أضفوا علي الإسلام صورة من داخل أوروبا بحيث أصبح رمزاً للشر المطلق في حياتهم الشعورية، وقد كتب نورمان دانييل دراسة عميقة عنوانها العرب وأوروبا في العصور الوسطي يقول فيها إن الإسلام لم يعد حقيقة تاريخية خارجية يمكن للناقد أن يفحصها مثل سواها من الحقائق، بل إن المصلحين قد «دسوا فكرة الإسلام باعتبارها حالة داخلية»، يمكن إلصاقها بأعداء العقيدة الخالصة «مهما يكن تعريف الكاتب لها»، وعلي هذا النحو كانوا يقومون في الواقع بتحويل الإسلام إلي كيان داخلي باعتباره «العدو» «دون تمييز» وهو العدو الذي ظل يكمن زمناً طويلاً في المخيلة الأوروبية».
بيتر المبجل
ويضرب دانييل أمثلة من الكاثوليك والبروتستانت، ويعقد مقارنات بين معارضيهم المسيحيين و«الإسلام» دون أن يدرك في الواقع ما تنطوي عليه تلك المقارنات، فكان المبشر الكاثوليكي، ابن القرن السابع عشر، م. ليفيبر يري أن المسلمين بمثابة «بروتستانت محمديين» يعتقدون أن الإيمان يبرر أفعال الإنسان، إذ «يرجون غفران كل خطاياهم بشرط إيمانهم بمحمد»، ولكن كاتب أدب الرحلات البروتستانتي ابن القرن الثامن عشر، ل. راوولف كان يعتبر المسلمين «كاثوليك محمديين» إذ إنهم «يقومون بالأعمال التي اخترعوها، وتفانوا في الإخلاص لها، مثل الزكاة والصلاة والصوم وافتداء الأسري وما إلي ذلك، ابتغاء مرضاة الله»، ولم يكن المسيحيون في العصور الوسطي قادرين علي النظر إلي الإسلام إلا باعتباره صورة ناقصة من صور المسيحية، كما اختلقوا الأساطير التي تبين أن محمداً تلقي تعليمه علي أيدي أحد أصحاب البدع، واستمر أبناء الغرب، فيما بعد، علي ضوء الانقسامات الداخلية الجديدة في العالم المسيحي، ينظرون إلي محمد ودينه من منظور مسيحي في جوهره، وكانوا فيما يبدو لا يكترثون للحقيقة التاريخية الموضوعية، ولم يخطر علي بالهم، فيما يبدو، أن للمسلمين بواعث حماس مستقلة لا يمكن تحديدها في إطار الممارسة المسيحية.
ولكن عصر النهضة شهد محاولات جديدة من جانب بعض أبناء الغرب للتوصل إلي تفهم يتسم بالمزيد من الموضوعية للعالم الإسلامي، وكانوا في ذلك يتبعون التقاليد والطموحات التي أرساها «بيتر المبجل» وهي التي أبقي بعض علماء القرن الخامس عشر علي شعلتها موقدة، مثل جون سيجوفيا ونيكولاس كوسا، ففي عام 1453 بعيد الفتح التركي لإمبراطورية بيزنطة المسيحية، الذي أتي بالإسلام إلي عتبة باب أوروبا، ألمح جون سيجوفيا إلي ضرورة العثور علي أسلوب جديد لمواجهة الخطر الإسلامي، قائلاً إنه من المحال أن يلقي الهزيمة في ميدان القتال أو عن طريق أنشطة التبشير التقليدية.
ومن ثم بدأ يعمل علي وضع ترجمة جديدة للقرآن، بالتعاون مع أحد فقهاء المسلمين من سلمانكا، كما اقترح عقد مؤتمر دولي، يجري فيه تبادل الآراء العلمية بين المسلمين والمسيحيين، ولكن المنية وافته عام 1458 قبل أن يؤتي أي من هذين المشروعين أكله، ومن ثم تولي صديقه نيكولاس كوسا العمل علي إنجاح هذا المنهج الجديد، ففي عام 1460 كتب كتاباً عنوانه «منخل القرآن» لم يتبع فيه السبل الجدلية المألوفة بل حاول فيه إجراء دراسة أدبية وتاريخية ولغوية منهجية للنص الذي كان جون سيجوفيا يعتبره نصاً جوهرياً ومن ثم وضعت أسس الدراسات العربية في عصر النهضة، وكان المنهج الموسوعي الذي لا يقف عند حدود دولة أوروبية دافعاً لبعض العلماء إلي وضع تقييم يتسم بالمزيد من الواقعية للعالم الإسلامي، وإلي نبذ الاتجاهات الصليبية الفجة، ومع ذلك لم تختلف الحال كثيراً عما كانت عليه في العصور الوسطي، فزيادة إدراك الحقائق لم تستطع طمس صور الكراهية القديمة التي كانت تسيطر سيطرة قوية علي المخيلة الغربية.
وقد برز ذلك بوضوح وجلاء في عام 1697 الذي شهد أولي بوادر التنوير، بنشر عملين كان لهما تأثيرهما الكبير، أما الأول فكان اسمه المكتبة الشرقية، وكان المؤلف «بارتلمي ديربيلو» قد اجتهد حتي جعله أهم وأصدق مرجع للدراسات الإسلامية والشرقية في إنجلترا وأوروبا حتي مطلع القرن التاسع عشر، وقد وصف بأنه دائرة المعارف الإسلامية الأولي، وكان «ديربيلو» قد استعان بمصادر عربية وتركية وفارسية، وبذل جهداً صادقاً لإزالة الغشاوة التي أعمت أبصار أصحاب المنهج المسيحي القديم، فقدم، علي سبيل المثال، صوراً مختلفة لأساطير خلق الكون الشائعة في الشرق، وكان من المحتوم أن يتسم هذا المنهج بالإيجابية، وكان دليلاً علي وجود روح أقرب إلي الصحة قليلاً، ومع ذلك ففي الباب الذي يتحدث فيه عن «محمد» نجد ما يبعث علي الأسي، إذ يردد الأقوال المألوفة مثل:
متعة النهب
هذا هو الدجال الشهير محمد ، صاحب ومؤلف بدعة اكتسبت اسم الدين، ونسميها «المذهب المحمدي».
وقد نسب مفسرو القرآن وغيره من فقهاء الشريعة الإسلامية أو المحمدية إلي هذا النبي الكاذب جميع الفضائل التي ينسبها الآريون، أو البولسيون «أتباع القديس بولس» أو المتشبهون بهم، وغيرهم من دعاة البدع، إلي يسوع المسيح، وإن كانوا ينزعون عنه صفة القداسة.
وإدراك «ديربيلو» للاسم الصحيح للدين لم يمنعه من مواصلة الإشارة إليه باسم «المحمدية»، وذلك لأنه الاسم الذي نطلقه «نحن» عليه، وعلي نفس المنوال، استمر العالم المسيحي في النظر إلي النبي نظرة شائهة باعتباره صورة «لنا» وإن كانت أدني وأحط شأناً.
وفي نفس العام نشر مستشرق إنجليزي يدعي «همفري بريدو» كتاباً مهماً عنوانه «محمد : طبيعة الدجل الحقيقية»، ويكفي العنوان وحده لإيضاح مدي استغراقه في التعصب القروسطي القديم - والواقع أنه يستشهد بأقوال ريكولدو دامونتي كروتشي باعتبارها مصدره الأساسي - وذلك رغم زعمه أنه قد توصل إلي نظرة إلي الدين تتميز بالمزيد من العقلانية والتنوير عما كان يمكن تحقيقه في كنف ظلام العصور الوسطي وخزعبلاتها، وهكذا فإن بريدو، باعتباره من أنصار العقل، يقول إن الإسلام لا يقتصر علي كونه محاكاة للمسيحية فحسب، بل هو نموذج واضح لمستوي البلاهة الذي يمكن أن ينحط إليه أي دين، وليست المسيحية باستثناء من ذلك، ما لم تكن للدين أسس راسخة علي صخرة العقل الصلبة، إننا نفترض أن عصر العقل قد حرر الأذهان من التعصب الديني المعوق الذي اتسمت به فترة الحملات الصليبية، ولكن بريدو يكرر جميع الأفكار غير العقلانية التي تسلطت علي الأذهان في الماضي، إذ كتب يقول عن محمد :
كان الشطر الأول من حياته يتسم بالإباحية الشديدة والآثام البالغة، إذ كان يجد متعة كبيرة في السلب والنهب وإراقة الدم، وفقاً لما جرت عليه عادات العرب الذين كان يميل معظمهم إلي سلوك هذا السبيل، فكانوا علي الدوام تقريباً في تناحر، إذ تتقاتل القبائل ليغنم بعضها من الآخر كل ما يستطيع أن يغنمه.
كانت النزعتان اللتان تملكان لُبه هما الطموح والشهوة، وكان السبيل الذي سلكه لبناء الإمبراطورية دليلاً ساطعاً علي النزعة الأولي، وكانت زوجاته الكثيرات دليلاً قاطعاً علي النزعة الثانية، والواقع أن النزعتين تسيطران علي إطار دينه برمته، فلا يكاد فصل من فصول القرآن يخلو من ذكر قانون من قوانين الحرب وإراقة الدماء تحقيقاً للنزعة الأولي، أو ينص علي حرية معاشرة النساء في هذه الدنيا، أو الوعد بالاستمتاع بهن في الدار الآخرة، تحقيقا للنزعة الأخري.
ولكن القرن الثامن عشر شهد بعض الجهود الرامية إلي وضع تفهم أكثر دقة للإسلام. ففي عام 1708 أصدر سايمون أوكلي المجلد الأول من كتابه تاريخ المسلمين الذي أغضب كثيراً من القراء لأنه لم يصور الإسلام علي أنه دين السيف (أي أن يسقط عليه مشاعر القراء تجاه أنفسهم) ولكنه حاول أن ينظر إلي الجهاد في القرن السابع من وجهة نظر المسلمين. وفي عام 1734 نشر جورج سيل ترجمة رائعة للقرآن ما تزال تعتبر دقيقة رغم افتقار أسلوبها إلي البريق، وفي عام 1751 نشر فرانسو فولتير كتاباً بعنوان «أخلاق الأمم وروحها» دافع فيه عن محمد باعتباره مفكراً سياسياً عميق الفكر، ومؤسس دين عقلاني حكيم، ومشيراً إلي أن الدولة الإسلامية كانت تتمتع دائماً بالتسامح الذي يزيد عما تتسم به التقاليد المسيحية وكان المستشرق الهولندي يوهان يعقوب رايسكي (1774) دارساً لا يُجَاري للغة العربية، استطاع أن يستشف المسحة الربانية في حياة محمد ونزول الإسلام (ولكن بعض زملائه اضطهدوه بسبب هذه الجهود).
بالسيف وحده
ونمت إبان القرن الثامن عشر أسطورة أخري تصور محمدا علي أنه رجل حكيم من رجال التشريع العقلاني في إطار حركة التنوير الأوروبية. وقد نشر الكونت هنري دي بولانييه كتابه حياة محمد (في باريس عام 1730 ولندن عام 1731) الذي يصور النبي في صورة المبشر بعصر العقل. وكان بولانفييه يتفق مع القروسطيين في أن محمداً قد ابتدع دينه حتي يسود العالم، ولو أنه قلب التقاليد كلها رأساً علي عقب وقال إن الإسلام يختلف عن المسيحية في أنه تراث «طبيعي» أي غير منزل، وإن ذلك مصدر روعته ويضيف أن محمداً كان بطلاً عسكرياً مثل يوليوس قيصر والإسكندر الأكبر، وذلك بطبيعة الحال وهم من الأوهام، لم يكن محمد ، قطعاً، ممن اهتدوا بالعقل وحده إلي وجود الله، ومع ذلك فكان الكتاب يمثل محاولة للنظر إلي النبي في ضوء إيجابي، وفي نهاية القرن أثني إدوارد جيبون في الفصل الخمسين من كتابه «تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» علي عقيدة التوحيد السامية في الإسلام، وبين أن الجهود الإسلامية جديرة بمكانة مرموقة في تاريخ الحضارة العالمية.
ولكن التعصب القديم كان راسخاً إلي الحد الذي جعل الكثير من الكتاب يعجزون عن مقاومة التعريض، دون مبرر بالنبي من حين لآخر، مما يدل علي أن الصورة التقليدية لم تمت وهكذا نجد سايمون أوكلي يصف محمداً بأنه «رجل بارع الدهاء واسع الحيلة، إذ كان يتظاهر فحسب بالصفات الحميدة المنسوبة إليه، أما دوافعه النفسية فهي الطموح والشهوة»، ويقول جورج سيل في مقدمة ترجمته للقرآن: «إن أحد الأدلة المقنعة علي أن العقيدة المحمدية لم تكن قطعاً سوي ابتكار بشري هو أنها تدين بنشوئها وتطورها إلي السيف وحده تقريباً» وينتهي فولتير في آخر مقاله عن أخلاق الأمم المذكور آنفاً، والذي يصف فيه الإسلام وصفاً إيجابياً إلي القول بأن محمداً كان «يعتبر رجلاً عظيماً، ولم يختلف علي ذلك من كانوا يعرفون أنه دجال، كما كان سائر الناس يبجلونه باعتباره نبياً».
وفي عام 1741 كتب فولتير مسرحية عنوانها محمد أو التعصب، وفيها يستعين بالكراهية الشائعة لمحمد في جعله نموذجاً لجميع الدجالين الذين أحالوا شعوبهم إلي عبيد للدين متوسلين بالتحايل والأكاذيب وعندما وجد أن بعض الأساطير القديمة لم تكن فاحشة إلي الحد الذي يرضيه، عمد إلي ابتداع أساطير جديدة أفعمت قلبه فرحاً بل إن جيبون لم يشغل نفسه طويلاً بشخصية محمد ، فزعم أنه قد دفع العرب إلي اتباعه من خلال إغرائهم بالغنائم والجنس، أما عن اعتقاد المسلمين بأن القرآن قد أملاه الوحي المنزل علي النبي ، فقد اصطنع جيبون نبرة تعال وترفع قائلاً إن الإنسان المتحضر حقاً يري ذلك من قبيل المحال.
الكافر الأوروبي
إن تلك الحجة تخاطب بكل قوة العربي المخلص الذي يقبل عقله منطق الإيمان والنشوة الدينية، والذي تلتذ أذنه بموسيقي الأصوات، والذي يعجز جهله عن عقد المقارنات بين ثمار قرائح العبقرية البشرية، فتناغم الأسلوب وجزالته لا يستطيعان التأثير بعد الترجمة، في الكافر الأوروبي، الذي سوف يضيق ذرعاً بمتابعة المعزوفة التي لا تنتهي، والتي تتسم بالنشاز، والحافلة بالأساطير والمفاهيم المجردة والنبرات الخطابية، والتي نادراً ما تثير إحساساً أو توحي بفكرة، والتي أحياناً ما تزحف في التراب، وأحياناً ما تضيع في ثنايا السحاب. وينم ذلك عن أن الغرب قد اكتسب الثقة في ذاته، إذ لم يعد الأوروبيون يجفلون فرقاً من الخطر الإسلامي بل أصبحوا ينظرون إلي الدين الإسلامي نظرة المترفع الذي يجد فيه بعض التسلية والترفيه، وأصبحوا يفترضون أننا إذا «نحن» لم نفهم القرآن، فلابد أنه ليس علي شيء وهكذا فعل توماس كارلايل عام 1841 في محاضرته عن النبي محمد والتي كان عنوانها «البطل باعتباره نبياً» إذ أعلن رفضه وازدراءه للقرآن ومع ذلك فقد كانت تلك المحاضرة دفاعاً مشبوباً عن محمد وإنكاراً للوهم القروسطي القديم. لقد كان كارلايل، ولأول مرة تقريباً في أوروبا، يحاول أن يري محمداً باعتباره صاحب دين حقيقي، حتي في غضون استهانته بالقرآن واعتباره أكثر كتاب يبعث علي الملل في العالم، إذ يقول إنه «خليط غير مترابط، يرهق القارئ، غليظ النسج، ركيك التركيب، غاص بالتكرار، وبالإسهاب والمعاظلات التي لا تنتهي، وباختصار فهو بالغ الغلظة والركاكة والغباء الذي لا يطاق».
وقد وقعت حادثة في آخر القرن الثامن عشر، كان لها مغزاها، إذ بينت السبيل الذي بدأت الثقة الأوروبية الجديدة تسير فيه، ففي عام 1798 أبحر نابليون قاصداً مصر، بصحبة العشرات من المستشرقين العاملين في معهد الدراسات المصرية الذي كان قد أنشأه، وكان قد بيت العزم علي الانتفاع بالتقدم العلمي الذي أحرزوه، وقدرتهم علي تفهم الشرق، في إخضاع العالم الإسلامي وتحدي السيطرة البريطانية علي الهند وما إن رست السفن حتي أرسل نابليون هؤلاء العلماء في مهمة محددة، مما نطلق عليه اليوم «بعثة لتقصي الحقائق»، وأصدر الأوامر الصارمة إلي جنوده بألا يعصوا أوامر العلماء.
والواضح أن هؤلاء العلماء قد درسوا الموضوع دراسة مستفيضة وكان نابليون قد استهل خطابه إلي جماهير المصريين في الإسكندرية قائلاً «إننا نحن المسلمون حقاً» علي ما في هذا القول من سخرية مريرة، ثم استدعي ستين شيخاً من شيوخ الأزهر، وهو المسجد العظيم في القاهرة، فجاءوه تحفهم أسمي مراسم التكريم العسكرية، ومن ثم انطلق في الحديث فامتدح النبي بعبارات توخي فيها الحرص الشديد، وناقش معهم كتاب محمد الذي وضعه فولتير، ويبدو أنه نجح في حواره مع كبار العلماء، والواقع أن الناس لم تصدق زعم نابليون، أنه مسلم، ولكن فهمه وتعاطفه للإسلام خفف من حدة عداء السكان تخفيفاً كبيراً ولم تتمخض حملة نابليون عن أي شيء، إذ كان مآلها الهزيمة علي أيدي الجيوش البريطانية والتركية، ومن ثم أبحر عائداً إلي أوروبا.
الحجاج الصليبيين
أما القرن التاسع عشر فقد اتسم بالروح الاستعمارية التي أوحت للأوروبين بعقيدة سقيمة هي تفوقهم علي الأجناس الأخري وشعورهم بأن من واجبهم إنقاذ العالم الهمجي في افريقيا وآسيا، والقيام في هذا الطريق بحمل رسالة الحضارة إليهم، وقد أدي ذلك حتماً إلي التأثير في النظرة الغربية إلي الإسلام، خصوصاً بسبب أطماع الفرنسيين والبريطانيين في الامبراطورية العثمانية المضمحلة، وهكذا نجد في كتابات أحد أنصار المسيحية في فرنسا وهو «فرانسوا رينيه دي شاتوبريان» علي سبيل المثال إحياءً للمثل الصليبي الأعلي، مع تطويعه لمواءمة الأحوال الجديدة، بعد أن بهرته حملة نابليون، ورأي فيه سمات الحجاج الصليبيين فكتب يقول إن الصليبيين حاولوا نشر المسيحية في الشرق، وهي أقرب الأديان إلي إذكاء روح الحرية»، ولكنهم اصطدموا في جهودهم الصليبية بالإسلام، وهو «عقيدة معادية للحضارة، وهي تشجع بانتظام علي انتشار الجهل والاستبداد والرق»، وهكذا أصبح الإسلام من جديد إبان التهور الذي أعقب الثورة الفرنسية نقيضاً لما «نحن» عليه. وكان بعض نقاد الإسلام أيام الفكر الطبقي الذي ساد العصور الوسطي يهاجمون محمداً لأنه منح الطبقات الدنيا سلطات أكثر مما ينبغي - مثل العبيد والنساء. وقد انعكس بعد الثورة الفرنسية هذا الوضع، لا بسبب زيادة معرفة الناس بالإسلام، بل لأنه أصبح ملائماً لما نحتاج «نحن» إليه، ولأنه أصبح «الآخر» الذي يمكن أن نحكم علي إنجازاتنا بالقياس إليه.
وفي عامي 1810 و1811 نشر شاتوبريان كتاباً لاقي نجاحاً ساحقاً عنوانه «الرحلة من باريس إلي أورشليم ومن أورشليم إلي باريس» أطلق فيه العنان لخياله الصليبي في وصف الأحوال في فلسطين، فكتب يقول إن مظهر العرب «يوحي بأنهم جنود بلا قائد، ومواطنون بلا مشرعين، وأسرة بلا أب» وهم نموذج «للإنسان المتحضر الذي سقط من جديد في هوة الهمجية والوحشية» ومن ثم فإن حالهم يستدعي سيطرة الغرب، لأنه من المحال أن يتولوا بأنفسهم إدارة شئونهم، أما القرآن فيقول إنه لا يتضمن «مبدأ واحداً من مبادئ الحضارة، ولا فرضاً يسمو بأخلاق الإنسان»، فالإسلام يختلف عن المسيحية في أنه «لا يحض علي كراهية الطغيان أو علي حب الحرية».
ملفات منحطة
وحاول إرنست رينان عالم اللغة الفرنسي الذائع الصيت أن يقدم تفسيراً علمياً لهذه الأساطير العنصرية والإمبرالية الجديدة، فقال إن العبرية والعربية من اللغات المنحطة، وهما تمثلان انحرافاً عن التقاليد الآرية، ومن ثم أصبحت عيوبهما تستعصي علي العلاج. وقال إنه لا ينبغي دراسة هاتين اللغتين الساميتين إلا باعتبارهما نموذجاً للتطور الذي توقف عند مرحلة معينة، وإنهما تفتقران إلي الطبيعة المتقدمة والمتطورة للنظم اللغوية لدينا «نحن» ولذلك فإن كلاً من اليهود والعرب يمثلون «مجموعة متدنية من عناصر الطبيعة البشرية».
ويضيف قائلاً: «يشهد المرء دلائل في كل شيء علي أن العنصر السامي، فيما يبدو لنا عنصر ناقص بسبب بساطته، وإذا كان لي أن أضرب لذلك مثلاً، قلت إن مقارنته بالأسرة الهندية الأوروبية تشبه مقارنة رسم بالقلم الرصاص بلوحة زيتية، فهو يفتقر إلي التنوع والثراء والجفول بالحياة، وهي شروط الكمال. إن الأمم السامية تشبه الأفراد الذين لا يتمتعون إلا بأدني قسط من الخصوبة، فإذا انتهت طفولتهم السعيدة، لم يصلوا إلا إلي أقل حد من الفحولة، فلقد شهدت هذه الأمم عصر ازدهارها الكامل في مطلع حياتها، ولكنها لم تستطع مطلقاً أن تبلغ النضج الحقيقي».
وهكذا يصهر الكاتب اليهود والعرب في بوتقة واحدة ليخرج صورة موحدة تعلي من شأن شمائلنا «نحن» وتؤكد تفوقها. ولقد كان لهذه النزعة العنصرية الجديدة عواقبها الوخيمة، بطبيعة الحال، علي اليهود في أوروبا، إذ استقي هتلر ما يلزمه من أنماط الكراهية المسيحية القديمة في حملته العمانية الصليبية علي اليهود، فلم يكن يطيق وجود عنصر أجنبي علي التربة الأوروبية الآرية النقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.