غدا يوافق الثاني من نوفمبر, وهو يوم لا ينساه تاريخ الإذاعة المصرية ولا ينساه جيل الإذاعيين الذين عاشوا ساعاته وعاصروا أحداثه, وقدموا فيه برامج وأغنيات مازالت تتردد وتعيش في الوجدان رغم أنه مر عليها واحد وستون عاما, وقائع ذاك اليوم تعطي دلالة قوية علي ما بذله أبناء4 شارع الشريفين من المذيعين ومقدمي البرامج حفزا وتحفيزا لهمم أبناء الوطن ورفع روحهم المعنوية ذودا عن حياض المحروسة ولو بذلوا في سبيل ذلك الدم والروح والمال, ونفس الأمر بذله مهندسو الإذاعة العاملون في مركز إرسال أبو زعبل عندما لم يأبهوا بالقنابل تتساقط عليهم تقذفها طائرات العدوان الغادر فقصفت صواري الإرسال ليتوقف صوت مصر, ولكن خاب مسعي العدو ولم يتوقف صوت مصر, وهذه هي القصة والحكاية في السادس والعشرين من يوليو1956, قالت مصر كلمتها علي لسان قائدها وزعيمها جمال عبد الناصر الذي أعطي للاستعمار لكمة قاسية أفقدته صوابه وجرعته كأس المرارة, فكان خطابه التاريخي بتأميم قناة السويس الدرة المكنونة واللؤلؤة الفريدة التي يزدهي بها الاستعمار ردا علي سحب وعود المستعمر بالمساهمة في بناء السد العالي. ومنذ ذاك اليوم والاستعمار يتربص بمصر وهدفه القضاء علي الثورة الوليدة التي زلزلت أركانه وقضت مضاجعه, فكان التآمر بين دول العدوان الثلاث علي احتلال القناة لتعود مرة ثانية إلي أحضانهم, وكان أن دبروا خططهم الماكرة, ولكن يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين, ومع نهايات أكتوبر1956 بدأت المؤامرة ممثلة في هجوم إسرائيلي علي سيناء, وتبع ذلك إعلان انجلتراوفرنسا بضرورة ابتعاد القوات المحاربة لمسافة عشرة كيلو مترات من شطي القناة, هنا تكشفت المؤامرة, ولكن مصر لم ترضخ ولم تستسلم كان شعارها الذي بثته الإذاعة في صورة تشتد بصوت المجموعة وهو نشيد حنحارب حنحارب كل الناس حتحارب وتجاوب الشعب مع النشيد إلي جانب ذلك كانت فرنسا تعاني الأمرين من صوت الإذاعة المصرية الذي كان يبث الحمية في نفوس أبناء الجزائر أثناء ثورة المليون شهيد فقدمت الأغنيات الحماسية والأحاديث تأييدا وتشجيعا للثوار ضد الاستعمار الفرنسي, إضافة إلي وجيعتها اجراء تأميم القناة, وبدأ العدوان الثلاثي وزحفت الأساطيل اتجاه بورسعيد, وبدأ العدو يشن غاراته, وكانت الإذاعة المصرية مستعدة للأحداث, فقامت بحشد جهود أبنائها وجهود الكتاب ورجال الأدب والصحافة وجموع الفنانين من أجل المعركة, وتقاطر الجميع علي4 شارع الشريفين يحثون المواطنين علي الذود عن حياض الوطن, وقام المذيعون ومقدمو البرامج بالتجوال في أنحاء مصر يسجلون مشاعر المواطنين وكيف أنهم سيخوضون المعركة إلي آخر نقطة دم معلنين عن رغبتهم في التطوع بصفوف القوات المسلحة أما الأناشيد والأغنيات فكانت تهز المشاعر وتحفز الهمم, وتمثل ذلك في نشيد الله أكبر الذي كتبه عبد الله شمس الدين ولحنه محمود الشريف وأدته المجموعة, وكذلك أغنية دع سمائي فسمائي محرقة لفايدة كامل وتأليف كمال عبدالحليم وتلحين علي اسماعيل, وأمانة عليك أمانة يا مسافر بورسعيد لإسماعيل الحبروك وغناء شادية ثم الأغنية الجميلة الخالدة يا أغلي اسم في الوجود تأليف الحبروك وتلحين الموجي, وغناء نجاح سلام كل هذا جعل طائرات العدو تقصف صواري الإرسال في أبو زعبل ليصمت صوت مصر وأصبحنا نحن أبناء الإذاعة, وكأننا كاليتامي, ولكن ذلك الأمر لم يستمر إلا دقائق معدودة لم تتجاوز الأربعين, فقد انطلق علي الفور صوت أحمد سعيد, وصوت صاحب هذه السطور من محطة إذاعة أقيمت علي الفور كانت هذه الإذاعة في صناديقها علي وشك أن ترسل للمجاهدين الجزائريين,, وكانت موجودة علي سطوح مجلس الوزراء في شارع مجلس الشعب فأقامها المهندسون علي الفور وكلنا نردد شعارات الكفاح والبذل من أجل مصر, وتمكن مهندسو أبو زعبل تحت القصف والقنابل من إصلاح الأعطال ليقف الزعيم عبد الناصر علي منبر الأزهر بعد حوالي ساعة ونصف الساعة من قصف محطات الإرسال, وبعد أن عاد صوت مصر ليعلن للعالم أجمع أننا سنحارب إلي آخر قطرة من دمنا, وظلت الإذاعة تبث أغانيها وأحاديثها حتي تحقق النصر ورحل المستعمر إلي غير رجعة.