تشبهني كثيرا, شكلا وموضوعا. تشرق شمس الصباح بين ثنايا ابتسامتها الوضاءة, ويرحل سنا بدر السماء عندما تغفو في نومها الملائكي. بشاشة وجهها لا يعكر صفوها طقس سيئ أو مزاج متقلب عدا صباح اليوم. خيل إلي أن ثمة لؤلؤة تشبه الدمعة تتساقط من عيون صبوحة لا تعرف الحزن, هكذا كنت أظن. وضعت يدي فوق جدائل شعرها المسدل علي كتفيها أتحسس أفكارها كما اعتدت أن أفعل وهي صغيرة حتي تبوح لي بما يشغل بالها. إلا أن ابتسامتها الحزينة أبت أن تخرج شعورا دفينا إلي ثغر اعتاد الكتمان. وفي حوار متوارث ومعتاد بين الأجيال المختلفة ليظل إلي أبد الآبدين بلا معني وبلا إجابة: مالك يا مي ياحبيبتي؟ لم تلتفت إلي حتي لا أري المزيد من قطرات الحزن التي تسكبها مقلتين إكتوتا بنار الفراق وغلفهما صمت الأموات: مفيش يا ماما. ضممتها إلي صدري وأنا علي يقين أنها تستعيد, مثلي تماما, شريط حي لذكريات أسرة صغيرة سعيدة, يتنامي فيها صدي صوت ضحكات طفولة بريئة, وألوان زاهية لرحلات دنيا ما وراء البحار. حياة كاملة مع والدها, الذي ورثت عنه حسن الطلعة وطيبة القلب, تحولت إلي دمعة حارة تشق طريقها فوق وجنتيها لتفصل بين الموت والحياة. ويبدو أن دموع الصمت أيقظت ابني لينضم, في ذكري ميلاد والده, إلي ميراث من الشهامة ونظافة اليد وطيب السيرة. اكتنفنا الصمت الأسود ونحن ننظر إلي ملامح جميلة لصورة قديمة هي كل ما تبقي منه أمام أعيننا. لقطة مضيئة لذكري سعيدة أهداها لها الزمن لتكسو بها جدارن غرفتها علها تسد حاجتها من حرمان أبوي لا يد لها فيه. أما القلب, فلا أعتقد أنه في حاجة إلي ذكريات, فهو يتدفق بشريط لا ينتهي لصيدلي ماهر, بطل في التجديف, موسيقي بارع, ابن بار, أب حنون.. وأفقت مذعورة علي صوته الذي أعادنا إلي الزمن الحقيقي للحياة: كفاية عياط, والتفت ناحية الصوت وكأنني أراه رؤي العين, فإذا بشبيهه شكلا أيضا ومضمونا: هو كان بيحبنا جدا وأكيد مش مبسوط دلوقتي. تحبوا نروح نزوره ونقرأ له الفاتحة ونسلم عليه؟ وسارعنا بدون تفكير إلي هذا المسكن الروحاني في دنيا الآلام والأحزان:تفتكر يا باسم هو مستنينا علشان النهارده16 مارس عيد ميلاده؟ أجابها باسم بعيون جميلة حائرة, ودمعة حزينة غائرة: لو مش مستنينا في الدنيا أكيد مستنينا في الآخرة. وتباعدت أصوات الأبناء ومرق بخاطري كالبرق الخاطف صوت وصورة صديقي وأستاذي ومعلمي, الذي أفتقده بشدة, الشاعر عبدالرحمن الأبنودي. كان علي فراش المرض, وكنت أجلس بجانبه بالساعات يقص علي, ببراعة لا مثيل لها, الماضي الذي ينقله إلي حاضرنا دون أن أغادر مقعدي الأثير في المستشفي الأمريكي بباريس. وكان ينزع قناع الأكسوجين, الذي يساعده علي التنفس, ليستكمل بصعوبة متناهية وسعادة بالغة قصصا طريفة من حياته الحافلة. وفي نهاية كل قصة كان يعيشها الحكاء الخالد كان يقول لي, قبل أن يعيد القناع علي وجهه الشاحب, جملة حكيمة لم أفهمها آنذاك: حنان يا بنتي, عارفة العمر قد إيه؟ طال أم قصر فهو خمس دقائق, مش أكثر. ماما انتي سرحانة في إيه؟ انتي جاهزة علشان ما نتأخرش علي الزيارة؟ لم أرد أن أجيب الأبناء الأعزاء بأن الوقت عند الأموات لا يعني الكثير, وأن الوقت عند الأحياء هو أقل من خمس دقائق. بل إنني أكاد أجزم أن العمر هو لقطة.. في لحظة.