بعد أسبوع حافل ما بين الندوات والكتابات والمحاضرات واللقاءات التليفزيونية وغير ذلك من متاعب العمل العام, قررت أن أنسلخ من الحياة المهنية, التي أستمتع بها كثيرا, لأذهب مع أصدقائي المقربين لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في العين السخنة. كان علينا أن نلتقي في مكان ليس بالبعيد عن وسط البلد لنستقل بعد ذلك سيارة واحدة ونبدأ الرحلة. تحت أشعة شمس القاهرة الذهبية ودفء قلوب الأصدقاء الصافية, بدأ اللقاء بالتحيات والإبتسامات والأشواق الأسبوعية. ثم أخذت السيارة تشق طريقها الذي تعرفه جيدا إلي الجبال والمياه والرمال الحمراء. لم تكن الساعة قد تجاوزت السادسة والنصف صباحا بعد, فالبركة في البكور. ويبدو أننا لم نكن نحن فقط ممن يتذكر تلك المقولة المدرسية. فأثناء تجاذب أطراف الحديث والناس نيام, أو هكذا خيل إلينا, وجدت في أول ميدان اخترقته سيارتنا في قلب القاهرة, مجموعة من شباب صغير السن يقود دراجات سوداء اللون, وخوذات يختلط فيها الأسود بالأبيض, يضعون قفازات سميكة وأحذية رياضية نظيفة بل ومعتني بها كقطعة فنية. كانوا يرتدون زيا في هيئة موحدة تسر الأعين المتشوقة لهذا الصباح الرياضي الذي لا نراه إلا أثناء رحلاتنا خارج البلاد. وأتذكر تعليق صديقاتي: دول أكيد أجانب عاملين رحلة ب( العجل), ماهو الأجانب بيستمتعوا ببلدنا أكتر مننا, علشان كده بيبقوا مش عايزين يرجعوا بلادهم. وتوالت الضحكات والتعليقات كالإكليشات المصبوبة في عقولنا منذ الصغر. وتباطأت السيارة فوق الكوبري الذي يمر باستحياء علي مياه النيل. صفحة رقراقة تدغدغ سطحها أشعة شمس المحروسة صباحا, وتعكس مياهها سنا قمر العاشقين مساء. ساقتني عيناي إلي فتية يجدفون بقوة وسلاسة في قارب صغير يشق طريقا في قلب النهر العظيم بجرأة ومهارة كأنهم يفتحون طريقا جديدا في مصرنا الحبيبة. وبادرت أصدقائي: دول كمان أجانب ؟ البشرة الخمرية والقوة العضلية والإصرار علي المضي قدما لا يمكن أن يكون إلا لسواعد مصرية. وقبل أن تمطرني صديقتي بوابل من التعليقات السلبية لمقارنات في غير محلها, فتستعير كعادتها من فيلم الإرهاب والكباب جملة في أوروبا والدول المتقدمة, قطعت علينا حبل أفكارها البالي سيارة شرطة تتهادي أمام فوج تتناغم ألوان زيه المبهجة مع ابتسامات الفتيات وإشراقة شباب في عمر الزهور. كان الجميع يركضون وهم يتنسمون هواء الصباح الباكر العليل بلا أدني مشقة أو تعب حتي وصلوا أمام باب مركز شباب الجزيرة. تباعد صوت ضحكات صديقاتي داخل السيارة, وأخذ سوط تفكيري يجلدني.. لماذا نتحدث دائما عن انهيار البناء المجتمعي الذي يشكل الشباب العامل الرئيسي في تكوينه ؟ لماذا نكتب عن إصرار الشباب علي الموت غرقا في قوارب الهجرة غير الشرعية ؟ لماذا نغذي منظومة الإعلام المرئي والمقروء والمسموع ضد مراكز الشباب الهرمة وانتشار المخدرات والمنشطات وتفشي السلوكيات المشينة؟ وهنا استيقظت بداخلي روح جديدة, روح تقفز لعنان سماء غد أفضل, حتي إنني وجدتني فجأة أنادي: عم رضا, وقف العربية هنا لو سمحت. مين حتنزل معايا ناخد صورة النهاردة مع بكرة اللي جاي؟ وسارعنا جميعا بمغادرة السيارة نهرول للحاق بهذا الركب جميل الهيئة سريع الحركة لالتقاط ذكري سعيدة مع فجر الأيام القادمة. وكانت اللقطة مع المولودة الجديدة التي جاد بها شباب مصر علي الوطن الأم.