أخذت اجازة من كشكول الأحزان وهم الأيام ونكد الزوجات وتفرق الصحاب وذنب الأصحاب.. وصحبة اللئام وكيد الزمان.. وما ادراك ما كيد الزمان.. لكي اخلو إلي »حالي ومحتالي« وأذهب بعيدا عن صخب العاصمة.. وعراك المحطات الفضائية.. وفرقعات قنابل الغدر.. لكي أعرف وأفهم ما يدور من حولنا وما تخفيه لنا الدنيا.. إن شرا نراه.. وان خيرا برضه نره! وها انذا أذهب وحدي .. إلي آخر نقطة علي حدود بلادي.. ولا صراخ فيها ولا عويل.. ولا حتي ضارب مواويل.. علي الناي أو علي الارغول.. كما كنا نسمع ونعيش ونردد مواويل المغنواتي ونافخ الارغول وعازف الناي في ضي القمر تحت شجرة وارفة الظل والطل وروايح الياسمين والفل والليل ساكن هاديء .. بعد أن سكنت ضواري الشر في الصدور وشبعت القلوب حبا ونام الصغار في أحضان الأمهات.. علي وسادة الحنان والشبع! ركبت قاربا بمجدافين ذات صباح ندي.. شمسه مازالت في خدرها لم تطلع علي الدنيا بعد بنورها وحرها.. القارب يسبح الآن في بحيرة البرلس صاحبه عجوز جاوزت حبات عقد عمره السبعين حبة وربما أكثر ولكنه مازال قويا قادرا عفيا.. زادنا في القارب صفحات منزوعة من صحف مصرية وأجنبية .. وهذا المخبول الذي اسمه المحمول الذي «يجيب التايهة».. ويصحي النائم.. ولا يعترف بفارق زمان أو مسافة أو ليل أو نهار.. ويحمل معه غير مبال.. كل اسرار الدنيا حتى اعتباب هذه الجزيرة الصغيرة المنعزلة القابعة وسط البوص والهيش وماء البحيرة وسمكات صغيرة تقفز هنا وهناك مع ضربات مجداف الحاج مسعد القناص الذي يعرف التايهة في بحيرة البرلس التي نسبح بقاربنا في مائها الآن.. والدنيا من حولنا «هس هس ولا حس ولا نفس..» إلا أنفاس عم مسعد وأنا.. وهذا المخبول الذي اسمه المحمول.. .......... .......... رسونا بقاربنا علي شط جزيرة غريبة ومريبة كأنها جزيرة قرصان من قراصنة العصور الوسطي كما كنا نشاهدها في أفلام رحلات جاليفر وماجلان.. وقرصان أعالي البحار.. وتصورت أنه سوف يطلع لنا من داخل هذا الكوخ الخشبي الوحيد المتهالك الذي لا يكاد يصلب طوله قرصان بعين واحدة وطاقية حمراء بذيل طويل يدخن البايب ويمسك في يده زجاجة لا أعرف ما فيها.. يعب منها عبا.. ثم يتقرع أي يتجشأ بالفصحي ويأمر اتباعه أن يقيدونا بالحبال.. وهو يضحك ضحكته الشيطانية.. ولكن بدلا من هذا المشهد السينمائي الشيطاني.. خرج من الكوخ صياد صلب العود ومن خلفه امرأة عفية تتدثر بالسواد قدمها لنا عم مسعد صاحب المركب بقوله: ابني عوض والست بتاعته.. بنت عمه.. لم يذكر اسمها لأنه لا يجوز كما قال هو في هذه البلاد الخفية الطاهرة الزكية أن نذكر علي الملأ اسما زوجاتنا وبناتنا كما يفعل أهل البندر المنفلتين وهي نفس عبارته! قلت له: زي أيه كدة يا عم مسعد؟ قال: عيب أن نذكر اسم الزوجة أمام القريب والغريب قلت له: أمال نقول أيه؟ قال: نقول الجماعة.. الست بتاعتي.. حرمنا المصون..أم الأولاد..! قلت له ضاحكا: في مجتمع الموظفين بيسموا زوجاتهم.. الحكومة! يسألني: طب ليه؟ قلت: عشان هي التي تتحكم في حركة الحياة في البيت والأسرة كلها.. وهي التي تمسك في يديها ميزانية البيت.. فهق بحق رئيسة وزراء البيت المصري! .......... .......... لم يتركني المخبول.. الذي اسمه المحمول أهدأ أو ارتاح من سيل الأخبار النكدية.. وأغلبها في مرارة العلقم.. بل راح يمطرني بوابل من الأخبار التي تمطر نكدا وألما وشرا مستطيرا.. أول خبر: استشهاد خمسة عسكريين بينهم ضابط وإصابة 3 مجندين من القوات المسلحة في انفجار مدرعة بالشيخ زويد في شمال سيناء! ثاني خبر: مصرع سيدة في انفجار جسم غريب عثرت عليه بجوار محكمة إطسا في الفيوم. مصرع طالبين فى الكلية الحربية.! وبعدين خبر: بيت المقدس يعلن مسئوليته عن مقتل جنديين داخل مدرعة شرطة في العريش! وهذه الكارثة التي حلت بالعريش فجرا.. سيارة مفخخة تحمل 2 طن متفجرات تقتحم بوابة قسم شرطة ثالث بالعريش.. تحدث دويا هائلا ودمارا بلا حدود.. والحصيلة مصرع رئيس مباحث قسم الشرطة و8 شهداء + نحو عشرين مصابا! التعليق من فم عم مسعد: لحد امتي حنخلص من حرب العصابات دي في شمال سيناء.. وبعدين احنا كل يوم بنقتل من التكفيريين دول عشرة خمستاشر خمسة وعشرين هما كام عشرة وكام خمستاشر وكام خمسة وعشرين.. أيه جيش بحاله من عصابات جماعات بتسمي نفسها بيت المقدس وجند الله وجماعة النصرة وكلها جماعات تكفيرية جاءت تعبث في أرضنا فسادا ودمارا وقتلا ودما أنهارا.. تديرها وتحركها في الخفاء عواصم دول كبري تريد لمصر شيء مستغيرا! .......... .......... ندخل في نفق الأخبار الغارقة في السواد والظلمة وقهر الإنسان لأخيه الإنسان.. الخبر أمامي علي شاشة هذا المخبول الذي اسمه المحمول.. يقول أو يصيح في وجوهنا بالصوت الحياني: الحقوا مخيم اليرموك في سوريا.. التي ضاعت وتمزقت وسالت دماء ابنائها أنهارا وتفرق شعبها وأصبح مشردا تائها بين الدول في معسكرات للاجئين. هذا المخيم الذي يضم آلافا من اللاجئين الفلسطينيين.. استولت عليه عصابات داعش أخيرا.. بعد أن هزمت كتائب حزب الله.. يا سبحان الله.. وأصبح المعسكر وأهله وأطفاله ونساؤه تحت رحمة من لا يرحم في هذا الزمان.. انها جماعة داعش قدر العرب وطالعه السيء في هذا الزمان الأغبر وجهة النكدي طالعة.. والمخيم ونساؤه وأطفاله وشبابه وشيوخه أصبح تحت رحمة من لا يرحم.. ليكرروا مأساة حصار القوات السورية ومعها ترسانة الكتائب معسكر تل الزعتر قبل 39 عاما في عام 1976 عندما قامت الكتائب باعدام المرضي قبل الاصحاء والنساء قبل الرجال.. بل انهم بقروا بطون النساء الحوامل أيامها وقتلوا الأطفال رميا بالرصاص.. يا ساتر يارب! اسمعكم ترددون.. واليوم تتكرر المأساة نفس المأساة.. لمخيم اليرموك.. واتذكر كلمات من أبيات الصديق الشاعر فاروق جويدة التي كتبها قبل 39 عاما رثاء لضحايا مخيم الزعتر ويقول فيها: يا زمن العار نبيع الأرض.. نبيع العرض.. ونسجد قهرا للدولار.. سأظل أقاوم هذا العفن.. لآخر نبض في عمري.. سأموت الآن.. لينبت مليون وليد.. وسط الأكفان علي قبري.. وسأرسم في كل صباح.. وطنا به يوما في صدري! إنه سيف أخي الذي يخطئ وجهته باستمرار كما يقول الدكتور ناجح إبراهيم في جريدة الشروق انه سيف الذي لم يتعلم من مسيرة خالد بن الوليد في موقعة اليرموك ومن سعد بن أبي وقاص في موقعة القادسية.. ومن صلاح الدين في حطين ومن السادات في ملحمة 6 أكتوبر! .......... .......... ظهري يستريح الآن علي جدار الكوخ المبني من عيدان البوص والهيش والحبال التي تحزمه وتصلب طوله.. وقدماى تعبثان في مياه البحيرة وتداعب القواقع وحبات الرمال.. وأخبار يحملها إلي عيوني وعقلي ووجداني ذلك المخبول الذي اسمه المحمول.. علي هذه الجزيرة المنعزلة الغارقة في لباسها البكر كأنها ولدت وخرجت إلي الوجود هذا الصباح الصحو المتحفي.. ومراكب الصيد بأشرعتها البيضاء تتمايل وتتمختر علي صفحة مياه البحيرة التي أصبح لا يحويها بصر.. ولا صوت إلا صوت طيور النورس التي تمسح سطح المياه بعيونها بحثا عن صيد تنقض عليه بمنقارها المدبب ليكون لقمة سائغة لصغارها القابعين في مخبئهم الذي لا نعرف مكانه إلا هي. لأنه لا أثر لوجود كهرباء هنا.. ولا أثر لوجود شاشة تليفزيونية.. أو حتي شاشة لاب توب أو خبر أو صورة إلا علي شاشة الموبايل الذي يجيب التايهة. يا سلام كم هي جميلة ورائعة.. تلك الحياة بعيدا عن صخب المدينة وخيث رجالها ومكر نسائها.. وحدث ولا حرج عن تلك الأقنعة التي علي كل لون وكل صنف التي يضعها رجال البندر ونساء المدينة فوق الوجوه قبل أن يخرجوا أو يخرجن إلي الطريق لهذا هو جواز المرور لقضاء حوائج أهل المدينة بخيرها وشرها بخبثها بطيبتها بيقظتها بتموهانها.. وكل شيء بحساب يوم الحساب طبعا.. وحللني بقي لما ييجي يوم الحساب! العبارة الأخيرة ليست لي ولكنها لعم مسعد الذي قالها اعتباطا وكأنه سارح مثلي في ملكوت الخالق.. ليختمها بقوله: «دنيا ومرتبها سيدك»! .......... .......... مازال النهار براحا .. وأنا مستند بظهري علي كوخ الصياد العجوز.. ومازال المخبول الذي اسمه المحمول لا يرحمنا بأخباره النكدية ونحن في ساعة صفو تحت سماء صحو الخبر يقول: وزير التجارة يعلن: منع استيراد كل الفوانيس الرمضانية من الصين.. والاكتفاء بالإنتاج المحلي! التعليق هنا لعم مسعد: ميت فل وأربعتاشر أهو ده الكلام الصحيح.. خللي أولادنا وعمالنا وفنانونا في خان الخليلي وسكة البحر والجمالية والمغربين وباب زويلة يرجعوا من تاني ويقدمولنا الفوانيس الرمضانية الأصيلة وعرايس المولد.. اللي اختفت من حياتنا وأغلق صانعوها أبواب مصانعهم وورشهم وتشردوا في كل درب وراحوا يبيعون البليلة السخنة شتاء والدندرمة والجيلاتي صيفا.. وسلام مربع لغازية الليلة الكبيرة بتاعة طار في الهوي شاشي لعمك صلاح جاهين وسيد مكاوي! الخبر الأخير أمامي يقول علي شاشة المحمول: البنك الدولي تقدم لمصر مشروعا ب400 مليون دولار لمساندة مليون ونصف مليون أسرة فقيرة! التعليق هنا لعم مسعد: شوف يا باشا ياما فلوس بالمليارات جت مصر عشان الناس الغلابة لهفوها الناس اللي فوق أيام حسني ونظيف وأحمد عز وشلة رجال الأعمال اللي قعدوا في كراسي الوزراء وكراسي مجلس النواب.. لازم يكون فيه لجنة عليا تعمل تحت رقابة الرئيس شخصيا.. غير كدة مافيش حاجة مضمونة.. صدقني! .......... .......... تركت هذا المخبول الذي اسمه المحمول »يستريح من أخبار الهم والغم.. والبحث في حقيبتي رواية تحمل اسم حي أحبه اسمها: »بيت الجمالية« للصديق العزيز والروائي الذي اعتقد أنه بعد هذه الرواية سوف يجلس علي مقعد غير بعيد عن عمنا وتاج راسنا نجيب محفوظ وما ادراك ما هو نجيب محفوظ! الكاتب والروائي الذي يصعد سلم الأدب القصصي بخطوات ثابتة جادة: محمود النواصرة.. ولقد اعادنا محمود النواصرة بروايته بيت الجمالية إلي عصر بين القصرين وقصر الشوق والسكرية.. وهي ثلاثية عمنا نجيب محفوظ.. هو يحكي حكاية أسرة مصرية نقلت أخلاق القرية بحلوها ومرها إلي أهل القاهرة في عصرها الذهبي. لكن اسعدني عمنا رزق بطل الرواية وخير الكثير من المؤلف محمود النواصرة الذي يبحث عن الخير والخلق الرفيع ويحاول نقل أخلاق القرية إلي أهل الجمالية في قاهرة المعز.. .......... .......... يوقظني من سرحاني الطويل في عالم حي الجمالية.. عمنا مسعد بقوله: هيه وصلت لحد فين الغذاء جاهز! اسأله: من جهزه؟ قال ضاحكا: الحكومة! اتلفت حولي لأجد فتاة تقول للقمر قوم وأنا اقعد مطرحك.. تشبه تماما »عدلية« بطلة قصة بيت الجمالية للصديق محمود النواصرة! سألته: من هذه ومن أين أتت؟ قال: إنها ابنتي نورالعين قلت: ماشاء الله.. وجلسنا نأكل طعاما طهته يد الجمال البكر يا سبحان الله.. لقد نسينا في لحظة كل هموم أهل مصر.. والسر وجه هذه الصبية التي قال عنها توفيق الحكيم في روايته: يوميات نائب في الأرياف: »ورمش عين الصبية يفرش علي فدان«!{ لمزيد من مقالات عزت السعدنى