إن كل مسلم مأمور بأن يحفظَ لسانَه عن جميع الكلام إلا كلامًا تظهرُ المصلحة فيه، ومتى استوى الكلامُ وتركُه فى المصلحة، فالسنة الإِمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب فى العادة، والسلامة لا يعدلها شىء، وحفظ اللسان معناه كما يقول علماؤنا: أن يصون المرء لسانه عن الكذب، والغيبة والنميمة، وقول الزور، وغير ذلك مما نهى عنه الشارع الحكيم؛ ولذلك كان السلف رضوان الله عليهم حريصين كل الحرص على حفظ لسانهم قولًا وعملًا. ولهذا تقول الحكمة إنه «إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب» فاللسان على صغره عظيم الخطر، ولا ينجو من شرِّه إلا من قيده بلجام الشرع، فيكفه عن كل ما يخشى عاقبته فى الدنيا والآخرة. أما من أطلق عذبة اللسان، وأهمله مرخىَ العنان، سلك به الشيطان فى كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هارٍ، أن يضطره إلى دار البوار، ولا يكب الناس فى النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. وقد حُكى عن بعض الحكماء أنه رأى رجلًا يُكثر الكلام ويُقل السكوت، فقال: إن الله تعالى إنما خلق لك أذنين ولسانا واحدًا، ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به. وروى الربيع بن صبيح أن رجلًا قال للحسن: يا أبا سعيد إنى أرى أمرًا أكرهه، قال: وما ذاك يا ابن أخي، قال: أرى أقوامًا يحضرون مجلسك يحفظون عليك سقط كلامك ثم يحكونك ويعيبونك، فقال: يا ابن أخي، لا يكبرن هذا عليك، أخبرك بما هو أعجب، قال: وما ذاك يا عم؟ قال: أطعت نفسى فى جوار الرحمن وملوك الجنان والنجاة من النيران، ومرافقة الأنبياء ولم أطع نفسى فى السمعة من الناس، إنه لو سلم من الناس أحد لسلم منهم خالقهم الذى خلقهم، فإذا لم يسلم من خلقهم فالمخلوق أجدر ألا يسلم. ولعلنا فى يومنا هذا أشد حاجة إلى الرجوع إلى خلق الغسلام والتمسك به لما انتشر من فساد الألسنة من كذب وغيبة ونميمة، ولهذا قيل لبعض الحكماء: ما الحكمة فى أن ريح الغيبة ونتنها كانت تتبين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تتبين فى يومنا هذا؟ قال: لأن الغيبة قد كثرت فى يومنا، فامتلأت الأنوف منها، فلم تتبين الرائحة وهى النتن، ويكون مثال هذا، مثال رجل دخل الدباغين، لا يقدر على القرار فيها من شدة الرائحة، وأهل تلك الدار يأكلون فيها الطعام ويشربون الشراب ولا تتبين لهم الرائحة، لأنهم قد امتلأت أنوفهم منها، كذلك أمر الغيبة فى يومنا هذا.