نبدأ رحلتنا مع نوارة وعذابها في حمل جراكن المياه من الصنبور العمومي في منطقة الحطابة وحتي منزلها الذي تشاركها فيه أكثر من أسرة, وننتقل منه إلي رحلة بحثها مع علي زوجها مع إيقاف التنفيذ- عن والده المريض الذي لا يجد سريرا في المستشفي العام ويرفض الطبيب دخوله, لذا تقرر الممرضة المتسلطة أن تخفيه في حمام المستشفي ليجده علي في حالة يرثي لها, وبعد هذه الزيارة الكئيبة تخرج نوارة من عالمها لتدخل عالم الأثرياء حيث الفيلات الفخمة في كومبوند تحيطه الأسوار قدمت المخرجة هالة خليل نوارة التي تري فيها نموذجا لكثير من المصريين الطيبين الذين دافعت عنهم الثورة, وطالبت بالعدالة الاجتماعية من أجلهم, ويحقق فيلمها المعروض حاليا النجاح في دور العرض والنجاح في كل المهرجانات السينمائية التي يشارك فيها وحازت عنه النجمة منة شلبي علي جائزة أفضل ممثلة مرتين, الأولي في مهرجان دبي والثانية مؤخرا في مهرجان تطوان وفي هذا الحوار تحدثنا هالة خليل عن فيلمها وردود الأفعال عليه: لماذا اخترت أن يتخذ الفيلم موقفا حياديا من الثورة؟ لا, أنا لا أعتبر الفيلم حياديا, أري أنه يحمل وجهة نظر قصدتها, ولكني لا أحب أن أتحدث عنها لأني أتمني أن يدركها الجمهور بشكل حر, كنت جزء من هذه الثورة منذ بدايتها وواحدة من الناس الذين حلموا حلما كبيرا في لحظة ما رفعتنا لسابع سماء ونزلنا جميعا علي جذور رقبتنا, لذلك أصبح لدي كم هائل من المشاعر المختلطة ما بين الإحباط والغضب والعديد من التساؤلات التي أخرجت هذه الحدوتة عن الثورة من وجهة نظر البسطاء وفقراء مصر. وكيف حصلت علي الفكرة؟ قبل الثورة انتقلت للإقامة في كومبوند واستوقفني جدا الفجوة الرهيبة التي تتزايد بين أثرياء مصر وفقرائها وفكرة الأسوار التي تفصلهم, والطبقة الفقيرة التي تدخل لهذا الكومبوند يوميا للعمل لدي سكانه ثم تخرج منه للعودة إلي عالمها, وما حدث في الفيلم من هروب أصحاب هذه الفيلات بأموالهم للخارج حقيقة حيث خلت هذه الفيلات من سكانها أثناء الثورة وعاش فيها الخدم والبوابون, وهذا كله مثير جدا للتأمل والتساؤل والتفكير في ثورة كانت أهم شعاراتها العدالة الاجتماعية ولم تحقق للفقراء أي شيء بالعكس صارت أحوالهم من سيء إلي أسوأ, كل هذه التساؤلات خلقت شخصية نوارة وقصتها, ومع ذلك لا أعتبره فيلما عن الثورة فهو فيلم عن الإنسان والحلم, لأنه لا يؤرخ للثورة بقدر ما يحكي عن حدث مهم في حياة فقراء مصر وحلمهم الكبير الذي حلموا به في لحظة لم يتوقعوها ولم ينتظروها وأغلبهم لم يشارك فيها. ولكن الفيلم حصر هذا الحلم في فكرة انتظار ال200 ألف جنيه نصيب كل مواطن في الثروات المنهوبة ؟ هذا ليس بالقليل, فهذه الفكرة تعبر عن أحلام الفقراء في البحث عن حياة كريمة وأن تتحسن احوالهم, خاصة وأنهم يعيشون حياة سيئة جدا, لذا يرون أنه إذا كانت الثورة ستجعلهم يعيشون حياة أفضل ويطلعوا علي وش الدنيا فهم معها, حلم الفقراء هو أن يعيشوا حياة آدمية ويسكنوا في مساكن آدمية يجدون فيها الماء والكهرباء والتعليم وحياة إنسانية محترمة وكريمة وهو حلم كبير ومهم وإنساني, وبالتأكيد المال هو الذي سيحقق لهم هذا الحلم لذا فهو حلم كبير جدا وليس حصرا علي الإطلاق, الثورة اختارت ثلاثة شعارات أساسية عيش, حرية, عدالة اجتماعية, ونحن هنا نتحدث عن العدالة الاجتماعية والفارق الكبير بين هؤلاء الأغنياء مقابل الفقر الشديد, أغلب المصريين يعانون من الفقر الشديد, العدالة الاجتماعية لم تتحقق حتي الآن, وهي ضرورة مثل الحرية والكرامة الإنسانية, بالإضافة إلي أنه لا يوجد فيلم يتحدث عن كل شيء, فالفيلم اختيار صانع الفيلم يختار زاوية معينة ليقدم من خلالها الموضوع الذي يريده, فأنا لا أقدم بحثا أو دراسة مستفيضة عن الثورة حتي أتناولها من كل الزوايا, الفن ليس هكذا. وماذا عن المقارنة بين العالمين من خلال طريقة التصوير؟ المقارنة بين المجتمعين مقصودة وأساس التفكير في الفيلم هو الانتقال ما بين هذين العالمين المتناقضين, العالمان موجودان في مصر وبهذا الفارق الشاسع, ونحن نتتبع نوارة التي تنتقل بينهما يوميا في رحلة الذهاب والعودة ونتابع تفاصيل العالمين, وهموم كليهما أيضا, فعالم الأثرياء له همومه ومخاوفه من ضياع النفوذ والسطوة والثروة في هذه الفترة من الثورة بالتحديد, بينما عالم الفقراء لديه هموم أبسط لكنها كبيرة بالنسبة لهم مثل هل الثورة ستجعل الحكومة توصل الماء للمنطقة التي يعيشون فيها؟, وهل ستتحسن أحوالهم؟, يعنيني الفارق بين هموم الاثنين وحاولت التعبير عن هذه المقارنة بصريا من خلال الصورة. وهل اختيارك لأمير صلاح الدين في دور علي زوج نوارة أجبرك علي تعديل السيناريو ليناسب شخصية النوبي؟ لا لم يحدث أي تغيير في المشاهد والتعديل الوحيد في السيناريو هو أن الاسرة أصبحت نوبية, فقد أحببت هذه الفكرة, فهي من البداية أسرة شعبية عادية وما أكثر الأسر النوبية في الأحياء الشعبية, وجميعنا لدينا جيران من أسر نوبية, فهو نسيج طبيعي جدا في المجتمع وليس غريبا عنه, فما المانع من التعامل معه, كما أن تواجد النوبيين علي الشاشة قليل جدا لهذا وجدتها فرصة جيدة أن تكون لدينا أسرة نوبية في الفيلم وإن كان موضوع النوبة لا يعنيني هنا بشكل أساسي بقدر ما يعنيني أننا إذا كنا نقدم' بورتريه مصري' فهذه لمحة مصرية جدا تضيف إليه. وكيف قمت باختيار أماكن التصوير؟ عاينت الكثير من الأماكن ووجدت في منطقة الحطابة الأجواء التي أبحث عنها وهي اجتماع أكثر من أسرة في منزل واحد, كل منهم في غرفة والحمام مشترك بينهم, وهي النماذج التي أعرف جيدا أن هناك الكثير منها في مصر, كما توفر فيها صنبور المياه العمومي الذي تذهب إليه نوارة يوميا فهو صنبور حقيقي موجود في المنطقة ويستخدمه الأهالي, ومكان التصوير الثاني الذي يضم محل علي وبيته كان في منطقةبولاق أبو العلا. ولماذا جعلت من نوارة شخصية مثالية جدا, فهي لم تسع لاستغلال الموقف بعد أن أصبحت المسيطرة علي المنزل؟ لسببين, أولا أني أعرف الكثير من الناس مثلها تماما يأسرهم عطف الأسرة التي يعملون لديها عليهم, طالما أنهم يعاملونها بلطف وكرم وإذا احتاجت إلي أي شيء تجد منهم المساعدة والعون, وتراهم في صورة باشوات كبار وطيبين, وشخصية نوارة لها مبررها حيث إنها تربت في بيت هذه الأسرة وتتردد عليه منذ الصغر لأن أمها كانت خادمتهم أيضا لذلك لديها ولاء تجاههم, والسبب الثاني الأهم هو أني في هذا الفيلم منحازة لهذه الطبقة ولايعنيني أن أقدم فيها أخيارا واشرارا, لأني صنعته خصيصا انحيازا لهم وأريد تقديمهم بصورة مثالية لأني أعرف أن فيهم كثيرين بهذا النقاء والطيبة وأحلامهم بسيطة جدا وليس لديهم أطماع, وقدمت نموذجا بسيطا للأشرار مثل أصدقاء علي الذين حاولوا دفعه لسرقة الفيلات, ولكني في هذا الفيلم أريد التركيز علي الشخصيات الجميلة فيهم وليس السيئة. وما الدافع لهذا الاختيار؟ للتأكيد علي أن هؤلاء هم من دفعوا ثمن الثورة باهظا ولا يزالون يدفعون هذا الثمن, اخترت الانحياز لهم ورغم هذا لم أجعل من الأثرياء أشرارا باستثناء شخصية الاخ عباس أبو الحسن, وكل ما نراه في هذه الأسرة هو أن همها الأول حماية نفسها والحفاظ علي ممتلكاتها ولم نر منهم أي شر أو قسوة, نوارة بالنسبة لي تمثل المصريين الطيبين أصحاب الأحلام البسيطة, الذين يحملون بداخلهم رضا كبيرا علي الرغم من ظروفهم السيئة والفقر والاحتياج, يقولون دائما الحمد لله احنا أحسن من غيرنا رغم أنهم في أسوأ حال, قطاع كبير جدا من المصريين طيبين وراضيين وأحلامهم بسيطة. وما الذي تمثله شخصية عباس أبو الحسن؟ هو بالنسبة لبناء الفيلم مرحلة الكشف التي تقاومها نوارة منذ البداية, فهي تقاوم فكرة أن هذا الرجل الذي تعمل في منزله مثل باقي الفاسدين الذين هربوا وتركوا البلد خوفا من الثورة, إلي أن تأتي لحظة قوية جدا لاتسمح لها أن تضحك علي نفسها أكثر من ذلك, عندما يضربها أبو الحسن ويسرد تفاصيل فساد أخيه. كيف ترين ردود الأفعال علي الفيلم؟ منذ بداية عرضه وأنا أتابع الجمهور, وأري أنه يتفاعل مع نفس الأشياء التي تمسني وتوجعني جدا من الداخل, وتفاءلت بهذا وشعرت أني قريبة من الناس وأن أوجاعي هي أوجاعهم وما أشعر به هو ما يشعرون به, فهناك جمل بعينها يصفق لها الجمهور ليس إعجابا بقدر ما هو وجع مثل جملة محمود حميدة كل حاجة هترجع زي الأول, كلنا داخلنا هذا الوجع, ولولا أن الراحل يوسف شاهين أخذ اسم حدوتة مصرية لكنت سميت هذا الفيلم حدوتة مصرية لأني أتصور أنها كذلك, هذه الحدوتة تمس الكثير من أوجاع المصريين.