مشهد من «نوارة» الذين كانوا يتباكون علي صناعة السينما المصرية، ويؤكدون أنهم لم يدخلوا قاعة سينما لمشاهدة فيلم مصري من سنوات، آن لهم أن يعودوا مطمئنين، فهناك بشائر طيبة تؤكد أن هناك صحوة قادمة، بدأت معالمها من الموسم السينمائي المنصرم، من خلال أفلام مثل «قدرات غير عادية»، و«باب الوداع»، و«خارج الخدمة»، و«سكر مر»، و«بتوقيت القاهرة»، وهي أفلام أثبتت نجاحها في الداخل وفي المهرجانات العربية أيضا، وهذا الموسم الذي بدأ مع مفاجأة فيلم «نوارة»، سوف يشهد مجموعة من الأفلام المهمة، لمخرجين كبار في حجم محمد خان ويسري نصر الله، وخالد الحجر، وكاملة أبو ذكري! فيلم «نوارة» كتبت له السيناريو وأخرجته هالة خليل، تدور أحداثه بعد أيام قليلة من خروج حسني مبارك من سدة الحكم بعد أن ظل قابعا لأكثر من ثلاثين عاما، والفيلم ينكأ الجراح مرة أخري، ولو أنها لم تكن قد اندملت بعد، لإحسان عبد القدوس، قصة قصيرة باسم جرحي الثورة، يقصد بها فئة أبناء الطبقات الأرستقراطية التي أصابها الأذي، بعد ثورة ضباط يولية 1952 وقرارات التأميم العشوائية التي راح ضحيتها مئات الأسر، أما جرحي ثورة يناير2011 فهم طبقات كثيرة ومتفاوتة من الشعب المصري، هم من حلموا ببداية جديدة تضع خطاً فاصلًا بينهم وبين الظلم الاجتماعي، والفساد الذي دمّر حياة ملايين المصريين، لأكثر من ثلاثين عاماً! ومع ذلك فإن نوارة «منه شلبي» لم تكن من المؤمنين بالثورة، ولم تكن تعارضها أيضاً، إنها مثل قطاع كبير من الشعب المصري، لا يعبأ كثيراً بالأحداث الجارية، وكأنها أمر لا يخصه، لأن كل ما يشغل بالها، أن تعيش مستورة وترضي بأقل القليل، وقد صدّقت حلم أن ثروة مبارك المنهوبة سوف يتم توزيعها بالعدل علي كل مواطن مصري، بحيث ينال كل منهم مبلع مئتي ألف جنيه! ومش عارفة جابوا الحسبة دي منين؟ المفارقة التي تعيشها نوارة، أنها تسكن في منطقة عشوائية، وفي شقة بالغة التواضع، ليس بها مكان لقضاء الحاجة، ولا مياه للشرب والاستحمام، وتضطر أن تحمل يومياً جراكن فارغة لتملأها بالمياه وتعود بها لجدتها العجوز، كي تستخدمها في شئون الحياة الأساسية، وهي متزوجة من علي «أمير صلاح الدين»، وهو شاب نوبي فقير مثلها، ولم يتمكن من تدبير مكان للزواج فظلت علاقته بنوارة شفهية، في انتظار فرج لا يأتي أبداً، وفي نفس الوقت فهي تعمل خادمة لدي أسرة أسامة بيه «محمود حميدة» التي تسكن في كامبوند مغلق علي أصحابه من الأثرياء الذين يمتلكون قصوراً مشيّدة، وينعمون بالنفوذ والجاه والسلطان، وتضطر نوارة أن تركب خمس مواصلات كي تصل لمكان عملها، في الصباح الباكر من كل يوم، والغريب والمدهش أنها لا تشعر بالنقمة أو الحسد، بمقارنة حالها، بحال خديجة «رحمة حسن» ابنة العائلة التي تعمل لديها، وهي في نفس عمرها تقريباً، ولكن تنعم بكل متع الحياة، ورفاهيتها، العلاقه بين أهل القصر وبين نوارة تحمل قدراً من الود، علي عكس الصورة النمطية للعلاقة بين طبقة السادة ومن يعملون لديهم من المعدمين، رب الأسرة أسامة بيه «محمود حميدة» رجل ظريف جداً، وهادئ الطباع، يسأل نوارة هل الشعيرات البيضاء قد ظهرت في رأسي أم لا، وتجيبه بدون مواربة: «أيوه فيه كام شعره بيضة»، أما سيدة البيت شاهندة هانم «شيرين رضا» فهي لا تثق في مخلوق غير نوارة، حتي أنها عندما قررت الهرب من مصر مع عائلتها، تركت لنوارة كل مفاتيح القصر، وطلبت منها أن تراعي المكان، ولا تخبر أحداً أنهم قد فروا للخارج!! خوفاً من أن تنالهم يد القانون والعدالة كما حدث لبعض الوزراء والتنفيذيين، من رجال نظام مبارك! الجميل أن السيناريو لم يقدم عائلة أسامة بيه بطريقه كفار قريش، غلاظ الملامح والمسلك، بل إنهم قوم ظرفاء، رغم كونهم من ناهبي أموال الشعب، وكانوا بالطبع ضد الثورة، باعتبارها ثورة رعاع، «نوارة» ليس فيلما عن ثورة يناير، ولكن عن ردود فعل طبقة الأثرياء وأصحاب النفوذ في الفترة الزمنية التي تلت مرحلة إزاحة مبارك، وتمثيلية المحاكمات التي انتهت إلي لا شيء!! كل الدماء التي سالت، والشباب الذين زج بهم في السجون، أو فقدوا أعينهم، ولم يحدث شيء، غير أن الفقراء صاروا في وضع أشد سوءاً، والذين كانوا يتلحفون بالستر ضاع عنهم الستر، والذين كانت لهم أحلام بسيطة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، لم يعد لهم صوت، بعد أن فقدوا الأمل في أن شيئاً يمكن أن يتغيّر، وكما قال حسن «عباس أبو الحسن» شقيق أسامة بيه، وهو يطلق عدة رصاصات في الهواء وكأنه يحارب طواحين الهواء، نحن أسياد البلد وسوف نظل كذلك! وقد ظلوا كذلك فعلاً وكأن ثورة لم تقم وضحايا لم يسقطوا، وربما تكون نوارة قد أدركت بالنهاية أنها كانت تعمل لدي مجموعة من اللصوص وسارقي قوت الشعب! ليوسف إدريس قصة قصيرة وجميلة باسم: «هل كان لابد يا لي لي أن تضيئي النور؟» وربما ينفع أن نلقي السؤال بهذا الشكل: أكان لابد أن تقضمي من التفاحة المحرّمة يا نوارة؟. فيلم «نوارة» هو طوق النجاة لمنة شلبي، يمكن أن تعتبره دور عمرها، حيث استخدمت كل وسائل التعبير التي يمتلكها ممثل محترف، للتعبير عن البساطة والغلب والأمل والذعر، والتوتر والإحساس بالظلم، ربما تكون منة شلبي مثل معظم نجمات جيلها اللائي ظهرن في بداية الألفية الثالثة، لقد تم استغلالها كوردة في عروة جاكت البطل النجم، ولم تفلت من هذا التصنيف إلا في أفلام قليلة جداً، وقد جاء الوقت الذي تعلن فيه عن موهبتها التي نضجت بشكل واضح، وأكيد كان لهالة خليل دور في توجيهها؛ سواء من خلال السيناريو الذي اهتم بتفاصيل الشخصية، أو دورها كمخرجة، أما أمير صلاح الدين الذي لعب دور «علي»، زوج نوارة، فهو اكتشاف لممثل لا تعرف كيف بدأ ولكن موهبته تعلن عن نفسها، أداء طبيعي بسيط ومقبول، ينبئ بأن مستقبلاً فنياً ينتظره لو أجاد إدارة موهبته!. محمود حميدة، عظيم رغم صغر دوره نسبياً، وكانت لحظات قبوله الأمر الواقع واضطراره للهرب خارج مصر، من أروع مشاهده رغم التزامه بالصمت التام، وشرود نظراته المفعمة بالغضب، وكأنه يقول لنفسه كيف تجرّأ هؤلاء الثوار علي زحزحة مكانتي، وتهديد أمني، شيرين رضا تكتسب أرضاً مع كل دور تقدمه، هالة خليل تقدم مع ثالث تجاربها في السينما الروائية الطويلة تجربة أكثر عمقاً وزخماً، ولا تقل جمالاً عما قدمته سابقاً، فهي من المخرجين الذين لا يعملون من أجل التواجد والاستمرار وأكل العيش، ولكن عندما يكون لديها ما تريد أن تقوله، من أهم العناصر الفنية التي ساهمت في تميُّز فيلم «نوارة»، كاميرا زكي عارف، مونتاج مني ربيع، رغم أن الجزء الأول من الفيلم كان يحتاج إلي ضبط إيقاع، موسيقي ليال وطفة، مثيرة للشجن بالإضافة لدورها في تصعيد بعض المواقف الدرامية، وخاصة في مشهد النهاية، وتحية خاصة للكلب «بوتشي» الذي سوف ينافس شهرة الكلب «روي» أحد أهم شخصيات فيلم «الشموع السوداء»!