بدأ عام جديد, وأكثرنا يراجع حساباته بالنسبة للسنة الماضية, وما أنجزه فيها, وما قد يكون أصابه من خفقان في بعض الأمور, ولكن تري بأي عين ننظر في أثناء إجراء حساباتنا, فأحيانا تكون المواقف واحدة, ولكن العين هي التي تختلف في نظرتها. فقد جلس مؤلف كبير أمام مكتبه وأمسك بقلمه وكتب: في السنة الماضية أجريت عملية إزالة المرارة, ولازمت الفراش عدة شهور, وبلغت الستين من العمر, فتركت وظيفتي المهمة في دار النشر التي ظللت أعمل بها ثلاثين عاما, وتوفي والدي, ورسب ابني في بكالوريوس كلية الطب; لتعطله عن الدراسة عدة شهور بسبب إصابته في حادث سيارة. وفي نهاية الصفحة كتب:يا لها من سنة سيئة. ودخلت زوجته غرفة مكتبه ولاحظت شروده, فاقتربت منه, ومن فوق كتفه قرأت ما كتب, فتركت الغرفة بهدوء, دون أن تقول شيئا, ولكنها بعد دقائق عادت وقد أمسكت بيدها ورقة أخري وضعتها بهدوء بجوار الورقة التي سبق أن كتبها زوجها, فتناول الزوج الورقة, وقرأ فيها: في السنة الماضية, شفيت من آلام المرارة التي عذبتك سنوات طويلة, وبلغت الستين وأنت في تمام الصحة, وستتفرغ للكتابة والتأليف, بعد أن تم التعاقد معك علي نشر أكثر من كتاب مهم, وعاش والدك حتي بلغ الخامسة والثمانين بغير أن يسبب لأحد أي متاعب, وتوفي في هدوء بغير أن يتألم, ونجا ابنك من الموت في حادث السيارة, وشفي بغير أية عاهات أو مضاعفات, وختمت الزوجة عبارتها قائلة:يا لها من سنة تغلب فيها حظنا الحسن علي حظنا السيئ. وهكذا فالمواقف التي سردها الزوجان واحدة, ولكن كل منهما نظر إليها بعين مختلفة, فالزوج رأي أنها كانت سنة سيئة مليئة بالآلام والأحزان, وغلبت عليها المتاعب, أما الزوجة فرأت فيها الجانب الإيجابي, وهو لطف الله في كل المواقف التي قدرها لهما; لذا رأت أنها سنة تغلب فيها حظهم الحسن علي قسوة مواقفهم. وعليه فتتشابه المواقف, ونظرة العين ليست واحدة, فبالفعل لكل عين نظرة تختلف عن غيرها; لذا قد يصنع موقف من شخص مثالا للحطام الإنساني, في حين أنه لو مر به غيره, ربما يخلق منه مثال للبطولة الإنسانية, فقد يصاب شخصان بمرض واحد, فيفتك بأحدهما, وينجو منه الآخر; لأن هناك عين استسلمت لقدرها, وأخري أصرت وصممت علي تحدي المرض, فنجت, ولكن السؤال هو, هل العين تولد بصفاتها مع الإنسان, أم أن الإنسان هو الذي يكون النظرة التي يري بها كل الأمور؟ ففي اعتقادي أنه بالرغم من وجود تدخل كبير للجينات, وغيرها من العوامل الوراثية في تكوين الإنسان, فإن الإنسان بطبيعته أقوي المخلوقات علي الأرض, وبإمكانه أن يجعل الصفات المكتسبة أقوي كثيرا من الصفات الوراثية, والدليل أن أبناء العلماء ليسوا كلهم علماء, وأبناء الجهلاء ليسوا كلهم جهلاء, فالصفات المكتسبة أثبتت أنها تفوق في كثير من الأحيان الصفات الموروثة, والشخص الذي يريد أن يحكم علي الأمور بموضوعية ورجحان عقل يستطيع أن يفعل ذلك, وبمنتهي البساطة, فأي موقف في الحياة مهما بلغت صعوبته وقسوته يحتمل أكثر من جانب, وله بالقطع جوانب إيجابية, أقلها اكتساب الخبرة والقوة من المرور به, فما بالنا بأكثرها إيجابية, ولكننا في أحيان كثيرة لا نبصر إلا الجوانب السلبية, ونحكم بمنتهي التسرع علي المواقف الحياتية, ولا نري إلا نصف الكأس الفارغة, ونتناسي أن الحياة ما هي إلا مجموعة من الصراعات النفسية والبشرية, وأن دورنا هو أن نواجه هذه التحديات بأن نقف علي الطريقة التي ننظر بها للأمور, وذلك بقناعتنا التامة عند مواجهة أي موقف صعب, بأنه لابد ان هناك وجها حسنا له لم نبصره بوضوح وهو بالقطع الوجه الآخر للعملة.