محافظ سوهاج يزور مطرانيات الأقباط بالمحافظة للتهنئة بعيد القيامة    مصر تستورد لحوم وأبقار بقيمة 139.7 مليون دولار خلال يناير وفبراير    عاجل| ماكرون يدعو نتنياهو إلى استكمال المفاوضات مع حماس    بالأسماء.. مفاجآت منتظرة بقائمة منتخب مصر في معسكر يونيو المقبل    تصنيع مواد الكيف والاتجار بها.. النيابة تستمتع لأقوال "ديلر" في الساحل    3 أبراج تعزز الانسجام والتفاهم بين أشقائهم    فوائد وأضرار البقوليات.. استخداماتها الصحية والنصائح للاستهلاك المعتدل    الآن.. طريقة الاستعلام عن معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    الأهلي يبحث عن فوز غائب ضد الهلال في الدوري السعودي    «الزهار»: مصر بلد المواطنة.. والاحتفال بالأعياد الدينية رسالة سلام    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    «على أد الإيد».. حديقة الفردوس في أسيوط أجمل منتزه ب «2جنيه»    انتشال أشلاء شهداء من تحت أنقاض منزل دمّره الاحتلال في دير الغصون بطولكرم    تجدد الطبيعة والحياة.. كل ما تريد معرفته عن احتفالات عيد شم النسيم في مصر    ناهد السباعي بملابس صيفية تحتفل بشم النسيم    دمر 215 مسجدًا وكنيسة.. نتنياهو يستخدم الدين لمحو فلسطين| صور    «مراتي قفشتني».. كريم فهمى يعترف بخيانته لزوجته ورأيه في المساكنة (فيديو)    هل يجوز أداء الحج عن الشخص المريض؟.. دار الإفتاء تجيب    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    إصابة 3 إسرائيليين بقصف على موقع عسكري بغلاف غزة    قبل ساعات من انطلاقها.. ضوابط امتحانات الترم الثاني لصفوف النقل 2024    قوات روسية تسيطر على بلدة أوتشيريتينو شرقي أوكرانيا    رئيس مدينة مرسى مطروح يعلن جاهزية المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين لاستقبال طلبات التصالح    «الزراعة» تواصل فحص عينات بطاطس التصدير خلال إجازة عيد العمال وشم النسيم    ندوتان لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت أسوان    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة بطوخ    «شباب المصريين بالخارج» مهنئًا الأقباط: سنظل نسيجًا واحدًا صامدًا في وجه أعداء الوطن    بين القبيلة والدولة الوطنية    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    استشهاد ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين في غارة إسرائيلية على بلدة ميس الجبل جنوب لبنان    في إجازة شم النسيم.. مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة بالغربية    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    رفع حالة الطوارئ بمستشفيات بنها الجامعية لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 3 مج.ازر في غزة راح ضحيتها 29 شهيدا    إعلام إسرائيلي: وزراء المعسكر الرسمي لم يصوتوا على قرار إغلاق مكتب الجزيرة في إسرائيل    التنمية المحلية: استرداد 707 آلاف متر مربع ضمن موجة إزالة التعديات بالمحافظات    بالصور.. صقر والدح يقدمان التهنئة لأقباط السويس    أنغام تُحيي حفلاً غنائيًا في دبي اليوم الأحد    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    جناح مصر بمعرض أبو ظبي يناقش مصير الصحافة في ظل تحديات العالم الرقمي    الليلة.. أمسية " زيارة إلى قاهرة نجيب محفوظ.. بين الروائي والتسجيلي" بمركز الإبداع    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    دعاء تثبيت الحمل وحفظ الجنين .. لكل حامل ردديه يجبر الله بخاطرك    3 أرقام قياسية لميسي في ليلة واحدة    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    اتحاد الكرة يلجأ لفيفا لحسم أزمة الشيبي والشحات .. اعرف التفاصيل    صحة مطروح تطلق قافلة طبية مجانية بمنطقة أولاد مرعي والنصر لمدة يومين    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة في طوخ    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    السيطرة على حريق شقة سكنية في منطقة أوسيم    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوجود والحياة والموت فى رحلة
نجيب محفوظ
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 08 - 2011

عامنا هذا هو المتمم لمئوية الراحل العظيم نجيب محفوظ‏.‏ وكان المخطط له أن يكون كرنفالا متنوع الفعاليات بطول السنة‏,‏ يبدأ يوم2010/12/11 وينتهي في2011/12/11, بواقع احتفالية كل شهر في المجلس الأعلي للثقافة, وأنشطة موازية بمكتبة الاسكندرية في الوقت نفسه, مع إتاحة المجال للمؤسسات الخاصة, والأفراد, لإقامة الندوات, والاحتفاء بأديب نوبل كما يشاءون, لتكون السنة كلها لمحفوظ رسميا وشعبيا. لكن الأقدار شاءت أن تهيمن ثورة يناير البهية علي الشأنين العام, والخاص منذ مطلع العام, لتشغلنا جميعا بأحداثها العظيمة. وعزاؤنا أن تكون هتافاتها وصلت إلي نجيب محفوظ في مرقده, وسعد بتحقق حلم الحرية المتكرر في جل أعماله, وأحاديثه, في ملحمة تشبه ثورة1919 المجيدة, الأثيرة لقلبه, والتي عدها في ثلاثيته الشهيرة, مثالا ساطعا لإرادة الأمة المصرية ووحدتها الوطنية.والآن. بعد هدوء الهتافات, واستحالة الحماس الشعبي إلي تأمل وبحث عن سبل الخلاص الديمقراطي, تجدد الأهرام الاحتفاء بمئوية محفوظ علي ضوء الثورة, كأحد المبشرين بها, وكونه أحد أبناء وكتاب المؤسسة, للتذكير به وبأعماله, في الجمعة الأولي من كل شهر, في ملحق الأهرام الذي نشر العديد من أعماله, استلهاما لروحه التي ما زالت تحوم في وجداننا ...أسامة الرحيمي
ظلت إبداعات الراحل الكبير نجيب محفوظ بمختلف تجلياتها مرتبطة بالانسان, وحيرته الوجودية, وتقلباته الفكرية والاجتماعية, حيث تلمس خلاص البشر في أغلب أعماله, بحثا عن إجابات مريحة للأسئلة العصية, لعلهم يحققون سعادتهم في حياة لاتترفق بأحد!وعبر رحلة عامرة, انشغل بقضايا الوجود والحياة والموت, فقدم أعمالا أدبية بأرفع مستوي فكري, أثرتها رؤي فلسفية مفهومة, واهتم بالحرية والعدالة, وضرب مثالا عظيما في المحبة والسماحة إبداعيا وإنسانيا, وأكد بسلوكه الشخصي, وتعاطيه اليقظ مع الشأن العام, من العهد الملكي, وإلي رحيله, وخفة ظله التي لا تخلو من دهاء وحصافة, ما جعله محط الأنظار, وشاغل الناس, من دون أن ينشغل هو عن مسئوليته الأساسية وهي الكتابة التي أخلص لها حتي النفس الأخير.في هذه الحلقة نحاول علي استحياء تتبع بعض خطاه, وجانب من رؤاه الإبداعية, حول الوجود والحياة والموت في رواياته وقصصه القصيرة, لعلها تضئ طريقا لقارئ لم يعاصره, وتأخذ بيده إلي عالم نجيب محفوظ الغني, لينفتح أمامه المدي علي اتساعه.
الوجود
شغف نجيب محفوظ منذ بواكيره بتأمل أسرار الوجود. وربما كان هذا سبب دراسته الفلسفة بكلية الآداب, والاتجاه لعمل دراسات عليا فيها, وارتباطه بسلامة موسي, وكان منطقيا أن يلازمه ذلك الشغف لبقية عمره, وينعكس علي أعماله, كما يظهر بجلاء في روايته الشهيرة الطريق التي كتبها عام1964, كإحدي محاولاته الجادة لاستكناه أسرار الوجود, والتي يفتتحها بمشهد واقعي عن موت بسيمة عمران أم بطل الرواية صابر سيد الرحيمي, الذي أغدقت عليه مالا كثيرا من تجارتها الآثمة, ولم تتح له أن يتعلم حرفة تنفعه, لأنها أرادت أن يظل بعيدا عن أجواء البرمجية والقوادين, وبعد خروجها من عقوبة خمس سنوات سجن, عرفت أن المال الذي تركته له تبخر إلا نذر يسير, ووقف صابر في تلك اللحظة الحرجة قائلا لذاته:.. إنه ابتداء من اليوم سيعرف الحياة علي حقيقتها. إنه وحيد بلا مال ولا عمل ولا أهل ولم يبق الا أمل غريب كالحلم, إنه مطالب منذ اليوم بتأمين حياته, هي مسئولية لم يتحملها من قبل, اذ نهضت بها أمه وحدها, ففرغ هو طوال الوقت لاشباع شبابه اليافع. لكن أمه بسيمة عمران قبل وفاتها نصحته بالبحث عن أبيه سيد سيد الرحيمي الذي وصفته بقولها: انه سيد, ووجيه بكل معني الكلمة, لا حد لثروته ولا نفوذه, فهو المخرج من ورطته وسيجد في كنفه الاحترام والكرامة والسلام تاركة له نسخة من شهادة الميلاد وصورة لهما معا منذ ثلاثين سنة. عندها أيقن أنه: لم يبق له إلا البحث عن أبيه سيد سيد الرحيمي. ويري الناقد الكبير جورج طرابيشي في كتابه البديع الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية( دار الطليعة بيروت. طبعة1988), إن رواية الطريق: قابلة كلها لأن تفسر علي مستويين: المستوي المباشر الواقعي, والمستوي اللامباشر الرمزي. علي المستوي الأول لا تعدو أن تكون قصة بحث عن أب, لكنها علي المستوي الثاني قصة بحث عن الأب, أي الله. ويعكس اسم الأب سيد سيد الرحيمي تكوينا رمزيا, فالله هو السيد, وهو الرحمن الرحيم, وهو أخيرا سيد بني الرحم, أي البشر. كما أشارت الناقدة فاليريا كيربتشنكو في كتاب نجيب محفوظ في مرآة الاستشراق السوفييتي: ترجمة أحمد الخميسي. دار الثقافة الجديدة.1989) إلي أنه إذا: انحدر البطل الي الجريمة, فهو ليس بسبب أن الخالق ينكر بنوة الإنسان, ولكن لأن الطريق إلي الله شاق لا يتحمل صابر الرحيمي مصاعبه بطبيعته الحسية التي تغلب علي تكوينه. وقد يدلنا الاسم علي ما يفترض أن يتحلي به من صبر. ولكن البطل كما صوره نجيب محفوظ هو انسان متعطش للثراء السهل السريع, لا يتسم بما يفترض أن يتسم به, ولهذا يتجنب الطريق الذي يستلزم الدأب والاحتمال وشحذ الإرادة.
وبتتبع صابر في الطريق: وهو يركز بصره علي صورة أبيه, علي وجهه بالأخص. شاب جميل حقا, مفعم بالشباب والحيوية, ونظرته تفيض بالاعتداد بالنفس, ووجهه المائل للبياض, المستطيل الممتلئ, ذو الجبهة العالية, والطربوش المائل الي اليمين, لا يمكن أن ينسي. ولم تكذب أمه حين قالت إنه صورة منه ولكنه كما يكون القمر علي الورق صورة من القمر في كبد السماء.
وهنا يشير جورج طرابيشي الي: إن نجيب محفوظ وطيد الايمان بأن الله قد خلق الانسان علي صورته, ولكن لا ينبغي تفسير ذلك محض تفسير شكلي, فأن يكون مخلوقا علي صورة الله, فهذا يعني أن فيه قبسا من الله ومن عظمة الله ومن حرية الله, وهذا يعني أنه حر ومسئول معا في مسلكه وعن مسلكه, وفي هذه الحال لا يعود من حق الانسان أن ينتظر المعجزة من الله, بل عليه أن ينتظرها من نفسه. وما معجزة الله الحقيقية في نظر نجيب محفوظ سوي أنه أعطي للانسان القدرة علي أن يصنع المعجزات. وهنا, يتبدي لنا سر الوجود الأول, وهو أن في الانسان قبسا من الله ومن عظمته ومن حريته, وهو ما يعني بالتالي أنه سبحانه قد منح الانسان القدرة علي صنع المعجزات.
بدأ صابر رحلة البحث في الاسكندرية ولما أعياه البحث انتقل الي القاهرة, واختار فندقا رخيصا للاقامة. وفي استراحة الفندق سمع صوتا يقول: وأين الله خالق كل شيء وحافظه؟, فاذا به يعقب: أين الله حقا. هو عرف اسم الله ولكنه لم يشغل باله قط. ولم تشده إلي الدين علاقة تذكر. ولا شهد مسكنه بشارع- النبي دانيال ممارسة عادة دينية واحدة فهو يعيش في عصر ما قبل الدين. وهذا( ملمح) جوهري في تكوين شخصية صابر تكتمل به الدائرة. إنه لم يعرف الدين من قبل ولم يشغل باله. ما يعني بالضرورة أنه يحتاج الي هداية, أو هو يبحث عن عقيدة, وهو ما يؤكد بالتالي حتمية رحلة البحث عن الأب. وأثناء ذلك وجد زوجة مالك الفندق العجوز شابة مثيرة هي كريمة, ذكرته بفتاة أخري سبق أن أثارته في الاسكندرية طاردها حتي قضي منها وطره. وفي نفس الوقت تعرف إلي فتاة أخري, هي إلهام تعمل في جريدة قرر أن ينشر فيها إعلانا بحثا عن أبيه. وتنازعته منذ تلك اللحظة رغبة حسية جارفة إلي كريمة وأخري نقية طاهرة مع إلهام. كريمة تستحوذ عليه بقوة الجنس وتدفعه دفعا إلي جريمة قتل الزوج العجوز حتي يخلو لهما الجو, خاصة أن الزوج سجل كل ممتلكاته باسمها في حال وفاته, بينما تمثل إلهام طاقة نور تحاول أن تجتذبه من براثن عالمه المظلم لكنه كان قد بني علاقته معها علي الكذب. تقول الناقدة فاليريا كيربتشنكو في كتابها نجيب محفوظ في مرآة الاستشراق السوفييتي في هذا السياق: ليست كريمة خليلة صابر بما تغدقه عليه من متع حسية, وإلهام حبيبته النقية الطاهرة الا رمزا للطبيعة الانسانية المزدوجة التي جمعت الطين والنور. وهذه الطبيعة المزدوجة: الجانب الشهواني الأرضي والجانب الروحاني السامي الذي نفخه الله في الانسان, هذه الطبيعة بالذات هي التي تجعل الانسان في نظر نجيب محفوظ مسئولا عن اختياراته وقراراته.
وهنا يبزغ سر الوجود الثاني الذي طالما بحث عنه نجيب محفوظ بدأب واصرار, حين كان الخيار متاحا أمام الانسان, بين الجانب الحسي والجانب الروحي. وله حرية الاختيار. فسرعان ما جرفت صابر الرحيمي رغبته الحسية التي اعتادها منذ زمن وانجرف من بعدها إلي جريمة قتل زوجها صاحب الفندق العجوز, وقعت تلك الأحداث الجسام في وقت فتحت إلهام أمامه طاقة أمل نحو مستقبل شريف, حين اعترف بحقيقة أنه كذب عليها, وأنه كان يبحث عن أبيه وليس عن أخيه كما سبق وأخبرها, وأنه غير جدير بها فأخبرته أنها تتفهم ذلك, ودار بينهما حوار كاشف:
السبل مسدودة لحد الاختناق
لكنك تحبني.. وأنا أيضا أحبك.
قال بوجه متقلص من الانفعال:
أنا لا أصلح لشيء فكيف أصلح لك؟
الصبر, لن أتخلي عنك
لكن ما الفائدة, كنت أحلم بالعثور علي أبي ولذلك أدخلتك في حلمي بغير حساب.
العمل هو الذي يحل مشكلتنا
ويتضح من الحوار السابق سران آخران من أسرار الوجود:( الحب) الشريف الطاهر الذي يربط بين البشر يمكنه أن يصنع المعجزات, وان في( العمل) حلا طبيعيا لمشاكل الانسان, بمعني أن يعتمد علي نفسه أولا ثم الآخرين كلما أمكن! وتبقي مشكلة هجران الأب التي عاني منها صابر وإلهام, فهو متمسك بالبحث عن الأب الذي يمثل كل شيء في حياته, أما إلهام فقد حكمت( عقلها) في حل تلك المشكلة عندما استقر رأيها علي ان العمل أهم وأبقي واذا ما سألها صابر:
- وأبوك ألا تفكرين فيه؟
كان جوابها:
كأنه غير موجود, وهو الذي اختار ذلك!
تحكيم العقل وليس العاطفة هنا هو سر الوجود الخامس علي درب الانسان المليء بالاختبارات والآلام. يري جورج طرابيشي أن هناك توازيا متنافيا: بين صابر وإلهام في طريقة معالجتهما لمشكلة هجران الأب. فصابر يرفض القيام بأي عمل لأنه لا قيمة لأي عمل يجيء من غير طريق أبي. أما إلهام, فبالرغم من شعورها الحاد بأنها بلا أب, فقد قر في رأيها الأخير علي أن العمل أهم من الأب وأبقي, ولأنها تؤمن بأن العمل هو الذي يحل مشكلتنا, ولأنها وعت شرطها الانساني وأخذت مسئوليته علي عاتقها, ولأنها أدركت أن خلاص الانسان مما هو فيه من هجران لا يأتي إلا عن طريق المشاركة الانسانية الواعية في صياغة الحياة, ولأنها تعذبت ودفعت ضريبة وجودها, فقد اهتز أبوها من الأعماق واستيقظ من جحوده وعاد إليها من غير أن تكون قد بحثت عنه. وبذلك تكون, بسلوكها الطريق الذي سلكته, قد بعثت الأب وردته الي الحياة. وهذا بعكس صابر الذي سلك الطريق المضاد. وإذا شئنا هنا إجمال أسرار الوجود التي توصل إليها نجيب محفوظ في روايته الطريق سنجد أن أولها هو أن في الانسان قبسا من الله وعظمته وحريته, أي أنه سبحانه منح الإنسان القدرة علي صنع المعجزات, والسر الثاني أن الانسان مخير بين الجانبين الحسي والروحي, وله حرية الاختيار, والثالث إن الحب الشريف الطاهر بين البشر يصنع المعجزات, والرابع أن العمل حل طبيعي لمشاكل الانسان, شرط اعتماده علي نفسه, وخامس أسرار الوجود تحكيم العقل علي درب الحياة الملئ بالتجارب والآلام, وليس العاطفة.
الحياة!
كان نجيب محفوظ معنيا طوال الوقت بتقديم رؤيته للبشر في تفاعلهم مع الحياة, وخبراتهم المتنوعة, فقدم شخصيات تعكس النضال البشري العادي كقيمة إيجابية, مقابل شخصيات تعيسة, سقطت أسيرة أوهام عزلتها عن واقعها, وبدا متسامحا مع شخوصه, وفي رؤيته لأوجه الحياة, باعتبارها مراوحة بين التعب والراحة, السعادة والشقاء, الانتصارات والهزائم, والبشر في نهاية هم الذين يعلون من قدرها, ويصنعون قدرهم, أو يحطون من شأنها وشأنهم, فهم لا يمرون بها مر الكرام, بل يخلفون آثارا متفرقة, عظيمة وعادية, مبهجة ومؤلمة, تتكون منها ملامح الحياة, خيرا وشرا, ملائكة وشياطين, وهو ما يمنح الأدب تجليه, وفرصة للأديب في التسلل إلي وجدان المتلقي, وهنا نقف أمام بعض أعمال محفوظ, تبدو الشخصيات والحياة فيها بسيطة, تدور حول اليوميات المعيشة, كيف يصنعها البشر, وتشكلهم هي بدورها, وهذا التفاعل يجعل بعض التجارب العادية تبدو معارك كبري من أجل البقاء والتحقق, ونضالات حقيقية تكتمل من دون أن ينتبه إليها أحد. إلا الأدب, والمواهب الكبري!
أم عبده
ففي الحكاية رقم10 من رواية' حكايات حارتنا'(1975) نجد' أم عبده', وهي من الشخصيات التي ربما عايشها محفوظ طفلا, وتناولها تحت إسم' أم أحمد' في قصة بذات العنوان في مجموعة' صباح الورد'(1987), وهي إمراة أقبلت علي الحياة بهمة, وانتزعت لنفسها مكانة تناسب إمكانياتها وطموحاتها, فعملت خاطبة وماشطة واخصائية تجميل وسعادة زوجية, واضطلعت بمهام الصحافة والإذاعة والمخابرات, ورغم نشأتها الصعبة كونت أسرة سليمة, ولم يخل الأمر من اهتمامها بالسياسية, فخرجت في مظاهرات ثورة1919, وذكرها الراوي في مشهد موح, واقفة علي' عربة كارو' بين جاراتها وهي تهتف بصوت عال للزعيم سعد زغلول.
وتوجت كفاحها بتشييد بيت من طابقين, ونقلت نشاطها من الحسين إلي العباسية مع انتقال الناس إلي هناك, وواجهت صفعات الدهر بجلد, حين قتل زوجها, وسجن ابنها, وقضت ابنتها الكبري بمرض عضال. ووصفها الراوي بقوله:' لا أذكر أني رأيتها باكية أو مولولة أو شبه يائسة, ما عهدتها إلا متماسكة قوية ضاحكة أو محدثة, غارقة حتي قمة رأسها في أعمالها ومشروعاتها, تعيش يومها وتبني للغد', وأضاف:' ورغم ما عرفت به أم أحمد من صفات الغجر فقد حظيت بإعجابي لقوتها الذاتية وصلابتها وشجاعتها وذكاءها وانتزاعها من الصخر الأصم مكانة موموقة بين أرقي سيدات ذلك الزمان', وصارت ابنتها الوسطي مدرسة, وتزوجت الصغري من أحد كبار رجال التعليم, وأكرمها الله في شيخوختها بالحج, وعاشت آمنة مع ابنتها التي تحبها.
وهذا نموذج من أبناء الشعب, ربما يراه الناس عاديا مألوفا لديهم, لكنه مبهر, فأم أحمد حققت النضال البشري اليومي كقيمة إيجابية علي الأرض, بشروط السعي والاجتهاد الإنساني, دون إلقاء اللوم علي حظ عاثر أو قدر عنيد, فقط ظلت تناضل لفتح أبواب الحياة, وسط آلام وأحزان لا تكف عن التتابع!
وفي رواية' يوم قتل الزعيم'(1985) نري رجلا طاعنا محبا للحياة,' محتشمي زايد', المدرس السابق, في الثمانين من عمره, متدين, نومه قليل وبات منبه الأسرة, يقوم بترتيب البيت بعد انصراف أفراد أسرته إلي أشغالهم, ويصف نفسه:' حبب الله إلي العبادة وجعل قرة عيني في الطعام', و' أحب الحياة وأرحب بالموت في حينه',' ما مثلي ومثل الدنيا الا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة ثم نهار ثم راح وتركها', منح كل مرحلة من حياته نورها, يقول:'.. عند الثمانين نتوقع قدوم ضيف لا ريب فيه, فاللهم حسن الختام, اللهم جنبنا العجز والأوجاع, وانشر ندي رحمتك في أركان البيت القويم'. وان كان يستعيد ومضات من ماضيه:' سقيا لعهد الايمان الساذج كما تذكره الذاكرة, وعهد الشك ومنازعاته ما أثراها بفتنة اليقظة, وعهد الالحاد وتحدياته وغناها بالشجاعة والاقتحام, وعهد العقل وحواره الدائم, واخيرا عهد الايمان والأمل. أصبح الموت آخر المغامرات الواعدة' يحب حفيده' علوان' حبا جما, لذلك يتمني أن يحل اشكالية تأخير زواجه:' لو وهبني الله نعمة الكرامات لأوجدت له شقة ومهرا, ولكن العين بصيرة واليد قصيرة', ويري أن التغير اجتاح كل شيء:' تغير الهتاف وتغيرت الأغاني. انفجر الغلاء', و'النيل نفسه تغير, وكأنه مثلي يكابد وحدة وشيخوخة. لبسته حال واحدة, فقد مجده وأطواره, لم يعد بمقدوره الغضب'.
كان وفديا في شبابه, وفي الثلاثينات فصل من عمله بتهمة تحريض الطلبة علي الاضراب, ولأنه كان صاحب أسرة وقتها اضطر للعمل في مدرسة إعدادية بمرتب صغير, وأمسك حسابات بقال من أصدقائه, وبقيت الأسرة عاما لا تطبخ إلا العدس.
وبالرغم من تدين' محتشمي', لم يكن مثاليا, ففي الثمانين عاوده ضعفه البشري, وهو يراقب' أم علي' التي تنظف الشقة, ويقول لنفسه:' تنفخ في وجداني نغمة الحلم الغابر, الانفراد بها يتجسد في حال يضطرب لها روتين الزمن. ويواجه الأنا القديم الأنا الطارئ فيتناجيان وبينهما فاصل الزمن بلغتين غريبتين لا تفضيان إلي تفاهم ثم يستعير القلب من مخزونه البائد خفقة خاطفة تعيش حياة مقدارها ثلاثون ثانية, وعندما تنحني لتعيد بسط الكليم أتصور أنني أقرصها بحنان, مجرد تصور, فإنني مسيطر علي زمامي تماما وهي مطمئنة من ناحيتي تماما..'.
وكأن محفوظ يقول لمن يقرأ, أن الأفول ربما يأتي لحظة اكتمال التجربة, وأن التوهج الحيوي قد يقع عند الرحيل, فالحياة والموت يتناسلان.
صفوت راجي
وفي' مجموعة الفجر الكاذب'(1989) يبزغ' صفوت راجي' في قصة' رجل', وهو من أبناء الطبقة العليا, ومثال للصمود بوجه الهزائم والمآسي عبر مراحل عمره, ويمتلك قدرة متجددة علي تذوق الأشياء الجميلة, التي قد نغفلها وسط انشغالاتنا. ذات صباح قرأ في عمود بإحدي الصحف أن أحد رجال الماضي المشهورين, يقضي شيخوخته الآن في وحدة مطلقة, بعد أن ماتت زوجته, وهاجر أبناءه الثلاثة عقب هزيمة5 يونيو إلي أمريكا بعدما فقدوا انتماءهم وثقتهم في كل شيء, وأشار كاتب العمود لضرورة العناية بالمسنين مثل البلاد المتحضرة. فهم' صفوت راجي' فورا أنه المقصود بالعمود, فقابل الصحفي لدي عودته من جولة الصباح ودعاه لزيارته حتي يوضح له بعض الأمور, حين زاره الصحفي شكره علي كلمته وأخبره بأنه راض عن نفسه, لأنه قوي ومنتصر دائما, وأوضح أن أبيه كان:' مربيا عظيما يعشق القوة ويجلها, وعلمني كيف أهتم باللعب, كما أهتم بالعمل لأتطلع إلي الكمال في جميع الأحوال', وأضاف:' الحياة لا تخلو من منغصات, من حيث تتوقع أو لا تتوقع, المهم كيف تواجهها, كيف تستوعبها, كيف تطويها تحت جناحك ثم تمضي في سبيلك', لتكون علي رأس الناجحين.
وأضاف متأسيا:' ولعلي لم أبرأ حتي اليوم من فقد ابنين ولكني أثبت صمودي أمام الموت نفسه, أنجبت خمسة أولاد مات منهم اثنان, الأول في وباء الكوليرا والثاني في حمام السباحة, تهدم بنيان زوجتي, وحنقت علي صمودي, الصابر المتصبر متهم في هذا البلد, قيل عني إني غليظ القلب ومنهمك في عملي للدرجة التي تنسيني ما عداه. هذا خطأ. اني أعرف الحزن والألم. ولكني لا أعاند المقادير'.
لكنه' صفوت راجي' انتصر علي أحزانه ووحدته, فعل إرادة الحياة بداخله, وتفاعله معها علي نحو صحيح, فلا شئ يدوم, ولا تتوقف هي علي وجود شئ أو عدمه, فإذا توصل الإنسان إلي هذه الحقيقة يمكنه مغالبة تصاريف الزمن, والتعاطي معها باتزان سلبا وايجابا, وهذا ما ابقي علي جذوة الحياة متقدة بوجدان بطلنا, وظل محافظا علي قدرته علي فعل أشياء حيوية, كالمشي, والموسيقي, وتذوق الكرواسون بالحليب, وحتي التأمل تأهبا للمغامرة الأخيرة!
أسري أوهامهم
في رواية حضرة المحترم(1975) وضع بطلها عثمان بيومي هدفا وحيدا نصب عينيه هو الحصول علي درجة المدير العام الحكومية, وأفني حياته من أجله. عاش طوال عمره وحيدا منكفئا علي نفسه, معظما قدراته الخاصة, متمسكا بهدف دنيوي أضفي عليه بعدا دينيا: ألم ينشأ مثل قدرية زوجته فقيرا وعاجزا ومحروما من كل سلاح ؟. بلي, ولكنه اكتشف في الوقت المناسب السر المقدس في ذاته الضعيفة, كما اكتشف حكمة الله الخالدة, فشق طريقه بجلال وعذاب جديرين بالانسان مخلوق الله العظيم. ومضي حتي النهاية سعيا وراء هدفه المرموق رغم وعيه العميق بأن هناك علاقة عكسية تربط بين هذا الهدف ومرور الزمن وانقضاء العمر, متجاهلا في الوقت ذاته كل ما يجري في العالم الخارجي من أحداث وما يموج به من تيارات سياسية, بل ومتجاهلا أيضا مغزي نشأته وسط أسرة موعودة للموت فكان المفروض أن يهنأ بقية عمره ببعض متع الحياة البسيطة, حب أوصداقة تمنح للحياة معني حقيقيا, لكنه لم يفعل وظل سادرا وراء هدفه الوحيد. وحين تحقق وحصل علي درجة المدير العام, داهمه مرض خطير ألزمه الفراش بلا حول له ولا قوة, والدرجة لم تنفعه ولم يكن بانتظاره سوي صبر مر وخسران مبين!
ومن مجموعة' الفجر الكاذب'(1989), تبدو قصة' مرض السعادة' كأنها المقابل الفني لقصة' رجل' في المجموعة ذاتها, وتتحدث القصة عن طبيب لا يذكر اسمه لصرف المعني إلي الانسان عامة. وهو رجل نشأ في بيت عز وجاه لأب من تجار القطن, و' كان وطنه بدأ يتعرض للعواصف والتقلبات ولكنه وجد المنجي والمعتصم في نصيحة أبيه' حين قال له' كن في نفسك تسلم ولا شأن لك بالآخرين', ولاعجابه بأبيه أخذ بنصيحته واعتبر نفسه امتداد له, فملكت عليه هذه الحالة زمام نفسه, لم يستطع الفكاك منه طوال حياته, وكان زواجه الإنجاز الوحيد الذي أقدم عليه بدوافع ذاتية, ولكن اختياره نال موافقة أبيه, كأنما هو الذي اختاره له. وواصل حياة هادئة سعيدة بين البيت والعمل والنادي معزولا عن الواقع الخارجي, لكنه لم يستطع أن يحقق مع ولديه ما حققه أبوه معه, اللذين سرعان ما هاجرا إلي أمريكا, فعاش وحيدا في نهاية حياته يعاني اكتئابا, ويشعر أنه ليس سعيدا!
وفي قصة' ممر البستان' من مجموعة' التنظيم السري'(1984). نجد موظفا كبيرا بدون أسم أيضا لينصرف مغزاها الي الانسان عموما, ويرويها بضمير المتكلم. وتفتح القصة علي زيارة الموظف لسيدة ربما ترمز للدنيا, يراها تعبث بأوراق لعب, لا تمل في وحدتها من استطلاع الغيب. وضع مظروفا متوسطا بين يديها معلنا بأنه جاء يسدد ديونه وينظر إلي الغد. ثم أوضح أن الزمن لم يعد يأذن له سوي بمطلب وحيد, هو' الأمان, مرفأ الانسان الأخير وهو علي الحافة'( أي حافة الموت). وأشار كل من استشارهم إلي رجل وحيد من الكبار قادر علي تحقيق المعجزات والأحلام, ورغم كراهيته للوساطة, فإن كلمتها لا يمكن أن تخيب عند أي عظيم. ورضخت في النهاية ازاء إلحاحه المتكرر, بأن يكون اللقاء في الممر أثناء مغادرته حانة القمر عند منتصف الليل, عندما يخترق ممر البستان إلي الميدان حيث تنتظره سيارته. ونصحته بأن يقترب منه بأدب أولاد الناس الطيبين, ويقول له هامسا'' أتريد كأسا جميلا؟, بيت نظيف مكنون!'. فلما رفض أن يفعل ذلك بنفسه, قالت' ما هي إلا مغامرة عابرة يعقبها تحقيق المراد!'. ورغم رفضه التام, وجد نفسه قرب منتصف الليل بقليل واقفا في ممر البستان عند أقصي موقع عن نور المصباح. وعندما مر إلي جواره عرفه من صوره المنشورة في الصحف, لكن سرعان ما تشتت عقله فتراجع ومضي إلي حال سبيله. ولام نفسه بالنهار وعند منتصف الليل اتخذ موقعه في ممر البستان, فلما اقترب منه, همس:' لدي كأس ونديم جميل وبيت آمن!', وسرعان ما أشاح عنه لا عنا اياه. وعندما رجع الي السيدة شجعته ثانية, فقام بمحاولة جديدة كادت توصله الي الشرطة, مما اضطره الي كشف مطلبه الحقيقي' نشدان الأمان', فتفحصه الرجل مليا ثم صرفه ببرود. وحين زار السيدة في بيتها, أخبرته العجوز التي ترعاها بأنها معتكفة, وأنها تطالبه بتجنب الزيارة حتي ترسل في طلبه, فتمسك بأمل أن ترسل في طلبه, وخفق قلبه بالرؤي, ولاح الأمان بوجهه المشرق وراء غبش الظلام, فلم يبق الا التحلي بالصبر في انتظار الرسول!
وتقدم قصة' المسخ والوحش' من مجموعة' التنظيم السري'(1984) لنا شخصا ثالثا بدون اسم, كان يحلم وسط سكره البين بمهمة يهب نفسه لها لانقاذ الممسوسين كما فعل الشاطر حسن في الحكاية الشعبية القديمة في بلاد الواق الواق, حين' غادر ذات يوم أسرته كما يغادر الفرخ بيضته وراء حلم غامض فأسعده حظه الميمون بلقاء سيدنا الخضر. وقرأ سيدنا في وجهه براءة الفطرة ونقاء الحلم فحدثه عن مأساة مسوخ تعساء مسخهم وحش آدمي أحجارا غير كريمة فأشعل في قلبه رحمة وهمة. ووهبه فرصة فريدة لتحرير المسوخ وارجاعها إلي انسانيتها المهدرة بقتل الوحش. ودله علي المكان الملقاة فيه الأحجار الممسوخة, والوسيلة التي يقتل بها الوحش, فمضي إلي بلاد الواق الواق ورأي بعينيه الحزينتين الأحجار الآدمية. وتربص بالوحش حتي جاء في وقته المعلوم فأكل وشرب ونام, فوثب عليه وقتله, وفي الحال تلاشت الصفة الحجرية واستوت الأحجار بشرا يهللون فرحا ببركة الحياة المستردة'.
ملك ذلك الحلم عليه حياته وراح يتذكره في مجلسه بخمارة نجمة الصبح ورأسه مشعشعة بالنشوة, وغاب كالعادة في أعطاف حلم وردي, ثم انتبه إلي رجل بجواره ملتف بعباءة أرجوانية معمم بعمامة خضراء, وتطرق حديث الرجل الي' مسوخ ذوو مسوخ من ضحاياهم, ولا نجاة لهؤلاء أو أولئك إلا بقتل الوحش', فتهدج صوت المخمور وهو يخمن أنه' سيدنا الخضر', ونهض منصرفا فلما سأله متي يراه ثانية؟ أجابه:' لا أهمية لذلك. لكن المخمور مضي بقوة آسرة, ودون مقدمات, مؤمنا بأنه صاحب رسالة, وراح يستفسر أينما ذهب عن الوحش والمسوخ فسأل أهل العلم والخبرة وحكماء الأحزاب والمشايخ. وعلي الرغم من أنه لم يصل إلي إجابة شافية حتي قابل العجوز ذات ليلة وهو ثمل بنشوته, لكنه أصر علي تجاهله تماما, وتركه في حيرة, فلم يجن في النهاية سوي قبض الريح!
الموت
نجيب محفوظ من مواليد11 ديسمبر1911 ويمكن تتبع إنتاجه القصصي علي ضوء مراحله العمرية, رغم عدم توافر بيانات شخصية كاملة عنه, فهو لم يكتب سيرته الذاتية, وظل عازفا عن كشف تفاصيل حياته الخاصة.
فمتي تعرف إذن علي الموت لأول مرة ؟!
كان لقاءه الأول معه في1937 حين مات أبوه في الخامسة والستين من عمره, وكان هو في السادسة والعشرين, منشغل بمستقبله بعد أن تخرج من قسم الفلسفة بكلية الآداب عام1934, ويعد رسالته للماجستير حول التصوف في الفلسفة الإسلامية, ولعل استيعابه للفلسفة بما تنطوي عليه من قضايا الحياة والموت ساعده علي تجاوز تلك المحنة, وربما كانت التجربة حافزا له بعد ثماني سنوات لكتابة أول قصة له عن الموت, عام1945 وكانت بعنوان صوت من العالم الآخر التي ضمنها بعد ذلك مجموعة همس الجنون, وربما برز وعيه الفكري بتلك القضية من معالجته لها ببناء استطرادي, مطول, حاول أن يواجه به ظاهرة الموت برؤي فلسفية جاهزة, وربما فطن محفوظ لاحقا إلي أوجه القصور في تلك القصة, فدفعه ذلك ضمن عوامل أخري للتوقف عن كتابة القصة لأكثر من خمس عشرة سنة, وعلل ذلك بقوله: أول قصص كتبتها لم يكن الدافع إليها فنيا, ولكن عجزي عن نشر الرواية جعلني أتسلي بكتابة القصة القصيرة( نجيب محفوظ: حياته وأدبه: نبيل فرج ص37), ولم يرجع إليها إلا في مجموعته الثانية دنيا الله(1962) التي تضمنت خمس قصص عن( الموت) وقال عنها: دنيا الله تضم أول قصص كتبتها في حياتي برغبة في كتابة القصة القصيرة. كثير منها عن الموت, الحقيقة أنني لم أنتصر علي فكرة الموت إلا بعد أن كتبت عنه, لا شيء يحررك من حاجة معينة إلا الكتابة( نجيب محفوظ يتذكر: جمال الغيطاني ص193). ولا يدهشنا تناقص إنتاجه في السنوات العشر التالية التي كتب خلالها أربع قصص فقط عن الموت, وأصبح الموت جزءا أساسيا من عالمه الداخلي, حتي جاءت السبعينات بحدثين مهمين في حياته. الأول موت أمه, التي أحبها حبا يفوق الوصف, وكانت عنصرا جوهريا ساعد علي تنمية خياله بما كانت ترويه له حكايات, والحدث الثاني المؤثر هو بلوغه الستين عام1972, وإحالته إلي التقاعد من الوظيفة, فإذا به يكتشف ما طرأ علي علاقاته الخاصة من تطورات بالمرض أو العجز أو الشيخوخة أو الموت, وإذا بنظرته تتسع وتمتد إلي الإمساك برؤي كلية لمصائر البشر خلال رحلة الحياة والموت, فكتب ترجمة موضوعية روائية للعصر والزمن الذي عاشه من خلال الشخصيات التي عرفها أو مرت بحياته في رواية المرايا(1972).
وفي مواجهة متغيرات عالم جديد, يجتاح الفنان حنين طاغ إلي مرحلة طفولته, إلي عالمه الذي عركه وعاشه حتي النخاع, لأنه منشأه الأول و فردوسه المفقود الذي يؤوب إليه إذا أعيته السبل واجتاحه خوف من الموت. وربما يبرر هذا عودته ثانية إلي عالمه الأول, الحارة التي بدأ منها, فكتب حكايات حارتنا(1975), حيث جاس في عالم طفولته, وواجه الموت ثانية, فكتب خمس حكايات عنه من زوايا مختلفة. وسيطر شبح الموت في السنوات التالية علي إحساسه وفكره. فانقضاء عام يقربه أكثر من نهاية الرحلة, ويجعل الموت يطرق أبواب عالمه بإلحاح.
وعليه يمكن فهم تزايد قصصه عن الموت في مجموعاته الخمس التالية بدءا من قصتين في مجموعة الحب فوق هضبة الهرم(1979), وثلاث في مجموعة الشيطان يعظ التي صدرت في العام نفسه, وفي مجموعة رأيت فيما يري النائم(1982) ثلاث قصص, أي أن الموت بات رافدا أساسيا في عالمه الفني, وارتفع العدد إلي أربع قصص عن الموت في مجموعة التنظيم السري(1984), ليبلغ مداه في مجموعة الفجر الكاذب(1989) التي تضمنت ست قصص عن الموت, فالفنان إنسان يسعي لفض غموض الظواهر, وتفحصها في بوتقة فنه لبلورة الحقائق والرؤي, فيكسب وعيا معرفيا جديدا, يمكنه من استبصار الواقع بصورة أعمق وأعم, واستيعاب قوانين الحياة والموت, بنظرة مختلفة عن الإنسان العادي, ينقلها عبر كتاباته إلي الآخرين!
وتكونت مراحل رحلة الموت في(32 قصة): الأولي التعرف علي الموت(5 قصص), والثانية هل يستطيع بشر؟!(7 قصص), والثالثة محاولة حل اللغز(4 قصص), والمرحلة الرابعة علي طريق الفهم(4 قصص), والمرحلة الخامسة تجسيد رسول الموت(5 قصص), المرحلة السادسة اقتحام العالم الآخر( قصتان), والمرحلة السابعة التقبل الكامل(5 قصص). وبلور محفوظ في عدد من القصص رؤية أو فلسفة متكاملة للحياة والموت, وقصة الهمس من مجموعة الفجر الكاذب(1989) تندرج في مرحلة التقبل الكامل وتغوص بأعماق الحياة( الخاصة) كاشفة أهم العناصر الفاعلة, مثل توزع الإنسان بين إغراء هي( رمز الدنيا الأثير لدي نجيب محفوظ) وبين همس وتعاليم هو( الإله أو الضمير وهو يهمس للإنسان بتعاليمه). ومفتتح القصة دال: يخطر لي أحيانا أن الراحة الحقيقية لا توجد إلا بزوالهما معا, هو وهي. ولكنه مجرد خاطر يعبر القلب إذا اشتد العنت وأذلهم الخطب. خاطر لا وزن له في الواقع, حلم يقظة أخرق. وهل تصبح الحياة حياة إلا من خلال التعامل معهما معا؟ وهل يمكن تخيل الوجود بدونهما؟ أما حيرة التردد بينهما فهي قدره الذي لا مفر منه.
وهو يرمز للإله أو الضمير, والشواهد متناثرة علي مدار القصة: ولكنه قوي, والمالك الأوحد للبيت وأدوات اللعب وكل شيء, لا تخفي عليه خافية, بدا أنه رغم صمته الظاهر لم يكف عن الاهتمام بأمري, علمتني التجربة إن الاستهانة به غير محمودة العواقب, ولم أنس ما سمعت عن غضبه إذا غضب أو عقوبته إذا عاقب. وهنا يجعل محفوظ الرمز بسيطا وشفافا, بهدف كشف حيرة الإنسان بين الدنيا والدين, عبر مراحل حياته حين: تردد همسه بالمحاذير والدعوة إلي الاعتدال إزاء بسماتها المغرية, فاذا بالنفس/ الدنيا الانسان تتحدي محاذيره, وتغريه بتجاهله أو تشكك في جديته, فيعود همسه منبها البنت ماكرة بقدر ما هي لطيفة, أنا أعرفها كما أعرفك, اسمع كلامي أنا, ولست أمانع في لعبك معها, ألعب معها ما شئت ولكن عليك بالاعتدال والنظافة, وتذكر أنها تلعب مع آخرين أيضا فعاملها بالمثل, ولا تجعل منها كل شيء لأنك لست لها كل شيء, أني أعرف أكثر منك فاسمع كلامي.., فالإنسان منذ طفولته يرفض القيود وينزع إلي التحرر, والنهل من عالم اللهو والعبث ؟! لكن الدين والأخلاق والتقاليد المتوارثة تشكل كوابح وضوابط تحد من انحرافه, وتتركه نهبا للصراع! ويضيف محفوظ: الرجل الحقيقي يجب أن يعرف السماوات والأرض, ليست الحياة لعبا, انظر إلي النملة! هل يرضيك أن تكون أدني مرتبة منها؟!.
وتمضي أيام الطفولة, ويمر الزمن, وتصبح الأحداث مجرد ذكريات, يستعيدها الإنسان فإذا هي أيام مزقها العذاب وإن بدت اليوم آية في الجمال بسحر الزمن, وتأتي مرحلة البلوغ, فإذا صوته يتغير, فإذا بهمس حازم في أذنه الآن حرم اللعب, وراح هو يحذرني من الأخطاء, ويخاطب في الرجل الناشئ. تمنيت ولو فراقا مؤقتا ولكنه احتقر رغبتي وقال لي: الحياة اقتحام وحذر ولا مجال فيها للهروب... ثم حلت مرحلة الشباب: كنت كلما ظفرت معه بخلوة أمحي وجوده تماما, غير أنها اعتصمت بحد لا تتعداه, حتي خيل إلي أن همسه قد انسرب إليها, فانفجر غضبي عليه فسخرت منه في كل مكان واعتبرت نفسي ندا له وأقوي. ولما تيقنت من موقفي الجديد خافتني وهربت مني ولعل ذلك بوحيه وتأثيره, وهالتني وحدتي وتخبطت في الفراغ. جبروت الشباب يجعل الشاب يغتر بقوته حتي يكاد يكفر بكل شيء, فإن فعل لا يحصد إلا الوحدة والضياع. ورغم ذلك يظل هو مهتما بأمره, رغم صمته الظاهر, فتفتح له الدنيا ذراعيها, حين يستقر في وظيفة ويكون أسرة, فيمارس السيادة في مملكته الصغيرة, حتي إذا إنزلقت قدمه من جديد في طريق الخطأ, فإذا هو يذكره, ويعيد تعاليمه القديمة, عندئذ يخالط سلوك الرجل شيء من الحذر. وحين يأتي خريف العمر تعود إليه الوحدة ومعها أثقال العمر: ولكنني لم أستسلم للأسي. وطنت نفسي علي تقبل قوانين الأشياء, وناجيت في وحدتي الرضا والسلام, وإذا بي أتذكره فجأة بعد طول نسيان, وهيهات أن أنسي نواياه الطيبة ورحمته.
إستعداد نفسي للمرحلة الأخيرة, انتظار الموت. إن رحلة الحياة وتوزع الإنسان بين الدنيا والدين, تحسم تردد البشر, وتحض علي التمسك بالإيمان وما يتطلبه من رضا وقبول, عندها يرحب الإنسان بالانتقال, لأنه أثمن في النهاية من أثاث بيتي وتحفه وما جمعت من مال وبنين لذلك يمضي مرحبا سيسعد برجوعي إليه مثل سعادتي وربما أكثر, سأمثل بين يديه باسما وأقول هامسا ها أنا قد رجعت, مدفوعا بالشوق وحده, فاقض بما أنت قاض. إنظر هنا لمردود الهمس في ختام رحلة البشر, فإذا كان الله يهمس للبشر مبصرا طوال رحلتهم, فإنهم في النهاية يستعيدون الهمس إيمانا واقتناعا واحتسابا!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.