جامعة عين شمس فى حالة طوارئ بسبب الامتحانات    أسباب خلو اسم مصر من «القائمة السوداء» لمنظمة العمل الدولية    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    البورصة المصرية تختتم تعاملات الأحد بأرباح 87 مليار جنيه    «النواب» يستكمل مناقشة مشروع قانون مشاركة القطاع بالمنظومة الصحية غدا    رئيس الرقابة المالية: الانتهاء من المتطلبات التشريعية لإصدار قانون التأمين الموحد    إيلون ماسك يستعد لإطلاق لخدمة الإنترنت «ستارلينك» في إندونيسيا    انتشار أمني ببوابات ستاد القاهرة لاستقبال جماهير الزمالك    مديرتعليم الجيزة يتابع سير امتحانات الشهادة الإعدادية في يومها الثاني    مصرع شاب غرقا خلال السباحة فى ترعة بمنطقة البياضية شرق الأقصر    مصطفى قمر يشعل حفل زفاف ابنة سامح يسري.. صور    انتهاء تصوير فيلم «اللعب مع العيال».. والعرض في عيد الأضحى    فرقة قنا القومية تقدم العرض المسرحي المريد ضمن عروض الموسم المسرحي في جنوب الصعيد    طلاب مدرسة التربية الفكرية بالشرقية في زيارة لمتحف تل بسطا    «الإفتاء» توضح حكم حج وعمرة من يساعد غيره في أداء المناسك بالكرسي المتحرك    «الصحة»: المواطن لن يتحمل أي أعباء حال انتقال القطاع الخاص لإدارة الخدمات الصحية    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية مجانا في قرية أبو سيدهم بمركز سمالوط    أسرة طالبة دهس سباق الجرارات بالمنوفية: أبوها "شقيان ومتغرب علشانها"    مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية يوضح أنواع صدقة التطوع    "علشان متبقاش بطيخة قرعة".. عوض تاج الدين يكشف أهمية الفحوصات النفسية قبل الزواج    خالد عباس: إنشاء وإدارة مرافق العاصمة الإدارية عبر شراكات واستثمارات عالمية    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    إعلام إسرائيلي: اغتيال عزمى أبو دقة أحد عناصر حماس خلال عملية عسكرية في غزة    مصادر أوكرانية: مقتل 4 وإصابة 8 في هجوم جوي روسي على خاركيف    «متحدث الصحة»: 5 نصائح هامة للحماية من مضاعفات موجة الطقس الحار (تفاصيل)    مصر والصين تبحثان التعاون في توطين صناعة النقل    وزيرة الهجرة: مصر أول دولة في العالم تطلق استراتيجية لتمكين المرأة    إيرادات فيلم السرب تتخطى 30 مليون جنيه و«شقو» يقترب من ال71 مليون جنيه    رئيس الأغلبية البرلمانية يعلن موافقته على قانون المنشآت الصحية    الجوازات والهجرة تواصل تسهيل خدماتها للمواطنين    10 نصائح للطلاب تساعدهم على تحصيل العلم واستثمار الوقت    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    مساعدون لبايدن يقللون من تأثير احتجاجات الجامعات على الانتخابات    وزارة الإسكان تخطط لإنشاء شركة بالشراكة مع القطاع الخاص لتنشيط الإيجارات    3 وزراء يشاركون فى مراجعة منتصف المدة لمشروع إدارة تلوث الهواء وتغير المناخ    متى تبدأ العشر الأوائل من ذي الحجة 1445 وما الأعمال المستحبة بها؟    أكبر مدن أمريكا تفتقد إلى الأمان .. 264 ألف قضية و4 آلاف اعتداء جسدى ضد النساء    مصدر من نادي إينتراخت فرانكفورت يكشف ل في الجول مصير عملية مرموش الجراحية    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    المصرين الأحرار عن غزة: الأطراف المتصارعة جميعها خاسرة ولن يخرج منها فائز في هذه الحرب    توقعات الأبراج 2024.. «الثور والجوزاء والسرطان» فرص لتكوين العلاقات العاطفية الناجحة    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    سعر السكر اليوم.. الكيلو ب12.60 جنيه في «التموين»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    جبالى يحيل 10 مشروعات قانون للجان النوعية بالبرلمان    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    منها «تناول الفلفل الحار والبطيخ».. نصائح لمواجهة ارتفاع درجات الحرارة    تعليم الفيوم يحصد 5 مراكز متقدمة على مستوى الجمهورية فى المسابقة الثقافية    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    بعثة الأهلي تغادر تونس في رحلة العودة للقاهرة بعد التعادل مع الترجي    تعليق غريب من مدرب الأهلي السابق بعد التعادل مع الترجي التونسي    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    فرص الأهلي للتتويج بدوري أبطال أفريقيا بعد التعادل أمام الترجي    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثرثرة فوق النيل
.. نكسة الحكيم إبداع

ونتواصل مع نجيب محفوظ.. وهو المبدع الذي عندما تقرأه يتملكك احساس وكأن الرجل مهندس معماري بارع, ومصمم عبقري يرسم أفكاره وشخصياته بعناية فائقة, وحسابات دقيقة, ووعي طاغ,
لتخرج كلماته بفاعلية شديدة, حاوية في طياتها مآثر ظاهرة وباطنة في بناء جميل وكأنه قصر مشيد, لبناته وأحجاره وملاطته كلمات ليست كالكلمات أدبا وفنا- فهي راقية تأتي من تفاعل داخل نفس تعي العلم والمعرفة والفلسفة والتاريخ والمكان والزمان وتلم بميكروسكوبية الحياة وتفاصيلها من خلال معايشتها في وطنه بكل نفس من الأنفاس.
لا عجب ولا غرابة في ذلك فهو نتاج طبيعي لعصر كانت فيه الدنيا تشكل بعنف في مراحل حياته المختلفة,ولأنه دخل حديقة الأدب من باب الحكمة, ولأنه مشي في مسارات مكنته من فعل ذلك ولأنه عاش حياته كلها كما ينبغي كما قال هو نفسه في كثير من أحاديثه. كانت مصر في طفولته وشبابه تعج بأحداث جسام وكانت تحت الاحتلال وكانت مركز نهضة شاملة تشع علي الوطن العربي كله وكذلك الاسلامي.
لمحفوظ رائعتان فيما يخص نكسة يونيو.1967 الأولي رواية ثرثرة فوق النيل المنشورة عام1966, والتي أشار فيها بوضوح ورمزية الي أن شيئا خطيرا قد حدث في نسيج المجتمع وأوصله لمراحل العبث مما ينذر بحدوث مصيبة كبيرة, والثانية قصة قصيرة كتبها عقب حدوث النكسة بشهور معبرا فيها عن حزنه الشديد ومأساة الوطن كله وفجيعته المرعبة والمهينة والتي ما كان لها أن تحدث لو كان هناك جدية حقة وبعد عن الشعارات كما ينبغي. عقب هذين العملين الرائعين, استمر صدي النكسة في كتابات محفوظ وكأنه يلفت أنظار الجميع الي ضرورة التخلص من الاهمال والبعد عن العبث والالتزام بالجدية والأخذ دائما بالعلم لأنه هو الوحيد الذي يصنع الحضارة والتقدم. يقول في روايته قلب الليل: أعجبني بصفة خاصة المنهج العلمي الذي يتحقق به أكبر قدر من الدقة والموضوعية والنزاهة, هل نستطيع أن نفكر بنفس الأسلوب في سائر شئون الحياة لنعرف المجتمع والوطن والدين والسياسة بنفس الدقة والنزاهة. ويقول أيضا في روايته المرايا: لا منقذ لنا سوي العلم, لا الوطنية ولا الاشتراكية, العلم والعلم وحده, وهو يواجه المشكلات الحقيقية الني تعترض مسيرة الانسانية, أما الوطنية والاشتراكية والرأسمالية فتخلق كل يوم مشكلات نابعة من أنانيتها وضيق نظرها وتبتكر له من الحلول ما يضاعف في النهاية من حصيلة المشكلات الحقيقية.
إذن نحن أمام عبقري مصلح حكيم من فرط حكمته وشفافيته وعلمه يتنبأ بمصيبة قادمة. نحن أمام انسان مدرك لمشاكل الوطن ادراكا ميكروسكوبيا وفي نفس الوقت يكتب مثل الطبيب الجراح المختص روشتة العلاج الناجع الذي لا بد منه مهما كانت مرارته. وفي كلا العملين كان محفوظا طبيبا مشخصا لوطن يشغل باله أربع وعشرين ساعة سبعة أيام في الأسبوع.
كان راصدا لما يحدث قبل النكسة وكان يري كثيرا من العبث المهلك فكتب ثرثرة فوق النيل عام1966 وكان فيها بحق محفوظ قلب الأسد, غير خائف من أي مصير. كانت الحكم والرموز تخرج برمزية من السكاري وهم يعبثون علي النيل في العوامة. كانت العوامة وكأنها ترمز لحال مصر حينها: ياأولاد الأقدمية المطلقة!!! في انتظار حلم لن يتحقق, تحترفون البهلوانية..... لم يكن عجيبا أن يعبد المصريون فرعون ولكن العجيب أن فرعون آمن حقا أنه اله, لم يعد هناك من نكات منذ أن أصبحت حياتنا نكتة سمجة. ثم يستطرد في أساس ما قصده من روايته لتشخيص حالة العبث التي حلت علي الوطن فيقول: العبث هو فقدان المعني, معني أي شيء. انهيار الايمان, الايمان بأي شيء. والسير في الحياه بدافع من الضرورة وحدها ودون اقتناع وبلا أمل حقيقي. وينعكس ذلك علي الشخصية في صورة انحلال وسلبية وتمسي البطولة خرافة وسخرية ويستوي الخير والشر ويقدم أحدهما- اذا قدم- بدافع من الأنانيةأو الجبن أو الانتهازية وتموت القيم جميعا وتنتهي الحضارة. ثم يعرج بعد ذلك الي الجدية فيسهب في تشخيصها: أما الجدية فتعني الايمان, ولكن الايمان بماذا؟. ولا يكفي أن نعرف ما يجب أن نؤمن به ولكن من الضروري أن يكون لايماننا صدق الايمان الديني الحق وقدرته المذهلة علي خلق البطولات والا كان نوعا جادا من العبث. وحتما أن يعبر عن ذلك كله من خلال الموقف والحدث, سواء أكان الايمان بالانسان أم العلم أم بالاثنين معا.
ولكي أبسط المسألة أقول: أن الانسان واجه قديما قديما العبث وخرج منه بالدين, وهو يواجهه اليوم فكيف يخرج منه؟. لا فائدة ترجي من مخاطبة انسان بغير اللغة التي يتعامل بها. وقد اكتسبنا لغة جديدة هي العلم ولا سبيل الي تأكيد الحقائق الصغري والكبري معا الا بها, وهي حقائق بلورها الدين بلغة الانسان القديمة, والمطلوب أن تؤكد بنفس القوة ولكن بلغته الجديدة. وليكن لنا في العلماء أسوة ومنهجا. يبدو أنهم لا يقعون في العبث أبدا.. لماذا؟. ربما لأنهم لا وقت لديهم لذلك. وريما لأنهم علي صلة دائمة بالحقيقة معتمدين علي منهج موفق قد أثبت جدارته, فلا يتأتي لهم الشك فيها أو اليأس منها. وقد ينفق أحدهم عشرين عاما لحل معادلة, وستجد المعادلة عناية متجددة وتلتهم أعمارا جديدة ثم تفضي الي خطوات راسخة في سبيل الحقيقة, فهم يعيشون في مناخ معبق بالتقدم والنصر, ولا يعني لهم مثل هذا السؤال( من أين والي أين وما معني حياتنا) أي مغزي, ولا يوصي بأي عبث, والعلم الحقيقي يفرض أخلاقيات في عصر تدهور الأخلاق, فهو مثال في حب الحقيقة والنزاهة في الحكم والرهبانية في العمل والتعاون في البحث والاستعداد التلقائي للنظرة الانسانية الشاملة.ثم يستطرد واصفا برمزية قاسية العوامل التي تدور فكرة القصة بها: ليس كعوامتنا شيء: الحب لعبة بالية قديمة ولكنه رياضة في عوامتنا. الفسق رذيلة في المجالس والمعاهد ولكنه حرية في عوامتنا. والنساء تقاليد ووثائق في البيوت ولكنهن مراهقة وفتنة في عوامتنا. والقمر كوكب سيار خامد ولكنه شعر في عوامتنا والجنون مرض في أي مكان ولكنه فلسفة في عوامتنا والشيء شيء حيثما كان ولكنه لا شيء في عوامتنا.
فسر المسئولون حينها أنه كان يقصد مصر بالعوامة وأن كل ما يجري فيها حينها نوع من العبث والبعد عن الجدية.
لخص لنا محفوظ الأمر كله في سطرين في كتاب رجاء النقاش: نجيب محفوظ, صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته الذي نشره الأهرام عام1998 حيث يقول محفوظ الكارثةالقومية التي نبهت اليها في ثرثرة فوق النيل وميرامار, تنتقد الديكتاتورية والاتحاد الاشتراكي, ردي علي الذين اتهموني بنفاق الحكام. ويقول أيضا: في ثرثرة فوق النيل نبهت ان كارثة قومية, كانت قد بدأت تطل برأسها علي السطح, وكان لا بد أن يكون لها نتائجها الخطيرة. كنت أعني محنة الضياع وعدم الاحساس بالانتماء التي يعاني منها الناس. خاصة في أوساط المثقفين, الذين انعزلوا عن المجتمع, وأصبحوا في شبه غيبوبة, الغيبوبة التي يعيشها أبطال رواية ثرثرة فوق النيل تمثل نوعا من الانتحار الذاتي وطريقا للخلاص من المشكلات التي يواجهونها.
يروي لنا الناقد الكبير رجاء النقاش رحمه الله في مقال له بالأهرام بتاريخ3 سبتمبر2006 بعنوان: نجيب محفوظ علي حد السيف فبقول: طاردت المتاعب محفوظ بسبب أدبه الرمزي في وقائع عديدة منها ثرثرة فوق النيل. صدق رجاء النقاش فها هو محفوظ نفسه يبلغنا بتفاصيل ما حدث عقب نشر ثرثرة فوق النيل فيقول: بعد نشر ثرثرة فوق النيل ثار عبد الحكيم عامر, وبلغني أنه هدد وتوعد بإنزال العقاب بي, بسبب النقد العنيف الذي ضمنته الرواية عن سلبيات قائمة في المجتمع, وسمعه البعض وهو يقول: نجيب زودها قوي ويجب تأديبه ووقفه عند حده. ويستطرد محفوظ ليبلغنا مزيدا من الأسرار عن المخاطر التي كادت أن تعصف به لنشره ثرثرة فوق النيل فيقول: وعندما جاء ثروت عكاشة لتهنئتي بجائزة نوبل حكي لي تفاصيل مادار في كواليس السلطة عن أزمة رواية ثرثرة فوق النيل, فقد كان وقتئذ وزيرا للثقافة, وبينما كان هو يستعد لرحلة عمل الي ايطاليا, استدعاه جمال عبد الناصر, وسأله عما اذا كان قد قرأ الرواية, ولما لم يكن قد قرأها, فقد طلب منه عبد الناصر قراءتها وابداء رأيه فيها بعد عودته من ايطاليا. قرأ الدكتور ثروت عكاشة الرواية في أثناء رحلته, وفي أول لقاء له مع الرئيس دافع عنها وفند اتهامات المهاجمين لها, وأكد للرئيس أنني أنبه الي أخطاء موجودة وليس لدي سوء نية في مهاجمة نظام الحكم, ثم قال له: إن من الضروري أن يتوافر للأدب قدر من الحرية, ليتقل صورة واقعية حقيقية عن المجتمع, واذا لم يجد الأدب هذا القدر من الحرية مات واضمحل تأثيره. واستطاع الدكتور ثروة عكاشة اقتاع عبد الناصر بأن حرية الأدب هي أفضل دعاية للنظام في الخارج, وبالفعل اقتنع عبد الناصر, وقال للدكتور ثروت عكاشة: اعتبر المسألة منتهية, وهكذا تراجع عبد الحكيم عامر عن تهديده بعقابي بعد تدخل عبد الناصر.
يستطرد محفوظ في توضيحه لنا تاريخا مهما فيقول: كانت السلطة في عهد عبد الناصر واثقة من حسن نواياي في كتاباتي, ومن أنني أقصد من انتقاداتي صالح الوطن لا الاثارة أو تأليب الجماهير وأظن أن عبد الناصر نفسه كان مدركا لهذه الحقيقة, بدليل أنه تدخل لصالحي بعد نشر رواية ثرثرة فوق النيل, ولم يترك الأمر لانفعال عبد الحكيم عامر.
بعد نكسة يونيو التي توقعها, كتب محفوظتحت المظلة وهي قصة قصيرة في احدي عشرة صفحة حوت آلامه وأوجاعه وأوجاع الأمة كلها ونشرت بعد النكسة ببضعة أشهر, شخص فيها حالات العبث واللامبالاه والغفلة الموجودة في المجتمع. كانت رمزيته فيها أكثر عنفا ووضوحا من ثرثرة فوق النيل, ضمنها كثيرا من الحكم علي لسان مجموعة من الناس يتحدثون بحرية تحت مظلة محطة أتوبيس, ينقدون ولا يفعلون أي شيء: للزمن بلسم يشفي كل شيء الا الموت وانه دواء واحد لا بديل له, وهو أن تسير اذا سرت علي يديك, وأن تسمع بعينيك, وأن تري بأذنيك, وأن تتذكر بعقلك, وأن تعقل بذاكرتك وكلام طيب ونية لئيمة وفعل غشوم وفي حالات اليأس يفزع القلب الي زمن الأساطير.
يجمل لنا محفوظ الأمر كله فيقول: أستطيع أن أقول وأنا مرتاح الضمير انني قلت كل ما أريد قوله في أعمالي الروائية, وعبرت عن كل آرائي خلال فترة حكم عبد الناصر, والرأي الذي لم أستطع التصريح به مجاهرة أوصلته للناس عن طريق الرمز. فمن مزايا الفن الكبري أن الفنان يمكنه أن ينقد ويعترض ويقول كل ما يريد قوله يشكل غير مباشر......,أزعم أن الفن ازدهر الي حد كبير في العهد الناصري, وجزء كبير من هذا الازدهار يرجع الي نظام الحكم نفسه لأنه سمح بهامش من الحرية.
تابعت التطورات التي تلت النكسة خاصة عرض القضية في مجلس الأمن, وتبين لي أن المسألة أكير من اسرائيل, وأن الصراع ليس مجرد حرب بين دولتين تنتهي بانتصار احداهماوهزيمة الأخري, اكتشفت أنها لعبة توازنات دولية, وأن الدول الكبري التي ساهمت في زرع اسرائيل في المنطقة شعرت بخطورة عبد الناصر فأرادت أن تقص ريشه. ومن خلال التأمل توصلت الي عدة اقتناعات: من يريد أن يذبح اسرائيل عليه أن يذبح أولا أمريكا والدول الغربية التي تساندها كما أن تلك الدول كلما شعرت بقوة مصر تتزايد وبأن هذه القوة تشكل خطرا علي أمن اسرائيل, فانها تسارع بالتدخل, سواء بشكل مباشر أو من وراء ستار, وقد حدث ذلك في حروب48 و56 و.1967
- أن الحرب هي الحرب في كل الدنيا, ونتيجتها اما مهزوم أو منتصر, وأن الهزيمة ليست نهاية الدنيا, وعلي المهزوم أن يعيد خلق نفسه من جديد
- أن الهزيمة لم تكن عسكرية بقدر ما كانت هزيمة من الداخل.
صدق محفوظ, نعم كانت نكسة67 أسوأ ما تعرضت له مصر في تاريخها وأنها ما زالت تدفع فواتيرها وما ترتب عليها من عبث وتراخ ولكن المتأمل لكلمات نجيب محفوظ لا بد أن يدرك أنها مجرد جولة في صراع أبدي طويل وليس نهاية الدنيا وأنه يتعين علي مصر أن لا تلتفت للوراء وأن تنظر للمستقبل وأن الدرس كان مفيدا وقاسيا وأنه لا بد من نبذ العبث. أحد أهم ايجابيات67 هو اعادة بناء الجيش المصري ليكون من أحدث الجيوش وأقواها في العالم والذي انتقم لمصر في حرب73 بعكس كل توقعات الجميع بقلبه الموازين واعادة شرف مصر. نعم مازالت اللامبالاة وصفات سلبية أخري كثيرة يجب التخلص منها لتنهض نصر وتتبوأ مكانها المرموق واللائق بها.. رحم الله نجيب محفوظ رحمة واسعة.
مصطفي جودة
الجامعة البريطانية في مصر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.